مذكرات
(5) رجل يقبّل حبيبته في الفضاء العام .. أحمد سيف حاشد
صدمة حضارية .. مذكراتي .. من تفاصيل حياتي
(5)
رجل يقبّل حبيبته في الفضاء العام
أحمد سيف حاشد
فيما كانت السيارة السوداء الفخمة التي تقلّني، تمضي بسرعة في شارع متسع نحو “السرك” في العاصمة موسكو، شاهدتُ في إحدى جنباته رجل وحبيبته مخمورين في حب عميق، وهو يلثم فمها كعاشق محترف، ثم يميل على عنقها بحنين.. لقد ذكرتني تلك القٌبلات بما قرأتُه ذات يوم عن “راسبوتين” كيف يطوّقها بذراعيه، ويحضنها بين ضلوعه، ويعجن شفتيها بين شفتيه..
برهة زمن .. نظرة مسروقة من لحظة حب مُسكرة، سكنت عمق الذاكرة، ولا تغادرها مهما مضى من عمر أو تقادمت بها السنين.. تحت شجرة وارفة، وسماء تبارك اللحظة المتفجرة بالعشق المرتعش، وحياة تموج بالوجود اللذيذ، وروح توحدت وتكثفت كسحابة مطر، بشهد لهفة اجتاحت الروح والجسد بالأبعاد الأربعة، وألق الوصل الحميم، والفرح المتوج ببهجة الحب المؤيد بالسماء، والمكتوب في الغيب منذ الأزل..
تجاوزنا المكان، والسيارة المارقة تدير ظهرها للعاشقين، وعيوني مشنوقة في المدى الذي بات فيه المكان خلفنا يتلاشى ويغيب في البعيد.. سحقت دواليب السيارة المسرعة فسحة لم تُتاح، ومهلة رجوتها، فتبددت تحت الإطار، وغرق الحال في أسوئه، وصرتُ في السيارة التي تحملني أحمل نعشي المثقل بالحرمان والحزن العميق..
في اغوار سري كتمت جام غضبي، على سائق السيارة الذي لم يمهلنِ فسحة أمعان النظر، في مشهد رأيته للمرة الأولى في حياتي التي لطالما خنقها العيب، وأعطبها الخجل، واصطلتُ بنار الحب المعذب، والمغلول بقيود المجتمع الضارب عمقه في الماضي الدميم.. حياتي التي كان حلمها الأول وصلا بمن أحب، أو لقاء حبيب..
أنا القادم من جحور العيب يا موسكو، ومن بلاد ترى الحب أنه أول أعداءها، وتنزل فيه حُكمها الصارم، صلبا وشنقا على المآذن وبوابات المدائن.. حب تُجرّمه البلاد بالعار الوخيم، وتتعقب ورثته بحمية الشرف الرفيع، فيما الشرف كله مُنتعل، ومستباح كل يوم أمام العيون والجرائد ونشرات الأخبار.. شرف مستباح من أقصى الخليج إلى المحيط.. بلاد تقمع الحب بقسوة الوأد، والحمية المتجذرة في الوعي الجلف بالبداوة المُجدبة.. وعينا المحروس بعفن القبيلة والتقاليد وما بلى.. أعراف تقطع عن وعينا الماء، وتمنع عنه الهواء.. وعينا المثقل بعصبية الحميّة التي تصلب العشق أينما ثقفت به، وتقتل المحبين بألف تهمة..
أحسست وأنا أرحل عن مشهد الحب كزهرة عباد شمس تذوي ذابلة في تعس الغروب، وعنقي المقصوف بأحمال القرون الضاربة في الزمن البعيد.. زمن الوأد والعار والنخاسة.. وذاكرتي التي تركتني أذهب، وبقيت هي حية في نفس المكان، وآويت أنا إلى بلادي التي لازالت محكومة بشيوخ الفتاوى والقبيلة، وطغاة القمع، وطغيان الظلام الكثيف..
شعرتُ أن العمر يفوت كالريح، ويمضي مسرعا نحو التبدد والضياع.. مضى العمر أسرع من سيارة ركبتها ذات يوم.. واليوم ألفية ثالثة تضرب العشرين بعدها، وما كنت أخالها تمضي على عكس حلم أروم، وجاءت الأقدار بغير ما أريد.. بت كالحصان العجوز الذي لم يعد يقوى حتى على جر خيبته..
أقطر اليوم عمري الذي ضاع، وأيامي التي فاتت وباتت فارغة كالعدم، وندم كبير يثقل كاهلي.. وعيناي شاخصتان في وجهي المغضن بالزمن.. عيناي باتت مشنوقتين بحبل من مسد، وحسرة تطويني من قمة الرأس إلى قاع القدم كقرطاس أبلاه الزمن، ولعناتي على سائق مربوط بحزام لا يتمهل ولا يلتفت..
تلك كانت بعض من قصتي مع مشهد رأيته للمرة الأولى في حياتي المعذبة.. رجل يقبل حبيبته دون أن تناله سلطة أو عيون أو فضول، غير أنا الآتي من قاع الجحيم، والمثقل بوطأة الحرمان الأشد، وهذا الزمن الذي لازال غابرا، ولازلنا نرزح تحته بأحمال ثقال، ثقل الجبال الراسيات..
***
يتبع ..
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام
أحمد سيف حاشد هاشم
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page