قراءة تحليلية في نص “زواج الخمس دقائق” لـ”أحمد سيف حاشد”

برلماني يمني
قراءة تحليلية في نص “زواج الخمس دقائق” لـ”أحمد سيف حاشد” والمنشور في كتابه “فضاء لا يتسع لطائر”، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.
لسعة
عرفني وعرف من كنت قاعدا معه..
أراد أن يفسد ودنا..
عرفني بنفسه..
ثم قال: أريدك ضروري.. وعرض علي زيارة تركيا
شكرته ليس للعرض
بل لأنني تعلمت منه درسا لا أريد أن أتعلمه..
درسا حيا في الخبث والدهاء الذي أمقته.
جمعة غير مباركة..
مدخل
في نصه القصير «زواج الخمس دقائق»، يقدّم الكاتب والبرلماني اليمني أحمد سيف حاشد تجربة اعترافية نادرة في الأدب اليمني المعاصر، تجمع بين صدق البوح الشخصي والتمرد على ثقافة العيب التي تكبّل الفرد في مجتمع محافظ ومتناقض.
«زواج الخمس دقائق» ليس حكاية مضحكة كما قد يوحي عنوانها، بل مأساة إنسانية مكثّفة في خمس دقائق من الارتباك، تضيء دهراً من الخوف والصمت الاجتماعي.
في هذه التجربة، يمارس أحمد سيف حاشد فعلاً أدبياً يقترب من التحليل النفسي للمجتمع اليمني، إذ يجعل من ذاته مختبراً للعُقد الجمعية، ويحوّل فشله الشخصي إلى مادة نقدية تضع القارئ أمام مرآة الحقيقة، بجرأةٍ صادقة، وشجنٍ لا يخلو من الشعر
النصّ لا يقدّم حكاية غرامية عابرة، بل يقدّم مشهدًا إنسانيًا حادًا لاصطدام الذات بحدود الخجل والموروث، وبالوقت الذي يمضي دون أن يمنح صاحبه فرصة كافية لإعادة ترتيب شروطه للحياة والحب.
يبدأ النص بوعيٍ زمنيٍّ محموم، كأنّ العمر يجري في عروق الراوي أسرع من ظله. تمرّ السنوات فيه كوجعٍ يتجدّد كلّما حاول الإمساك بلحظةٍ هاربة.
ومن رحم هذا الوعي المثقل بالندم تنبثق لحظة خاطفة، تخرج من فم الراوي كصرخةٍ: «ممكن أتزوجك خمس دقائق». جملةٌ تنفجر كبرقٍ في سماء الخجل، تجمع في ومضتها بين انكسار الحلم وجرأة الاعتراف، بين براءة البوح وجنون المجتمع الذي لا يحتمل الصراحة.
تتحرك لغة أحمد سيف حاشد في هذا النص على حافةٍ دقيقة بين الشعر والاعتراف، وكأنّ كل استعارة فيها جاءت من جرحٍ قديمٍ ما زال ينزف.
تتجلّى الصورة البلاغية كوسيلة إنقاذ، وتنفّسٍ أخير أمام اختناق المعنى. التشبيه لا يصف الزمن فحسب، بل يكشف عطشه الداخلي للحياة التي لا تمطر.
وهكذا تتحوّل اللغة إلى كائنٍ يواسي الراوي أكثر مما يخدمه، إلى مرآةٍ تمسح الغبار عن وجهٍ أنهكه التردد، وتعيد تشكيل الألم في هيئة جمالٍ رفيعٍ لا يخلو من مرارة.
ملخص سردي
النّص محض اعتراف يصف أزمة تأخر الزواج.. تجربة فشل مباشر.. (طلب زواج مفاجئ من فتاة في الشارع) ..
تفكيك النص
– تكتيك الصدمة (هل تتزوجينني؟)
هذا التكتيك هو نتاج طبيعي للضغط الهائل الذي شعر به السارد..
الهدف المعلن: “أسحق خجلي أولاً”.
الآلية: المواجهة المباشرة التي لا تترك مجالاً للتفكير أو التراجع.
الراوي هنا يفرض على نفسه وعلى الآخر إما قبول الصدمة أو رفضها فوراً، لكنه يحقق هدفه بهزيمة الخجل في تلك اللحظة.
النتيجة المزدوجة: رغم فشل المحاولتين في تحقيق الزواج، نجحت في تحقيق هدفه الداخلي وهو كسر حاجز الخجل وتكثيف التجربة، وهو ما توصل إليه في النهاية “الفشل بشكل أفضل”.
زلة اللسان
حادثة زلة اللسان من “خمس دقائق كلام” إلى “خمس دقائق زواج” هي ذروة العمل ورمز للعقدة.
رمزية الزلة: هي دليل على أن الخجل والعقد لم تُهزم بشكل كامل بعد. التوتر الداخلي، والرغبة الملحة والسرية في الاختصار، خرجت عبر لسان السارد ليتكشف ما في أعماقه بطريقة لا إرادية.
النتيجة النفسية: رد الفتاة بـ “إني لا أتكلم مع مجانين” هو صدمة عنيفة، لكن قرار السارد بتصنيفها كـ “فشل أفضل” هو آلية دفاع واعية لتحويل الخسارة العاطفية إلى مكسب زمني وفكري.
تحليل النص من الداخل (البنية والمضمون)
الموضوع المركزي هو أزمة وجودية في مواجهة الزمن والحرمان العاطفي حيث يدور النص حول أزمة الراوي، وهو رجل في الثامنة والعشرين، يشعر بأن قطار الحياة يمر بسرعة بينما هو واقف في المحطة.
الموضوع الرئيسي هو صراع الإنسان مع الزمن وخوفه من “عنوسة الرجال” (وهو مصطلح غير تقليدي يعكس قلق الرجل من فوات قطار الزواج وتكوين الأسرة)، وسعيه المحموم للحب والزواج كحل لهذه الأزمة الوجودية. هذه الأزمة تتغذى على:
* الندم على سنوات عمره المهدرة.
* الخجل والعقد النفسية التي تشكل حاجزًا بينه وبين الآخرين.
* المثالية المفرطة التي جعلته يرفض علاقات متاحة بحثًا عن “المستحيل”.
* الضغوط المجتمعية و”ثقافة العيب” التي تزيد من عزلته ومعاناته.
البنية السردية والأسلوب
يُبنى النص على هيكل اعترافي متدرج ويستخدم السارد ضمير المتكلم في انسياب لغوي قريب من نبرة المذكرات الشخصية، ما يضفي صدقًا وتجليًا شعوريًا، ويقرّب القارئ من الداخل النفسي للشخصية.
على المستوى الزمني، يوازن النص بين زمنين متناقضين: زمن داخلي مضغوط يمثل الوعي بالعمر المنقضي، وزمن خارجي سريع، يمثله مشهد «الخمس دقائق» كتكثيف للحظة عمر بأكمله.
أما المكان (التواهي، المنتزه)، فيؤدي دورًا رمزيًا بوصفه فضاءً مفتوحًا، لكنّ الانفتاح هنا لا يتيح الحرية، بل يضاعف الحرج والانكشاف.
اللغة والصورة البلاغية
لغة حاشد مشبعة بالاستعارات الحسية والمجازات الزمنية وهذه الصور تنبثق من معاناة وجودية حقيقية، فتخلق جمالًا مشوبًا بالوجع، وتحوّل السرد الواقعي إلى تأمل شعري.
القوة البلاغية للنص تكمن في التناوب بين الفكرة والاعتراف، بين الوعي والارتباك. ومع ذلك، كان النص بحاجة إلى «اقتصاد لغوي» يبرز نواته الجوهرية دون إفراط.
السرد الذاتي الاعترافي يشبه المذكرات الشخصية أو جلسة العلاج النفسي. مقترن بلغة شعرية واستعارات مجازية قوية.
التطور الدرامي
يمر الراوي بمراحل واضحة:
– الوعي بالمشكلة وهو إدراكه أن الزمن يمر وأن عمره ينفد.
– التحليل الذاتي وهو بحثه عن أسباب خيبته (الخجل، المثالية، العقد).
– النقد الاجتماعي هو إدراكه أن جزءًا من المشكلة هو “ثقافة العيب” والموروثات الاجتماعية.
– القرار والتحول وهو قراره “سحق” خجله والتصرف بجرأة.
– التنفيذ والفشل الكوميدي/المأساوي في محاولتيه الفاشلتين والمضحكتين في آن واحد لطلب الزواج من غريبتين.
– التأويل الفلسفي في محاولته تفسير فشله الأخير بشكل إيجابي بناءً على مقولة بيكيت.
– ما يمكن أن نخرج به من هذا الاعتراف
* الأهداف الكبيرة (كالزواج) لا تتحقق دائماً بتكتيكات حاسمة ومباشرة، خاصة عندما تكون مدفوعة بالهلع من الزمن. هي تحتاج إلى التصالح مع الذات أولاً، وهو ما أشار إليه الكاتب بوعي: “ما أحوجنا إلى نقد وتفكيك وتعرية ثقافة العيب”.
* العلاج يبدأ بالاعتراف، وكون الكاتب قادرًا على كتابة هذا النص بكل هذا التحليل الدقيق لعقده، فهذا يعني أنه قد قطع شوطاً كبيراً في تحرير وعيه من أنانيته وعناده.
* مقولة بيكيت التي استشهد بها السارد هي خلاصة التجربة: “الفشل بشكل أفضل” يعني التعلم السريع وعدم تكرار الأخطاء التي تستهلك العمر.
هذا النص هو في الحقيقة وثيقة نفسية عميقة ومؤثرة عن محاولة إنسان أن ينتصر على سنوات من الشروط النفسية والاجتماعية التي كبلته.
التحليل النفسي والاجتماعي
يُقدّم النص صورة نادرة للرجل الذي يواجه «عنوسةً» من نوع مختلف، حيث تتحول الذكورة إلى كيان هشّ محاصر بعقد الكمال وبالعيب الاجتماعي.
تناول الرجل كشخص معرض للعنوسة يقدّم صوتاً مهماً للنقاش حول صور الذكورة التقليدية في المجتمع العربي.. هذا يعني هشاشة الحب المتأخرة ليست حكراً على النساء.
لقد نجح الكاتب في فضح مأزق المجتمع اليمني والعربي الذي يفرض على الرجل دور «المبادر القادر» في الحب والزواج، بينما الواقع النفسي قد يجعله أكثر هشاشة من الصورة المرسومة له.
مكامن القوة والضعف في النص
لغة اعترافية حميمة.. صدق ودفء وشفافية في الإاعتراف.. القدرة على الربط بين الأزمة الفردية والبنية الثقافية.. نقد ثقافة العيب وتحرير أنفسنا ممّا نعانيه من عُقد وموروثات.. تلك العناصر يرفع النص من مجرد قصة شخصية إلى بيان نقدي ضد القيود الاجتماعية التي تفرض الزيف وتمنع التصالح مع الذات.
– يتسم النص بالصدق الجارح حيث يتضمن اعتراف عميق ونادر بـ العقد النفسية (“الخجل”، “الأنانيّة”، “التناقضات”) وبـ الفشل الشخصي. هذا المستوى من الشفافية يخلق ارتباطاً قوياً ومؤثراً مع القارئ.
في النص صور بسيطة فعّالة في استدعاء الفقدان، والاستشهاد بـ صامويل بيكيت (“الفشل بشكل أفضل”) يرفع النص من حكائي إلى فكري. ولكن ما يعيب النص بعض الجمل التي تعيد نفس الفكرة بصيغ مختلفة، بالإضافة إلى إسقاط أو إزاحة صوت «الآخر» – الفتاة – يجعل السرد يغدو أحاديًّا، لا يمنح الطرف المقابل مساحة للتعبير عن دهشته أو خوفه أو حقّه في الرفض.
القيمة الأدبية والفكرية
يمنح هذا النص الأدب اليمني صوتًا اعترافيًا ذكوريًا جديدًا، يقف في منتصف الطريق بين السيرة الشخصية والمقالة الفلسفية. إنه نصّ تأملي/تحريري، يسائل الذات والمجتمع في آن، ويضع القارئ أمام مأزق ثقافي يتجاوز التجربة الفردية إلى سؤال الهوية والحرية والاختيار.
الزمن والخجل والندم والوعي – هذه ليست عناصر عاطفية فقط، بل رموز لفشل جماعي في تحقيق التصالح بين الإنسان وثقافته، وبين الحب والمجتمع.
إنّ النص يتجاوز حدود الطرافة الظاهرية في العنوان، ليقدّم تجربة إنسانية مكتنزة بالأسئلة الوجودية والاجتماعية في آنٍ معًا. فخلف الموقف البسيط تتشكّل مأساة وعيٍ متأخرٍ بالزمن، وصراعٍ بين خجلٍ متجذّر ورغبةٍ في مصالحة الذات مع حقيقتها.
يحوّل فيها الكاتب لحظة الالتباس اللفظي إلى رمزٍ دالٍّ على انكسار الإنسان أمام واقعه الثقافي، وعلى حاجته إلى كسر جدار الصمت الذي يصنعه الخوف والعيب الاجتماعي. وبهذا المعنى، يصبح النصّ تمرينًا على الاعتراف والتحرّر، لا من أجل الفضفضة، بل بوصفه فعل وعيٍ يختبر حدود الشجاعة والإنسانية.
مقاربات
محليا “يمنيا”
يقدّم النص تجربة سردية يمنية نادرة، يخرج فيها الراوي من قفص التحفّظ الاجتماعي ليفصح عن هشاشته وخجله وتردّده في موضوع العلاقة مع الجنس الآخر. وهو بذلك يقترب من أجواء زيد مطيع دماج في صراع الفرد مع المجتمع، ومن جرأة علي المقري في مقاربة الجسد والمسكوت عنه، لكنه يفعل ذلك بنبرة أكثر إنسانية وتواضعًا.
صراع الداخل وعبث الخارج
يحضر في النص بُعد وجودي يستدعي روح صمويل بيكيت؛ فالحدث ليس إلا شرارة تكشف عبث الزمن وثقل الانتظار. مشهد طلب الزواج من غريبتين يبدو فعلاً صادماً، لكنه يتحول إلى محاولة يائسة لتعريف الذات عبر الفعل، حتى ولو عبر “فشلٍ أفضل” يعيد صياغة الهزيمة بوصفها معرفة جديدة بالنفس.
وإلى جانب هذا البعد الوجودي، تتخذ الكتابة شكل تحليل نفسي دقيق لعقد الراوي ودوافعه “عقدتي المعلنة وغير المعلنة”، “الضمير المقاوم لزيفي” في استبطان يذكّر بدوستويفسكي، حيث ينقلب الحدث الخارجي إلى رحلة نحو الأعماق.
الوحدة والعبث في فضاء المدينة
تستخدم القصة مدينة التواهي ومنتزه نشوان كخلفية روائية تشبه عالم نجيب محفوظ، حيث يمتزج الضجيج والحركة بجمالية عابرة. لكن الراوي يعيش وحدة عميقة وعجزاً عن التواصل.
يبرز في النص أيضاً حضور كافكا من خلال الفعل العبثي، والشعور غير المبرر بالذنب، والمحاكمة الذاتية المستمرة التي يفرضها “الضمير القاضي” على كل خطوة ورغبة للراوي.
التمرّد والعيب: كامو وكنفاني
محاولتا الراوي الفاشلتان ليستا نزوة، بل فعل تمرد على الخجل، وعلى منظومة “العيب” التي تقيّد الجسد والروح. بهذا المعنى، يبدو قريبًا من “البطل العبثي” لدى كامو؛ يقاوم أوهام المجتمع والزمن، ويثبت وجوده عبر المحاولة لا عبر النجاح.
كما يحمل النص نقدًا اجتماعيًا حادًا يذكّر بأصداء غسان كنفاني، خصوصًا في دعوته لتفكيك “ثقافة العيب” بوصفها عبئًا وجوديًا يصنع أزمة الفرد ويعمّق شقوق المجتمع.
نص اعترافي
النص اعترافٌ صريح ومتدرّج، يفتح فيه الراوي بابًا على نقاط ضعفه وخجله وأنانيته، وعلى سنوات ضائعة من التردّد والخيارات الناقصة.
الراوي لا يكتفي بالسرد، بل يقوم بعملية تشريح نفسي لأسبابه وخلفياته، في لغة تبحث عن نوع من التطهّر الداخلي، وكأن الكتابة نفسها محاولة لاستعادة الاتساق والصفح عن الذات.
مقاربة مع روسو
يلتقي النص مع اعترافات جان جاك روسو في جرأة الكشف، غير أنّ اعترافات روسو موجّهة للآخر دفاعًا أو تبريرًا، بينما اعتراف “الخمس دقائق” هو حوارٌ مع الذات قبل أن يكون حديثًا لغيرها، وبأسلوب أقرب إلى الشعر منه إلى الوثيقة
النص كمرآة للذات والمجتمع
نص “الخمس دقائق” لـ”أحمد سيف حاشد” لوحة تعبيرية عن أزمة جيل يعاني من الفجوة بين طموحاته المثالية وواقع المجتمع المقيد، وبين سرعة الزمن وبطء تحقيق الذات.
من خلال أسلوبه الاعترافي الجريء، واستعاراته الشعرية المؤثرة، وحواره مع أفكار فلسفية (بيكيت)، وتشابكه مع تيارات أدبية (الكافكية، العبثية)، يصوغ الكاتب وثيقة إنسانية عميقة. إنه لا يحكي قصة رجل يبحث عن زواج فحسب، بل يحكي عن الإنسان المعاصر في سعيه اليائس للحب، والانتماء، والانتصار على الزمن، ومصالحته مع ذاته في عالم يبدو فيه كل شيء “مركبًا من المحال”.
مسك الختام
«زواج الخمس دقائق» ليس نكتة عابرة ولا حكاية خفيفة عن فشلٍ طريف، بل مرآة تتكسر فيها صورة الإنسان أمام ذاته. في هذه الدقائق الخمس يتكثّف عمرٌ بأكمله، تتجلى فيه هزيمة الخجل وشجاعة البوح، وينكشف صراع الفرد مع جدارٍ من الصمت والعيب والموروث.
إنه نصّ يعرّي وجوه المجتمع بقدر ما يعرّي صاحبَه، ويمارس نقدًا نادرًا في صدقه وشفافيته، إذ يجعل من الخطأ لحظة وعي، ومن الهزيمة نوعًا من الانتصار على الزيف.
يكتب أحمد سيف حاشد لا ليُدهش، بل ليُطهِّر اللغة من خوفها، وليقول إن الإنسان حين يجرؤ على مواجهة خجله، يبدأ في تحرير نفسه من كل ما كبّلها.
في النهاية، تبقى «الخمس دقائق» علامة على لحظةٍ خاطفةٍ من الصدق، تساوي في عمقها دهراً من الإنكار، وتفتح في الذاكرة باباً صغيراً للنجاة من
العتمة إلى ضوء الاعتراف
يكتب حاشد بلغةٍ تتأرجح بين التأمل والشعر، وتكشف عن قدرة الأدب على تحويل الفشل إلى بصيرة، والخطأ إلى لحظة وعيٍ نادرة.
وفي النهاية، تبقى «الخمس دقائق» أكثر من زلّة لسان، إنها ومضة وعيٍ مكثّف تضيء مأزق الإنسان في مجتمعه، وتمنح الاعتراف قيمة الخلاص من قيود الخوف والإنكار
نص” زواج الخمس دقائق..!”
أحمد سيف حاشد
يمضي الزمان إلى الأمام في وجهته ولا يعود.. لا يكتمل مساره ولا ينتهي.. يغادر ماضيه إلى الآتي على نحو مستمر دون توقف أو عودة أو انتظار.. أما أنا فلم أكن أبالي بما يمر من سنين عمري حتى خلتُ أن بمقدوري الاستيلاء على مقوده، والتحكم بفرامله، وتغيير وجهته؛ فاكتشفت أن أيامي تمضي بعجل دون مهل، وعمري ينفد بسرعة، وما انقضى منه لا يبقى ولا يعود.
أعانس أنا؟!! بدأت خيبتي على صفحة مشاعري كحبر يفيش عليها ويتسع.. بدأ خجلي يعرِّيني ويكشف قلة حيلتي.. هلعي بدأ يزداد، ويزيد في إيقاظ محاذيري المنسية، ويثير مخاوفي التي لطالما سخرت منها، ودفنتها في أعماقي البعيدة، فيما مضى من سنين عمري المهدرات.
مرت السنون كما تمر السحاب.. سحاب صيف لا غيث فيها و لا رشة مطر.. أحسست أنني أدنو من “عنوسة” الرجال، وأنا أدخل عمر الثماني والعشرين عاما، وما يمر من العمر لا يعود ثانية.. أحسست أن الانتظار الطويل وخجلي المسيطر سيسرقان سنين عمري الباقيات.
كانت تذهب منّي جميلة، فأرفض أن تأتي دونها، وأذهب للبحث عن الأجمل؛ لأتجاوز ما قبلها، وكانت خيبتي في كل جولة حب، تكبر وتشتد، حتى بديت كأنني أقامر القدر، وأريد أن أغلبه.. هكذا كان التحدِّي، وكان السباق والفشل.. لا أدري إن كنت ما أعانيه مرضاً أم سوية؟! تحدياً أم اختلالاُ؟! طبيعياً ومعتاداً أم اضطراباً نفسياً وسلوكياً يحتاج إلى دكتور وعلاج.. هل ذهب الجمال إلى البعيد، وهبط الندم كقدر؟! لقد عشتُ أسئلتي وجحيمي لوحدي.
كنتُ قد بالغتُ في شروطي كلها.. بدوت وكأنني أريد إعجازاً، أو تعجيز القدر.. أبحث عن عين المستحيل، وبشروط لا أجدها في أرض أو سماء، ولا في مخيال البداوة الندي.. الحظوظ وسط التعاسة بين محال ونادر، والصدف تشبه المستحيل العصي، وإن وجدتها؛ صارت الاستحالة مرتين؛ فمن تلك الفتاة التي أضمن رضاها، وكيف ترضى بأقداري البائسة.
أفقت على واقع مختلف وصادم، وأن ما مضي من عمري مهدور لا يعود.. أحسست أنني في النهاية سأحصد الخسارة كلها، وأن الدبور لن يغادرني، بل الأكيد أنه سيرافقني إلى النهاية، وبكلفة لا أحتملها مهما صنعتُ، طالما أن ما أبحث عنه صار بسقف أكبر من المستحيل.
شعرتُ أن عمري يمضي بإيقاع سريع، وما كنت أبحث عنه بدا لي خليطاً مركزاً ومركّباً من المحال.. مثقل أنا بخجلي الكبير، وعُقدي المعلنة، وغير المعلنة المحبوسة في دهاليز أعماقي البعيدة، وتناقضاتي التي تحتدم داخلي، وضميري المقاوم لزيفي وعقدي التي أخفي وأداري بعضها في الزوايا البعيدة المظلمة حيث لا تصل إليها شمس ولا ريح، فضلا عن معاناتي من مجتمع مثقل كاهله بتخلفه، ومشروط بواقعه الثقيل.
أحسستُ بحاجتي إلى تحرير وعيي من أنانيتي وعنادي، ومقامرة لا أحصد إلا الخسارة والندم المكرر، كما شعرت أن واقعنا بحاجة إلى تحرير أنفسنا ممّا نعانيه من عُقد وموروثات تمنعنا من أن نتصالح مع أنفسنا، ونحسن اختيار من نحب في ظروف سوية.. ما أحوجنا إلى نقد وتفكيك وتعرية ثقافة العيب التي تثقل كواهلنا، وتجعلنا نخسر، أو ننافق ونخاتل، ونرتدي ثياب الزيف، ونخفي دمامة وبشاعة الوجوه بالأقنعة المزيفة.
***
حدثت نفسي: يجب أن أهزم خجلي أولاً.. هذا هو بداية الطريق.. لم أعد أحتمل مرور الوقت عبثاً دون طائل .. يجب أن أجد فتاة أحلامي بوقت قريب وبأسرع ما يكون.. العمر ينفق سدىً.. يذهب كالريح.. عليّ أن أسارع الخطى حتى لا يدركني الندم، وقبل أن يفوت قطار العمر الذي لا يعود.. كنت أعيش كثيراً من الضغوط، فضلاً عن شعور اللحظة التي كنتُ أعيشها، واحساسي بالتعاسة والضجر، والخوف الذي يكبر من ندم كبير بات يقترب.
وأنا أغادر منزل صديقي نصر عبد الجليل في التواهي، خرجت حسناء من البيت التي في جوارهم، عائدة إلى بيتها القريب.. كانت فتاة جميلة ومشرقة ونابضة بالنور.. أسرعت في خطاي لأدرك السير في محاذاتها، ثم ملتُ إليها قليلاً برأسي الذي أثقل كاهلي، فيما كانت عيوني ونظراتي مازالت مصوبة نحو الطريق.. قلت لها:
هل تتزوجينني..؟؟
قلتها دون مقدمات وأنا أريد أن أسحق خجلي، وأختصر طريق الألف ميل بخطوة واحدة، وأقطع بها دابر العنوسة التي توقعت إن طالت ستتحول إلى عقد إضافية، وربما إلى رهاب لا يزول.
التفتت الفتاة إليّ بدهشة مُربَكة، و لم ترد على طلبي ببنت شفة، بل ركضت مهرولة إلى بيتها الذي كان بمحاذاة الطريق في مكان قريب.
فتحت شرفة بيتها، وأطلّت منها تحدج فيَّ بدهشة ولهاث وأنفاس متقطعة.. يبدو أنها لم تستوعب بعد ما حدث لغرابته.. صحيح – إنها غرابة تثير فضول الحجار، ولكني كنت في الحقيقة، جاداً وصادقاً ومستعجلاً حتى النفس الأخير.
***
وفي “التواهي” أيضاً وفيما كنت ذاهباً إلى “منتزه نشوان” أيام ألقه وشهرته، شاهدت فتاة في وجهها مملكة من الحسن والجمال تستحق أن أسحق من أجلها خجلي الكبير.. راقت لي وعزمتُ على البوح لها بما أريد بسرعة واختصار لا يخلو من كثافة وعجل، أتمه بطلب الزواج منها.
لحقتُ بها، بعد أن عقدتُ العزم على الحديث معها خمس دقائق، ويكون مسك الختام طلب الزواج منها.. وعندما استوقفتها بجملة “لو سمحتي.. لو سمحتي” ركبني الإرباك، وخانتني اللسان، وخانتني شجاعتي أيضاً، وبدلاً من أن أقول لها: “ممكن أتكلم معك خمس دقائق” قلت لها: “ممكن أتزوجك خمس دقائق”.. فيما هي بدلاً من أن تشيح بوجهها عنّي، وتمضي إلى سبيلها؛ استدارت نحوي، تتفرس في وجهي الذي كان مكسواً خجلاً ونكسة، ثم قالت: “إني لا أتكلم مع مجانين” ومضت في طريقها، وتركتني خلفها أجر خيبتي كمذَنّبٍ منتحر.
داهمني إحباط شديد، ولعنتُ خيانة لساني وخيانة شجاعتي، وحظي العاثر أيضاً، ومع ذلك أدرجتُ ما حدث في إطار “الفشل بشكل أفضل” الذي تحدث عنه الكاتب والأديب والناقد الايرلندي “صوميل بيكيت”؛ حيث وأن تجاربي السابقة كانت تهدر سنوات من حياتي، ثم يأتي عقبها الفشل والحصاد المر.. أما هذا الفشل فإنه يتفهم قيمة الوقت ولا يهدره.




