قراءة تحليلية لنص “فشل ولكن ليس إلى الأبد” لـ”أحمد سيف حاشد”

برلماني يمني
قراءة نقدية في سيرة أحمد سيف حاشد من خلال نص (فشل ولكن ليس للأبد)،والمنشور في كتابه “فضاء لا يتسع لطائر”باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي.
مدخل
نص”فشل، ولكن ليس إلى الأبد” مشبع بصدقٍ إنساني نادر، فهو لا يتبرأ من فشله ولا يزيّف تاريخه، بل يواجه ذاته بشجاعة الاعتراف.
اللغة عند أحمد سيف حاشد نقية، دافئة، متينة من دون تزويقٍ مبالغ فيه. فهي ليست أداةً للتعبير فقط، بل فضاءٌ شعوري ينساب بين الاعتراف والتأمل. وفيها أيضًا نبرة شعرية في نثرٍ عقلاني، تمنح النص توازنًا نادرًا بين الفكر والعاطفة.
نصّه يعبر عن شجاعة المثقف الذي يحوّل انكساراته إلى دروسٍ في المقاومة.
وفي النص يمتزج الأدب بالفكر، والسياسة بالحلم، واليأس بالأمل، في توليفةٍ نادرة من النقاء الإنساني والعمق المعرفي.
ليس الفشل في نصّ حاشد نهاية الطريق، بل بداية الوعي به.إنه نصّ لا يكتفي بسرد الفشل، بل يعيد صياغته بوصفه قيمةً من قيم الوعي والإبداع.
والفشل عند حاشد ليس سقوطًا، بل إحدى محطات التحوّل في مسار الإنسان نحو اكتشاف جوهره.
في النص يتحول الاعتراف إلى شجاعة، والخيبة إلى معرفة، وتغدو الكتابة وسيلة لترميم الذات في وجه الخسارات المتكررة.
ينتمي نص حاشد «فشل ولكن ليس للأبد» إلى تراثٍ إنساني واسع من الكتابات التي جعلت من الفشل نقطة انطلاقٍ نحو الخلود، ومن الانكسار مدخلًا إلى النور.
تحليل النص
يقدّم أحمد سيف حاشد نصّه في صيغة سيرةٍ ذاتية تأملية تمزج بين الاعتراف والبحث عن المعنى.
فكل انكسارٍ يتحول إلى حافزٍ جديد، وكل خيبةٍ تُعاد صياغتها لتصبح درسًا في الصبر والإصرار.
نقرأ في النص فشلًا في القصة، ثم إصرارًا على إعادة كتابتها عبر تفاصيل الحياة. فشلًا في الشعر يتحول إلى نثرٍ نابضٍ بالشاعرية، وفشلًا في الحب لا يُطفئ الحنين.
النصّ هنا ليس مجرد سيرةٍ ذاتية، بل تأملٌ فلسفي في معنى الفشل والنجاح.
يستحضر الكاتب رموزًا عالمية مثل باولو كويلو وترومان كابوتي ليؤكد أن الفشل هو الذي يمنح النجاح نكهته.
كما تتجاور في النص التجربة الشخصية مع الهمّ الجمعي، حيث تتحول سيرة الفرد إلى مرآةٍ لأوجاع الشعب اليمني وأحلامه.
لغة النص تمتاز بالدفء والصدق والصفاء، فهي نثرية ذات إيقاعٍ داخلي قريب من الشعر.
يقول الكاتب:
«أستعيد نفسي وأنفاسي، وأحاول أن أصبر بجلدٍ ومغالبة، ثم أعاود مسعاي لتحقيق حلمي مرة وثانية…»
يجعل من التكرار إيقاعًا موسيقيًا يوحي بالمثابرة والإصرار. ويبرز في النص البعد الأخلاقي الواضح، حيث يصر حاشد على أن النجاح لا يكون حقيقيًا إلا إذا ظل نزيهًا، كما في قوله:
«الأهم أنني لم أقايض صعودي بأي سقوط»،
وهي عبارة تختصر فلسفة الكاتب في الحياة والسياسة والأخلاق.
من الناحية البنائية، يمتد النص أحيانًا على نحوٍ خطي طويل، وتتداخل فيه الأزمنة دون فواصل واضحة، مما يضعف الإيقاع السردي قليلًا، لكن هذا الامتداد يقابله صدقٌ إنساني وثراءٌ تأملي يمنح النص قيمته الأدبية والروحية.
والنص قريب من تجارب أدباء السير الفكرية مثل طه حسين في الأيام، وجلال عامر في مقالاته الساخرة العميقة، وباولو كويلو في الخيميائي، إذ جعلوا من التجربة الشخصية مادةً لتأملٍ إنساني واسع.
بنية النص ومسار التكوين
يتشكل النص في بنيةٍ دائرية تبدأ من لحظة الانكسار وتنتهي إلى لحظة النهوض، دون أن تنغلق على نهايةٍ حاسمة.
وفي كل مقطع من مقاطع السرد، ينهض الكاتب من تحت ركام فشلٍ ما:
• فشل في القصة
• فشل في الشعر
• فشل في الحب
• فشل في الصحافة
لكن هذه السلسلة من الإخفاقات لا تمثل انحدارًا، بل مدارج صعودٍ نحو الوعي.إنها منازل لتجربة إنسانٍ يرى في السقوط تمرينًا على الطيران. فكل فشلٍ عنده يتضمن بذرة محاولة جديدة، وكل محاولة هي ولادة رمزية لذاتٍ لا تستسلم.
الفشل بوصفه قيمة وجودية
لا يُعالج الكاتب الفشل بمرارة، بل بعمق الفيلسوف الذي يكتشف المعنى في الخسارة.
يقول:
«ما مررتُ به من إخفاقاتٍ وفشل إنما هو ما أعطى للنجاح قيمته الفذّة ومعناه الحقيقي».
هذه الجملة تلخص فلسفة التحوّل التي تحكم النص كله:
الفشل ليس نقيض النجاح، بل شرطه الخفيّ، وبدونه لا يكتمل الوعي ولا تتجلى النعمة.
إنها نظرة تشبه ما قاله ترومان كابوتي عن الفشل بوصفه «البهار الذي يمنح النجاح نكهته المميزة».
وهذا ما يؤكده حاشد حين يجعل من الوعي بالهشاشة مصدرًا للصلابة.
السيرة الذاتية بوصفها نصًا للبحث عن الذات
يكتب حاشد سيرته كمن يعيد ترتيب ذاكرته في هيئة قصةٍ كبرى. لا يقدم ذاته بوصفها بطلاً منتصرًا، بل ككائنٍ يتعلم من العثرة ويكتب من الهشاشة.
تتحول الحياة هنا إلى نصٍّ مفتوح يُعاد تأليفه عبر الكتابة:
«فشلت في كتابة القصة، ولكني أعاود كتابتها اليوم في تفاصيل قصة حياتي».
وبهذا الاعتراف البديع، تتداخل الكتابة بالحياة،
ويصبح السرد امتدادًا للوجود ووسيلة لإعادة ولادة الذات من داخل الألم.
الحلم كقوة مقاومة
يتجلى الحلم في النص كطاقةٍ روحيةٍ مضادةٍ للانطفاء.
يستحضر الكاتب مقولة باولو كويلو:
«لا يستطيع الإنسان أن يتوقف أبدًا عن الحلم، والفشل من وقتٍ إلى آخر طبيعي، ولكن الشيء الوحيد الذي لا يستطيع فعله المرء هو نسيان ذلك».
هنا يتخذ الحلم صفة القدر الجميل، لا كأمنيةٍ عابرة، بل كمبدأ وجود.
اللغة والإيقاع والصورة
لغة النص مزيجٌ بين النثر التأملي والشعر المضمَر.
فيها من الإيقاع الداخلي ما يجعلها أقرب إلى المونولوج الفلسفي، ومن العاطفة ما يجعلها اعترافًا وجدانيًّا يشفّ عن صدق التجربة.
يتكرر التركيب الإيقاعي «فشلت في… ولكن…» ليؤسس لإيقاعٍ صاعدٍ ضد الانكسار.
أما الصور البلاغية فتمنح النص روحًا مجازية متدفقة:
• «ينام حلمي من الإعياء ثم يستيقظ ويثب في أول فرصة.»
• «أفتش في الصحف كمن يبحث عن نفسه.»
وهذه الصور تكشف عن رؤية شاعرٍ يكتب بوعي المفكر، ومفكرٍ يحلم بخيال الشاعر.
البعد الفلسفي والإنساني
ينطوي النص على نزعةٍ وجوديةٍ إيجابية ترى الإنسان صانعًا لمصيره رغم القهر والخذلان.
هو نصٌّ ضد العبث، وضد التسليم، وضد الموت المعنوي. فالكاتب لا يكتب ليخلّد ذاته فقط، بل ليخلّد إرادة الإنسان في المعنى.
حين يقول:
«حتى على فرضية عدم الوصول، يكفيني شرف المحاولة»،
فهو يضع جوهر فلسفته في أن المحاولة بذاتها نوعٌ من الانتصار.
البعد السياسي والاجتماعي
خلف نبرة السرد الشخصية يتسرّب وجع الجماعة اليمنية وصراعها مع القهر.
الفشل هنا لا يُختزل في التجربة الفردية، بل يمتد إلى تجربة وطنٍ مأزومٍ بالحروب والخذلان.
لكن الكاتب، وهو البرلماني والمناضل الحقوقي، لا يستسلم لهذا القدر؛ بل يجعل من نصّه مساحة مقاومة رمزية توازي فعله السياسي في الواقع.
والفشل الجماعي يصبح عند حاشد دعوةً إلى اليقظة، لا إلى اليأس.
بين الاعتراف والسمو
يحقق النص معادلةً نادرة: الاعتراف دون انكسار، والسمو دون ادعاء. فالكاتب يعرّي ذاته لا ليُشفق عليها، بل ليجعل منها مرآةً للإنسان في عموميته.
كل فشلٍ يرويه هو في الحقيقة جزءٌ من أسطورة الكفاح الإنساني ضد العدم، ولهذا يختم بقوله:
«حلمي أن أكمل كتابة قصتي للناس، وهي قصتهم في أول المقام لأنني واحدٌ منهم».
وهكذا يتحول الخاص إلى عام، والذات إلى جماعة، والفرد إلى شاهدٍ على زمنٍ جريح.
***
مقاربات
من الانكسار إلى النهوض
يشترك أحمد سيف حاشد مع طه حسين في الانطلاق من العجز نحو القدرة.
قال طه حسين:
«فقدت بصري، ولكنني لم أفقد بصيرتي».
وقال حاشد:
«فشلت في كتابة القصة، ولكني أعاود كتابتها اليوم في تفاصيل قصة حياتي».
كلاهما حوّل النقص إلى وعي، والألم إلى طاقة خلاقة، غير أن طه حسين انتصر بالعقل والتعليم،
بينما انتصر حاشد بالإصرار والكرامة والموقف الأخلاقي.
الذات والقدر بين جبران وحاشد
كلاهما لا يندب الخسارة، بل يُؤنسنها، ويجعل منها علامة على النضج والسموّ. لكن حاشد أكثر التصاقًا بتراب الواقع، بنضاله اليومي وكتابته الحارّة، بينما جبران يسبح في الرمزي والوجداني والميتافيزيقي.
إنه الفرق بين الروح التي تحلّق، والروح التي تصمد.
الوعي بالزمن بين نعيمة وحاشد
قال ميخائيل نعيمة في سبعون:
«ما الفشل إلا تجربة ناقصة».
وقال حاشد:
«الفشل ليس إلى الأبد».
كلاهما يرى الزمن رحلة نحو اكتمال الوعي، لا محكمة للعقاب، غير أن نعيمة يتأمل الزمن كدائرة كونية، وحاشد يعيشه كحلبة نضال تتجدد فيها الإرادة كل صباح.
الاعتراف والحرية
كتب جان جاك روسو:
«ها أنا ذا أقدّم إلى الناس إنساناً في حقيقته».
وكتب حاشد:
«كنت أفتش في الصحف كمن يبحث عن نفسه».
الاعتراف عند كليهما شكل من أشكال التحرر،
لكن روسو يتمرّد فلسفيًا على مجتمعه،
أما حاشد فيتمرّد أخلاقيًا وسياسيًا على واقع يمني مثقل بالوجع،
فيحوّل سيرته إلى وثيقة حرية في وجه القهر.
الحلم كقدر شخصي
يستحضر حاشد شخصية سنتياغو من الخيميائي قائلاً:
«إنني أبحث عن تحقيق أسطورتي مهما كانت المعوقات».
في رواية كويلو، الحلم كنزٌ روحي، أما عند حاشد فهو كرامة تُنتزع من بين الركام.
سنتياغو يغادر ليجد نفسه، وحاشد يبقى ليصنع نفسه من جديد.
البنية الجمالية والوعي الأسلوبي
كما في أصداء السيرة الذاتية لنجيب محفوظ، يكتب حاشد من ضمير الحكيم الذي تأمّل الحياة بعد معايشتها. لكن محفوظ يكتفي بالإيماء الرمزي،
فيما يفيض حاشد بسردٍ تأمليّ صادق، يمتزج فيه الاعتراف بالصفاء الإنساني الهادئ، ذلك الصدق الذي لا يحتاج إلى بطولة ليُصدّق.
من الفرد إلى الجماعة
لا يكتب حاشد ذاته لتمجيدها، بل ليرى فيها وجوه الآخرين.
يقول:
«حلمي أن أكمل كتابة قصتي للناس، وهي قصتهم في أول المقام لأنني واحدٌ منهم».
هكذا تتحول سيرته إلى فعل انتماء لا انعزال،
وتصبح حكاية الفرد مرآةً للجماعة،
كما في سيرة مدينة لعبد الرحمن منيف،
حيث يتحد الخاص بالوطني، والذاكرة بالزمن العام.
فلسفة الفعل
يؤسس حاشد لفلسفة الفعل الأخلاقي؛ فلا يكتفي بالتأمل، بل يجعل الفكر يعيش في العلن.
بينما يكتفي جبران ونعيمة وروسو وكويلو بالحلم أو الفكرة، يحمل حاشد الفكرة إلى الميدان، ويحوّل الفلسفة إلى حياة تُمارَس.
إنه المفكر المقاتل، القريب من أصواتٍ كـ فرج فودة والكواكبي وغسان كنفاني، حيث تلتقي الكلمة بالفعل،
ويصبح الأدب وجهًا آخر للشجاعة.
خلاصة
في ضوء هذه المقارنات، يمكن القول إن نص أحمد سيف حاشد يشغل موقعًا فريدًا في خريطة الأدب العربي المعاصر.
فهو نصٌّ يكتب من رماد الفشل أسطورة الإنسان الممكن، ويستعيد معنى الكتابة كـ تجربة خلاصٍ روحي وأخلاقي في زمن الخراب.
يلتقي مع جبران ونعيمة في الوجد،
ومع طه حسين في التحدي،
ومع كويلو في الحلم،
ومع روسو في الاعتراف،
لكنه يظل متفرّدًا في حمله ذاكرة الجرح العربي الحديث، ونحته إياها بلغةٍ صلبة من أملٍ وصدقٍ ومقاومة.
مسك الختام
في نهاية المطاف، لا يبدو «فشل ولكن ليس للأبد» نصًّا عن الفشل بقدر ما هو نشيدٌ للحياة.
يحوّل فيه أحمد سيف حاشد خيبته إلى ضوء، وجرحه إلى فعل خلاصٍ ضد التلاشي. فالكتابة هنا ليست ترفًا، بل مقاومةٌ للعدم، ووسيلة لاكتشاف ما تبقّى من الإنسان فينا.
إنه نصٌّ يتجاوز حدود السيرة إلى بيانٍ إنسانيّ وفكريّ، يثبت أن الصدق في الكتابة لا يُقاس بالكمال الفني، بل بقدرتها على الإلهام، وبمقدار ما توقظ من وعيٍ وكرامةٍ في القارئ.
يمثل هذا العمل لحظةً نادرة من الصفاء الإنساني والصدق الأدبي، حيث يتحد الوعي بالذات مع الوعي بالإنسان، والكتابة مع الحياة، والفشل مع الحكمة.
وفي ختام الرحلة، يبدو أحمد سيف حاشد كمن يكتب وصيّته الوجودية الأخيرة:
أن لا يستسلم الإنسان أبدًا،
أن يحلم حتى في العتمة،
وأن يجعل من الفشل درجًا إلى العلوّ
نص فشل ولكن ليس للأبد
أحمد سيف حاشد
ربما بدوت فاشلا، بل وشعرتُ ملياً بالفشل في لحظة ما، وربما رافقني هذا الفشل سنوات طوال، ولكن ليس إلى الأبد.. فشلت في كتابة القصة، ولكني أعاود كتابتها اليوم في تفاصيل قصة حياتي.. فشلت في الشعر، ولكن أحاول اليوم أجترح أحد فنونه فيما اكتب على نحو مختلف.. فشلت في الحب ولكن ليس إلى الأبد.. حلمت أن أكون صحفياً وفشلت، ولكن عاودت السعي في تحقيق الحلم، وصار لي صحيفة وموقع اخباري.. لا يستطيع الإنسان كما يقول الروائي البرازيلي “باولو كويلو” أن يتوقف أبداً عن الحلم، والفشل من وقت إلى آخر طبيعيا، ولكن الشيء الوحيد الذي لا يستطيع فعله المرء هو نسيان ذلك.
اينما فشلتُ يظل الحنين جارفاً لما كنت أروم وأحلم، والنسيان غير ممكن.. أستعيد نفسي وأنفاسي، وأحاول أن أصبر بجلد ومغالبة، ثم أعاود مسعاي لتحقيق حلمي مرة وثانية حتى يتم تحقيقه، أو أنال باعاً منه، وإن استولى الفشل على حلمي لسنوات طوال، لا أنساه حتى أنال من حلمي ما استطيع من الشرف، وإن نام حلمي من الإعياء والتعب أسترخى واستريح ، ريثما تتبدل الأحوال، ثم يستيقظ ويثب في أول فرصة، وأعيد المحاولة كرة وكرتين، فيبدو ما كان مستصعبا أو مستحيلا قد أصبح ممكناً، أو رهن التحقيق.
حلمت أن أكون قاضياً أو محامياً، فصرت قاضياً بالفعل لأكثر من خمس سنوات، ثم مدافعا عن حقوق الإنسان وحرياته إلى اليوم.. تطلعت إلى الحصول على منحة دراسية في العلاقات الدولية أو العلوم السياسية، فلم تتح لي الفرصة لأفعل، ولكن بعد سنوات طوال حصلت على شهادة الدبلوم في العلوم السياسية من كلية الاقتصاد في جامعة صنعاء.
تطلعت أن أكون صوتاً لهذا الشعب المقموع، فصرت نائبا له، والأهم أنني لم أقايض صعودي بأي سقوط.. اقتحمت السياسية من وقت مبكر غير أن الأهم وكما أزعم أنني مارستها بأخلاق وسوية.. أعتقد أن ما مررتُ به من إخفاقات وفشل إنما هو من أعطى للنجاح قيمته الفذة ومعناه الحقيقي، أو على حد تعبير الروائي الأمريكي ” ترومان كابوتي” أن الفشل هو ذلك البهار الذي يعطي النجاح نكهته المتميزة.
إنني أبحث عن تحقيق أسطورتي مهما كانت الكوابح والمعوقات، كما فعل “سنتياجو” في قصة “الخيميائي” لـ “باولو كويلو”.. “سنتياجو” الذي يتمسك بحلمه، ويغالب كل ما يحول دون تحقيق ذلك الحلم والمراد، وفي نهاية المطاف يصل إليه.. أما أنا وحتى على فرضية عدم الوصول، فيكفيني شرف المحاولة.. اليوم حلمي وأمنيتي أن تتاح لي الظروف فيما بقي من أيامي القليلة أن أكمل كتابة قصتي للناس، وهي قصتهم في أول المقام لأنني واحدٌ منهم.
* * *
كنت في كل عدد أنتظر يوم صدور صحيفة “الراية” بفارغ الصبر، ثم أفتش بصفحاتها بشغف كمن يبحث عن نفسه أو ولده الذي شرد منه؛ فإن وجده غمرته الفرحة، وسرت المسرة من محيّاه حتى أطراف أصابعه، وإن لم يجده اكتسحته الخيبة العارمة.
كنت عندما أجد ما كتبته منشوراً، وأقرأه للوهلة الأولى، أستلذ به، وربما تخامرني غيمة نرجسية، وعندما أكرر قراءة ما تم نشره مرات عديدة، وفي أوقات متفاوتة، تتلاشى تلك الغيمة، وأكتشف مع كل قراءة عورها وأخطاءها التي تزداد؛ فنقص هنا كان ينبغي إضافته، واضافة هنا ما كان داعياً لها، وجملة كان يفترض تأخيرها، وأخرى كان يتعين تقديمها، وعبارة كان بالإمكان تحسينها، وأشعر أن تلك القراءة المتكررة لو حدثت قبل النشر لكان ما كتبته أجمل وأرصن، إن لم يكن أقل عيوباً، وكان هذا يعني بالإمكان إشباع ما كتبت، ليس ليغدو أكثر امتلاء، ولكن ليغدو أقل أخطاء ومثالب.. وكنت عند النشر أشتري عدة نسخ للأرشفة والحفظ.
في لواء الوحدة كنت أشتري الصحف، وأتابع الأخبار، وأتمنى أن أعمل في الصحافة، وكانت رغبتي بالعمل فيها جامحة، ولكن تخصصي كان ليس له صله بالإعلام، وإنما له صلة بالتكتيك العسكري، والتدريب الناري، والعلوم العسكرية إجمالاً، بعيداً عن تخصص الإعلام والصحافة.
كنت أساير رغبتي لتسويغ الانتقال من تخصص إلى آخر، وأحدّث نفسي: أحمد بهاء الدين خريج كلية الحقوق، ولكنه صار من ألمع الصحفيين المصريين الذين تولوا رئاسة تحرير العديد من الصحف والمجلات، مثل “صباح الخير” و “الأهرام” و “العربي” و”آخر ساعة” و “دار الهلال”.. عديدون هم الذين برعوا واحترفوا الصحافة بعد أن تركوا تخصصاتهم التي درسوها، وصار كل واحد منهم نجماً مشهوراً وأصبح اسُمه ناراً على علم.. وفي المقابل هناك خريجون من كلية الإعلام تركوا التخصص الذي درسوه، وصاروا نجوماً في مجال آخر، وآخرون قاموا بأشياء مذهلة في مجالات غير تخصصاتهم، بلغت حد الاختراع.
وينطبق هذا أيضاً على كثير من النجوم والممثلين المشهورين، فمثلاً أحمد مظهر هو في الأصل خريج الكلية الحربية، وصلاح ذو الفقار خريج كلية الشرطة، والصحفي الساخر جلال عامر خريج الكلية الحربية، ثم كلية الحقوق والفلسفة في كلية الآداب، وليس خريج كلية الإعلام، وفؤاد المهندس ومحمود ياسين خريجا كلية الحقوق، ويحيى الفخرانى خريج كلية الطب، وعادل إمام وسمير غانم وصلاح السعدنى خريجو كلية الزراعة، ودريد لحام خريج كلية العلوم قسم الكيمياء.. كثير ممن فشلوا أو تركوا تخصصاتهم، ذاع صيتهم ونجاحهم في مجال آخر.
* * *
كان يتداخل لدي الاهتمام والبحث عن الذات بين القصة, والشعر والكتابة السياسية.. كنت أبعث بما اكتب إلى صحيفة الراية عبر الملازم أول أحمد مسعد القردعي مراسل الصحيفة في اللواء، وكان هذا الزميل من العناصر النشطة والجريئة, وذوي الطموح البالغ أيضاً.. وبعد غياب وانقطاع دام طويلاً بيننا، وظننت أنه شبع موتاً، نشرتُ قبل عام صورة له، أسأل عنه، فوجدته مازال حيا ولكنه لا يُرزق في التوجيه المعنوي بصنعاء.
كنت أبعث إلى صحيفة (الراية) التابعة لوزارة الدفاع في عدن ببعض الكتابات, والمشاركات ومواضيع السياسية الدولية، وهذه الأخيرة على قلتها كانت تنشر كاملة دون تبعيض أو نقصان. ومازلت أحتفظ ببعضها إلى اليوم بعد 36 عاماً من نشرها.
كنت أتابع أخبار العالم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن القضايا الكبرى إلى أصغر التفاصيل.. اكتب عن التدخلات العسكرية الأمريكية, كبيرها وصغيرها في حق الشعوب والأمم، وفرض وصايتها, وهيمنتها عقب تلك التدخلات.. أذكر أنني كتبت حتى عن احتلال القوات الأمريكية لجزيرة “جرينادا” التي كنت حينها أتابع أخبار معركتها على مدار الساعة، وكأنها مسقط رأسي.
كانت كتاباتي السياسية تحظى بالنشر، في الصفحة الرئيسة المخصصة للشؤون الدولية، وما زلتُ أذكر مقالين تم نشرهما, أحدهما تحت عنوان “على هامش التدخلات الأمريكية” والثاني أيضاً في نفس السياق تقريباً تحت عنوان “شر البلية ما يضحك” والذي تناولتُ فيه المبررات والذرائع المعلنة والواهية, للتدخلات الأمريكية والبريطانية في العالم، والتي من خلالها يفرضان إرادتهما ووصايتهما على الشعوب والأوطان بتلك الحجج والذرائع، وينطبق على كل منها مثل “عذر أقبح من ذنب”..
اهتمامي هذا ربما كان يجعل العلوم السياسية والعلاقات الدولية من بين الخيارات التي أفكر فيها، بل وقد دفعني مثل هذا الاهتمام لاحقاً إلى دراسة العلوم السياسية، والحصول على دبلوم سياسة دولية بعد الجامعة، بالتزامن مع دراستي السنة الأولى أو الثانية في معهد القضاء العالي بصنعاء.
* * *
أما رغبتي في الصحافة فظلت حلماً ينازع مسار حياتي، وأذكر أنني أول ما قرأت في الصحافة هو: كتاب “مدخل إلى الصحافة” في النصف الأول من عقد الثمانينيات من القرن المنصرم، وبعد العام 2000صرت أتعاطى معها كواقع وحقيقة، بدأ برئاسة تحرير نشرة “القبيطة” أو صحيفة المجانين كما كان يسميها البعض، وحتى صرت مالكاً لصحيفة خاصة “المستقلة” وموقع “يمنات” الإخباري، اللذين شاركتُ في تحرير بعض موادهما، حوارات واستطلاعات ولقطات وأخبار وتحرير بعض الصفحات.
ورغم أن ظروف الحال والواقع تكالب ضدي أثناء هذه الحرب، وأردوا الإجهاز على ما تحقق من حُلم ورغبة، إلا أنني ما زلتُ أقاوم، ولن أستسلم للحسرة والخسران، رغم أن ما يحدث قد بات كونياً وليس فقط أكبر منّا.. وكان لمواقفي من أطراف الحرب والصراع في اليمن كُلفته أيضاً، وما زلتُ أدفع هذه الكُلفة إلى اليوم.
* * *




