قراءة تحليلية لنص “سوق الخميس والمجنون” لـ”أحمد سيف حاشد”

برلماني يمني
انجزت هذه القراءات لنص “سوق الخميس والمجنون” للكاتب والبرلماني أحمد سيف حاشد، والمنشور في كتلبه “فضاء لا يتسع لطائر” باستخدام تقنيات الذكاء الصناعي.
ملخّص النص
نصُّ «سوق الخميس والمجنون» يقدّم ذاكرةً طفولية عن يوم الخميس في السوق: احتفالٌ شعبي، نبضٌ إنساني، وفضاء للتلاقي والبهجة.
يصف الكاتب تفاصيلَ المكان والشخصيات الصغيرة — «دولة» صاحبة المقهى، «رُكيز» الطيّب، «حميد» بائع الماء — ثم يركّز على شخصية «المجنون» الملقّب بـ«العولقية» وصراعه مع الأطفال والناس، وحدّة موقفٍ شخصيّ بينه وبين الراوي تُنهيها شهادة أطفال السوق. النص ينتهي بمرثيةٍ بحنين لبراءة الزمن، وتأمّل في تغيّر دور المرأة واندلاع موجة التشدد التي اختصمت الحُرّيّات والبراءة.
تصنيف النص
نصٌّ سرديُّ-تأمليّ، أقرب إلى شذرة سيرة ذاتية/تأملاتٍ اجتماعية؛ يجمع بين الذكرى الأدبية والسرد الشعبي والوصف الاجتماعاني، مع توظيف بأثرٍ نقديّ لواقع تغيُّر القيم.
قراءة الكاتب في ضوء النص
الكاتب هنا راوٍ شهوديّ ومحكّم ذاكرة؛ صوْتٌ يجمع بين الشاعر الراوي والمحلّل الاجتماعي. نبرة الحنين واللوم تقرّبنا منه: هو ليس مجرد ناقل لحدث، بل مدوِّن لحالة إنسانية وأخلاقية، يريد استعادة زمنٍ فقدناه، ومساءلة ما جرى لنا بسبب تعصّباتٍ جاءت لاحقًا. يظهر في النص وعيٌ تاريخيّ واجتماعيّ وبراغماتية أخلاقية: يغالب الحزن بالاستدعاء الحسي والتفاصيل الصغيرة التي تشهد على دفء المجتمع قبل التشدد.
عناصر القوة
1. الذاكرة الحسية: أوصاف حسّية دقيقة — هدير السوق، أصوات البائعين، رائحة القهوة — تجعل القارئ يعيش المكان.
2. الشخصيات الصغيرة: «دولة» و«رُكيز» و«حميد» عناصر تقليدية تعكس دفء المجتمع وبساطته.
3. المشهد الدرامي للشخص المجنون: يعطي للنص عقدة إنسانية تطرح أسئلة أخلاقية ونفسية.
4. اللغة المزيجة بين البساطة والوجد: أسلوب قريب من الناس لكنه غنيّ بالعاطفة والتأمّل.
5. التداخل بين السرد والتأويل: الراوي لا يكتفي بالسرد بلّ يقحم تفسيره وموقفه، ما يزيد النصّ وزنًا وجدليًّا.
عناصر الضعف (ملاحظات نقدية بنّاءة)
1. ضبابية في أسباب التغيّر: النص يحمِل موقفًا واضحًا ضد التشدد، لكن لا يعطي خلفية اجتماعية-سياسية مفصّلة حول كيفية انتشار تلك الأفكار.
2. تسطيحٌ لشخصية «المجنون»: يمكن تعميق المشهد بإعطاء مزيدٍ من بصيص فهم لمرضه أو لعلاقته بالمجتمع بدل التسمية والرمز فقط.
3. تكرار الحنين: في بعض اللحظات تتراكم ملاحظات الحنين بطريقةٍ قد تُشعر القارئ بتردادٍ بدل إفصاحٍ جديد.
4. نقطة التحوّل الدرامي (المشاجرة مع والد الراوي) تحتاج تفصيلًا دراميًّا أقوى لتقوية تعاطف القارئ.
تحليلٌ أدبيّ
النص يشتغل بخيطين: الوصف المألوف والسرد الذاتي. بنيةُ الفقرة متدرجة: افتتاحية مشهديّة للسوق، ثم شخصنة من خلال الشخصيات، ثم انتقال إلى العقدة (المجنون)، وأخيرًا تأمّل عام.
يستخدم الكاتب التكرار كأداة بلاغية («الخميس… الخميس») لإضفاء وقع الطقس الشعوري. الرموز: السوق رمزٌ للحياة الاجتماعية والتماسك، ويوم الخميس رمز للفراغ المعنوي الذي يمثل الطمأنينة الجماعية، والمجنون رمزٌ للتشظّي والقلق الذي يُبرز هشاشة المجتمع أمام المرض والاختلال.
تحليلٌ نفسيّ
المجنون هنا ممثّلٌ لصراعٍ داخلي ومجتمعي: نوبة الغضب تبدو كإسقاطٍ لِشحنةٍ مكبوتة، بينما رد فعل الأطفال والخوف والجلبة يعكس مكانيكيات المجموعة أمام الآخر المختلف. شهادة الأطفال لإنقاذ الراوي تُظهر ديناميكية الضمير الجمعي: الأطفال يقفون ضد الظلم حتى قبل أن يُدربهم الكبار على التحفّظ، ما يعكس فطرة إنسانية لا تزال نقية. كذلك، حنين الراوي زمن الطفولة يظهر كميكانيزم دفاعي ضد واقع مجروح.
تحليلٌ فلسفي
النص يسائل مفهوم الزمن والبراءة والهوية: هل كان «الخميس» مجرد يوم أم طقس وجودي يعطي معنى للأيام؟ يتردد سؤال ماهية الجنون (كما استحضر نجيب محفوظ) — هل الجنون حالة مغلقة عن الفهم أم مرآة للحياة نفسها؟ الكاتب يقترح أن بعض الأسئلة الجوهرية تبقى «مغلقة» لكن السرد يساعد على مواجهة الغموض بالرحمة والذاكرة. كما يطرح النص علاقة الفرد بالمجتمع: كيف يُستقبل المختلف؟ هل التعاطف واجب أم تهمة؟
قراءة اجتماعية
السوق كفضاء عام يجسد التماسك الاجتماعي التقليدي قبل موجات التشدد. النص يعمل كتوثيق اجتماعي لحياة قروية/مدينية بسيطة كانت تسمح بمساحات حرية للمرأة ودفء الجوار. إشاراتُه إلى «الوهابية» و«الأفكار السلفية المتشددة» تحيل إلى نقد مدخلٍ أيديولوجي أحدث تغييرًا ملموسًا في سلوكيات الناس وعلاقاتهم – تغيّر أثره ليس مجرد ظاهري بل جرح ثقافي يطال الحميميات اليومية.
مقاربات: تشابه واختلاف
• تشابه مع أدب الذاكرة الشعبي: يتقاطع النص مع سيرة الأماكن عند كتاب يعتمدون على الذاكرة الحسيّة (ذاكرة الأسواق، المقاهي، الشخصيات الشعبية).
• اختلاف عن السرد التاريخي: النص لا يحاول أن يكون تاريخًا موضوعيًا بل رواية شخصية مشبعة بالعاطفة والنقد الأخلاقي.
• تشابه مع نصوص نجيب محفوظ (التي استحضرها الكاتب): كليهما يتأملان الجنون كحالة غامضة ومرآة للمجتمع.
• اختلاف عن نصوص التحليل الاجتماعي الجارف: هنا النقد يأتي من داخل الحنين والحنق الشخصي، وليس عبر إحصاءات أو سردٍ تحليلي بارد.
خاتمة
في هذا النص نلمسُ سوقًا لا يُسدَّدُ بيد الزمن؛ سوقٌ يضجُّ بالحياة، ويحفظ في أزقته قصصَ الناس وبسماتِهم ودموعَهم. «الخميس» هنا أكثر من يوم: هو تاجُ أيامٍ صارت ذكرى تُضيءُ الوجوه حين نذكرها. و«المجنون» ليس مجرد تاجِرٍ للغضب، بل ورقةُ خريفٍ تُدلّل هشاشة البشر أمام طوارئ النفس والمَجتمع.
الكاتب يدعونا بلطفٍ إلى أن نُعيد النظر: ألا نستحسن أن نُبقي على فضاءاتٍ تسمحُ للإنسان بأن يكون إنسانًا؟ ألا نُعيد إلى الأيام التي نحبّها حقّها من الصخب والدفء؟ النصُ يهمسُ — وليس فقط ينوح — بأن الرجاء باقٍ في ذاكرةٍ قد تتفتحُ من جديد، لأنَّ السوقَ، مثلَ الذاكرة، يظلُّ موطنًا لصيغٍ من الرحمة والحياة يمكنها أن تُعيد لنا براءتنا إن أردنا.
نص “سوق الخميس والمجنون”
أحمد سيف حاشد
في مرحلة ما في سن الطفولة، كنا ننتظر يوم الخميس بفارغ الصبر، ولو طلبت الأقدار منّا التمنّي بما نرغب ونشتهي، لطلبنا منها أن تجعل كل أيامنا خميساً لا ينقطع ولا ينتهي.
كان يغمرنا الفرح حالما نرتاد سوق الخميس.. ننتظره بشوق ولهفة.. كان هذا السوق بالنسبة لنا نحن الأطفال أشبه ببازار أو كرنفال بهيج.. الخميس يوم زاه ومميز في أيام الأسبوع.. لولا هذا اليوم لاختلطت أيامنا حابلها بنابلها.. كانت أيام الخميس تيجان أيامنا، وفواصلها البهيجة.. أيامنا القادمات، والذاهبات ليس لها معنى بدون يوم الخميس.. يوم الخميس فسحتنا الجميلة التي نرى فيها ما لا نراه ولا نسمعه في الأيام الأخريات.
كان الهدير والصخب يميَّزان هذا المكان وهذا اليوم البهيج.. إنه المكان الذي يجتمع فيه الناس.. يتقاطرون عليه من كل حدب وصوب.. يقطعون المسافات البعيدة، ويتجشمون مشقة التضاريس، ويتحدّون حدود التشطير، ويلتقون في سوق الخميس.. يسلِّمون على بعض بلهفة واشتياق، ويتحدثون إلى بعضهم بحفاوة وحرارة.
يكتظ مركز السوق برواده، وتمتد أطرافه.. يموج بالبشر والسلع.. بيعاً وشراء وحياة تدب فيه دبيباً.. تسمع هدير وهمهمات السوق قبل أن تراه أو تصل إليه.. صخب وجلبة وحياة ونشاط دؤوب.. يبتاعون ويشترون .. يتحدثون ويقهقهون.
بعضهم يتناول فطور الصباح، وبعضهم يحتسي الشاي والقهوة، وبعضهم يتناول وجبة الغداء في عز النهار.. هناك مقهى لـ “دولة” وهي امرأة بيضاء فارعة الطول، مليحة الوجه وزاد الوشم فيه جمالاً وتأنقاً.. ولم تكن جائحة التشدد والتزمُّت بعد قد وصلت إلي قرانا، ولم يكن يومها الخمار يُضرب على وجوه النساء، وكانت العفّة والبراءة والطيبة هي التي تسود دون خدش حياء أو تعرّض لتحرش، أو وجود ما يفسد البراءة والحياة.
في سوق الخميس كان هناك مقهى لـ”رُكيز” الرجل المبتسم الطيب، الذي تشعر وأنت تراه بالألفة والرّضى والارتياح. كان ما تصنع يداه من الطعام مُشتهى، وقهوته تحسّن الكيف وتعدّل المزاج.. وهناك حميد أنعم الرجل الفقير والطيب، يبيع الماء البارد والليم الحامض ؛ ويعلن بصوته الرخيم “البانهيس.. البانهيس”.
كثيرون في السوق يعلنون ويروّجون لسلعهم، وأحياناً يعتلي “المطرِّب” مكاناً مرتفعاً من السوق، وتسمع إعلانات للموالد والمناسبات أو ما يهم الناس من شأن عام.. جميع هؤلاء الناس الطيبين رحلوا، واليوم وجدنا أنفسنا ضحايا ومنكوبين وممزقين وأشتات، بعد سبع سنوات حرب لعينة.. سبع سنوات في حضرة الخراب والدمار والدماء، وسط الأوغاد واللصوص والمجرمين والفاسدين.. يا إلهي كم كانت تلك الأيام جميلة، وكم كان ناسها طيبين..!
***
كانت أيام الخميس بالنسبة للأطفال الذين يرتادون السوق أعياداً بهيجة.. ولكن أحدها بالنسبة لي كان يوم غضب وعراك.. كان المجنون علي عبدالله نائف، ويُدعى بـ “العولقية” مشهوراً لدى الاطفال.. كانت تداهمه نوبة توتر وتشنج عصبي.. حركة انفعال تهب فيه فجأة، وفيها بعض من عدوانية، وافراغ شحنة من التوتر والغضب، يُصاحبها اطلاق كلمات شاتمة وألفاظ سباب، ويستحضر فيها اسم “العولقية”.
الحقيقة لا أدري ما سر هذه “العولقية” في حياة هذا “المجنون”!! وما علاقته بها ليتم تسميته باسمها!! “العولقية” هي اللغز المغلق في حياة هذا الرجل المُبتلى بحالة نفسية وعصبية وضرب من الـ “جنون”.
تذكرتُ هذا، وأنا أقرأ قصة نجيب محفوظ “همس الجنون”، والذي كتبها في ثلاثينيات القرن الماضي، متقمصاً الحالة، وفيها يحاول الإجابة على سؤال ما هو الجنون؟! كتب في مستهلها: “إنه فيما يبدو حالة غامضة كالحياة وكالموت، تستطيع أن تعرف الشيء الكثير عنها إذا أنت نظرت إليها من الخارج، أما الباطن، والجوهر، فسّرٌ مغلق”.
كان “المجنون” “عولقية” يشكل هاجساً فيه بعض من قلق وخوف للأطفال في السوق.. كان بعضهم يذعرون منه عندّما يشاهدونه.. وكان أحياناً يهاجمهم ويلاحقهم، دون سبب، لاسيما إذا انتابته الحالة، فيهجم ويضرب بيده من يجده أمامه من الأطفال، ويواصل سيره دون أن يعير بالاً لأحد.
وفي بعض الأحيان كان يراجم بالحجارة، ويقوم بحركات متعدية، تجلب الفزع والخوف للأطفال، وأحياناً يعترضه الكبار، ويصرخون في وجهه: “بلا جنان فجّعت الجهال” لا أدري في الحقيقة لماذا يفعل هذا؟! لماذا يتجه هذا “الجنون” نحو الأطفال؟! هل ألحق الأطفال به يوماً اعتداءً أو أذىً أو استفزازاً مثيراً؟!! الحقيقة لا أدري!
***
ومع هذا “المجنون” كان لي قصة.. لا أدري كم كان عمري يومها عندما تفاجأت وهو يشق الزحام في السوق، ويسكع رأسي من قفاي بضربة قوية.. لا أدري كيف ركبتني نوبة غضب وانفعال “مجنون”.. اعتركت معه، وكان المجنون يطلب من الناس التدخل لفض العراك ويسألهم: ابن من هذا المجنون؟!! فيما كان الأطفال يحيطون بنا، ويتابعون ما يحدث!!
بدأ “العولقية” يسأل عن والدي، وعندما دلُّوه عليه، وكان معروفاً في السوق، شكا بي إليه وقال له:
– معك ابن مجنون.. شوف ابنك أيش فعل بي!.
كان المجنون يعرض على والدي قميصه المقطوع، وآثار الأظافر والخربشة على يديه وبعضاً من أجزاء جسده!.. غير أن الأطفال الموجودين، ومنهم ياسين عبد الوهاب أنجدوني بشهادة لصالحي لم يكن أبي مضطراً لسماعها، ولكنها وأمام الناس قطعت تسرع والدي بعد أن شهدوا أن “العولقية” هو من بدأ بلطمي في قفا رأسي، وبتلك الشهادة، نجوت من عقاب قاس كان ينتظرني من والدي المعهود بالشدة والصرامة، ودوماً ما يشملُ أحكامه بالنفاذ المعجل. ومن يومها قيل إن “عولقية” كف عن العدوانية حيال الأطفال..
رحل “العولقية” قبل سنوات قليلة، وقيل إنه تعافي من حالته النفسية قبل أن يموت.. ولكن لم تمهله أمراضه الأخرى كثيراً من الوقت.. لم أره منذ وقت بعيد.. رحل عن الحياة بهدوء.. رحمة ربنا تغشاه.
***
وعلى ذكر “دولة” المرأة الأنيقة والجميلة التي أشرنا إليها سابقا، وحال المرأة والعيب في ذلك الزمان أشير إلى أن البراءة في تلك الأيام كانت غامرة، وحرية المرأة أكبر، وكانت المرأة يمكن أن تذهب إلى السوق وربما بإمكانها أن تبيع وتشتري، والسواد على النساء كنا لا نراه إلا بثوب “الثبيت” الجميل قبل أن تفتك بنا “الوهابية”، والأفكار السلفية المتشددة التي جاءت من خارج اليمن في مستهل الثمانينيات.
مازلت أذكر كلمات عمّتي “سنبلة” أم عبده فريد مع أحد مسوِّقي التشدد والتزمُّت في قرانا في تلك الأيام، حالما كان يحاول أن يسلّم عليها بطرف أصابعه، وهو يلفها بخرقة القماش التي كان طرفاها مسدولين على جانب يديه ومدورة على عنقه من الخلف.
قالت له:
– إلى أمس يا ابني وأنت تبول فوقي.. كنت “أبوّلك” و”أخرّيك” واليوم لا تريد أن تسلِّم عليّ إلا بالمشدّة.. أني مثل أمك.. من أين أتيتم بهذا الدين؟!!
لقد كان احتجاجاً قاسياً على هذا الجحود، والتصرف السطحي الذي أبداه هذا الصغير على مرأة بسن ومقام أمه. ولكن كان هذا الجحود يتم باسم الدين، وقد اغتالوا البراءة والطيبة التي كانت بين الناس تسود رجالاً ونساءً.




