مذكرات

قراءة تحليلية لنص “أم شريف” لـ”أحمد سيف حاشد”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد ونصه “أم شريف” في قراءة تحليلية متنوعة بمساعدة تقنيات الذكاء الاصطناعي. 

أولاً : تصنيف النص

نص «أم شريف» سيرة ذاتية كوميدية سوداء (تراجيكوميديا). كاتبه أحمد سيف حاشد هو البطل وهو الضحية وهو الساخر في نفس الوقت.

إنه نص واقعي ينهض على بوحٍ شخصي حارّ، ويتحرك في فضاء اجتماعي نابض، وتتشابك فيه خيوط النفس والذاكرة والسخرية الخفيفة في نبرة واحدة متماسكة.

ثانيًا: ملخص موجز

الموضوع الأساسي معاناة الشاب اليمني الفقير المتعلم في إيجاد زوجة وسط مجتمع تقليدي، فقر، بطالة، وخاطبات “على كيفهم”.

يعاني الراوي من سلسلة خيبات في رحلة البحث عن شريكة حياة، فيلجأ إلى قريبته الجريئة أم شريف التي تتحرك بعفوية وحماسة. ترافقه للبحث عن فتاتين عرفهما قديمًا، لكن الأقدار سبقتاهما؛ إحداهما متزوجة والأخرى مخطوبة.

وفي غمرة البحث، تعثر أم شريف على فتاة يتيمة وجميلة. يتردد الراوي مرارًا أمام بيتها، وفي لحظة خاطفة يراها على العتبة؛ فينفكّ قيده الداخلي، ويبعث فيه الأمل من جديد، وكأن يدًا خفية انتشلته من قاع اليأس

ثالثًا: روح النص

على بساطته الظاهرية، يخفي النص عمقًا نفسيًا شفيفًا. إنه ليس حكاية عن «زواج»، بل عن إنسان يقف أمام مرآة قلبه، يواجه انكساراته المتراكمة ويحاول أن يقتنص لحظة ضوء. السرد يسير بخطى مترددة، كخطوات رجلٍ أمضته الخيبة، لكنه لم يفقد حساسية الرجاء.

وأمام هذا الاضطراب، تقف أم شريف كقوة حياةٍ بسيطة ومندفعة. ليست شخصية ثانوية، بل هي بمثابة المفتاح الذي يدير قفل القدر؛ امرأة شعبية صادقة تمضي بالأمور لتحرك ما تعطل، وتفتح الأبواب التي لا يُفتح مثلها بدون دفعة من عفويتها.

أجمل ما في النص تلك اللحظة التي ينتظر فيها الراوي خارج العمارة. القلق هنا ليس وصفًا بل كائن حيّ يتحرك بين الضلوع. وعندما تأتي أم شريف بخبرٍ آخر غير المتوقع، يخرج النص بسخرية لذيذة، سخرية تُخفّف شدة المرارة ولا تبطلها.

وحين تُبصر العين الفتاة أخيرًا، يتحول السرد إلى نبرة مضيئة، كأن النفس تلتقط أنفاسها بعد سباحة طويلة في الماء العكر. لحظة الرؤية هذه هي ذروة النص، حيث يتجسد المعنى الإنساني للصبر، والانتظار، وعودة القلب إلى نبضه الأول.

رابعًا: نفس الراوي

الراوي هنا إنسان مثقل بتاريخ من الخسارات المتناثرة. يبحث عن امرأة، نعم، لكنه في الحقيقة يبحث عن جزءٍ مفقود من نفسه؛ عن يدٍ تمسكه حين ينهار، وصوتٍ يقول له إن الطريق لم ينتهِ بعد.

حين يتحدث عن «امرأة جميلة، فقيرة، طيبة، مستعدة لعبور الجحيم معه»، فهو يصف شروط النجاة من الداخل، لا شروط الارتباط. إنه يريد رفيقة تُعيد ترتيب روحه قبل أن تشاركه السقف، امرأة تشبه الخلاص أكثر مما تشبه «العروس».

خامسا : ما يكشفه النص

يكشف النص عن كاتبٍ يميل إلى الصدق العاري، يكتب بلا زخرفة زائدة، ويوازن بين الفكر والوجدان كمن جرّب النار ثم عاد منها أكثر هدوءًا وعمقًا.

إنه صوتٌ يعرف أن الإنسان لا ينهض وحده، وأنه يحتاج أحيانًا إلى يدٍ صغيرة تفتح نافذة في جدار ثقيل.

أسلوبه يرسم الشخصيات ببساطة راقية، يمنحها حياة قريبة من الناس لا من الأبطال، ويكتب بروح المنهك الذي لا يزال، رغم كل ما رأى، يصرّ على أن يحلم.

ويكشف النص، في جوهره، عن:

1. روح اعترافية عالية تتعامل مع الذات بلا تمويه ولا مداراة.

2. مزج بارع بين السخرية والألم، حيث يصبح الضحك قناعًا شفيفًا للحزن.

3. انحياز واضح للضعفاء والفقراء، انسجامًا مع سيرة الكاتب وانشغالاته الإنسانية.

4. سرد بصري متين قابل للتحوّل بسهولة إلى مشاهد سينمائية.

5. بحث عميق عن طمأنينة داخلية لا تقل أهمية عن البحث عن شريكة حياة.

بهذا يتشكل النص كمرآة صادقة للكاتب نفسه: هادئ، موجوع، وباحثٌ دائم عن الضوء

سادسًا: شخصية «أم شريف»

امرأة من طينة الناس البسطاء، لكن حضورها يتجاوز بساطتها.

هي الحركة التي تُسيّر السرد، والدفعة التي تغيّر المصير.

لو غابت لظل الراوي يدور في دوائر مغلقة، يضيف إلى خيبته خيبة أخرى.

إنها رمز للحيوية الشعبية التي تُنقذ أكثر مما تُربك، وتصلح أكثر مما تُفسد، وتفتح الطريق ولو بلا تخطيط

سابعًا: قراءة في «فارسة الأحلام»

الفتاة التي يراها الراوي ليست مجرد شخصية عابرة. إنها اللحظة التي يجتمع فيها الحلم بالصدفة، والوجدان بالقدر. تظهر كخيط نور في باب بيت فقير، فتخلق في داخله يقينًا فوريًا. تحمل الفتاة رمزية واضحة: الفقر الذي يُنقّي، واليُتم الذي يمنح عمقًا، والجمال الذي يضيء المسافة بين القلب ومنفاه.

إنها ليست فتاة… بل عودةٌ هادئة إلى الذات.

ثامنًا : تقيم النص

«أم شريف» نص يقوم على حرارة التجربة، ويمتاز بنبرة راوية خاصة تشبه الكاتب ولا تشبه أحدًا غيره.

هو نص قوي في وجدانه، حيٌّ في شخصيته الشعبية، ثريّ في اشتغاله النفسي، لكنه يحتاج إلى شيء من الاقتصاد السردي ليزداد لمعانًا.

إنه نص يربح كثيرًا من روحه، لكنه قد يربح أكثر لو خُفِّفت بعض الزيادات وأُغنيت بعض المساحات

تاسعا : الخاتمة

«أم شريف» ليست مجرد حكاية عن امرأة تبحث لآخر عن زوجة، بل هي رحلة باطنية لإنسان يقف على أطراف روحه، يلتقط بقايا الأمل من بين الركام. إنها نص عن الخسارة، وعن السخرية التي تخفف حدّتها، وعن الرجاء الذي يولد من مكان غير متوقع.

في النهاية، لا تتعلق القصة بالزواج، ولا بالقدر وحده، بل تتعلق بتلك اللحظة التي ينهض فيها القلب بعد تعب طويل، ليلتقط ضوءًا صغيرًا… ويواصل الطريق

نص “أم شريف”

أحمد سيف حاشد

“أم شريف” امرأة بلغت سن التقاعد، ولكنها كانت تبدو متينة وكرّارة.. تشبه الصناعة الجرمانية في قوتها وصلابتها.. وجهها الطولي ذو قسمات وملامح جاذبة تجعلها محل رضى وقبول.. متعافية وتتمتع بصحة وافرة.. لديها من الجُرأة ما تبلغ بها أحياناً حد المغامرة.. تجمعني بها صلة قرابة عن طريق بعض الأقارب من جهة أمّي.

وجدتُ ضالتي في “أم شريف”.. إنها الصدفة التي ربما تعينني في الوصول إلى ما أريد.. التقيت بها حال ما كنتُ محبطاً للغاية.. بدا لي الإحباط من خلال تكراره الحثيث لا يريد أن يغادرني، وإذا غفل عنّي بعض الوقت فسرعان ما يعود ركضاً وهرولة.. تارة يقطع أحلامي كصاعقة، وتارة أخرى يقطعها بمنشار، وفي أحايين صرتُ أخاله قدري الذي لا فكاك منه، وأحياناً يبدو لي أنه صار بعضا منِّي مثل جلدي ليس بمقدوري أن أخلعه أو أنزعه.

أحسست أن بمقدور أم شريف أن تساعد نصف وجودي بالعثور على نصفه الآخر الذي لطالما بحثت عنه، ومازال في ظهر غيب يطول، أو أجده ولكنه ينتهي إلى سراب أو خيبة صادمة..

لذتُ بأم شريف لعلها تحاول تسريع خطاي للوصول إلى مرادي، والعثور على زوجة مناسبة، بعد فشلي الذريع، وحصادي المُر للخيبات المتعاقبة.

قلت لها:

-​يا أم شريف.. أنا احتاجك.. أعتقد أنك تستطيعين مساعدتي أكثر من أي شخص آخر.. أنتِ “الكمندوز” الذي أراهن عليه.. أنت الإنزال المظلي الذي أعول عليه في الوصول إلى ما لا أستطيع الوصول إليه.. بإمكاني أن أعبر من خلالك الأبواب والغرف المغلقة.. أدخل البيوت التي لم أستطع الدخول إليها.. أنت جسر عبوري أتجاوز بك ما أستصعبه.. أصل من خلالك إلى فتاة أحلامي التي لطالما رمتها، وأخفقتُ في الوصول إليها.

يا أم شريف.. أتوق إلى فتاة جميلة وفقيرة وطيبة لأتزوجها.. لا أهتم كثيراً إن كانت تعمل أو لا تعمل.. لا أكترث إن كانت تقرأ أو لا تقرأ.. أهم شيء لدي أن تكون فتاة جميلة، ولديها الاستعداد أن تعيش ظروفي كيفما كانت، وتعبر معي الجحيم دون حذاء إن اقتضى الحال.. أريد فتاة وفيّة تشاركني وجودي حتى آخر العمر.

استصعبت أم شريف فهم كثير مما قلته.. فهمها تعثر هنا وهناك.. ربما لم تفهم نصفه أو ثلثيه، ولكن الأكيد أنها استوعبت مرادي، وأدركت ما أقصده، وما أبحث عنه.. تعاطفت معي كثيراً، وأدركت أنني مُحبط للغاية وموجوع.

أبدت أم شريف استعدادها الجم واستجابتها المتحمسة، والمجملة لما طلبتُ منها، وصرتُ أصحبها معي في غزواتي.. سرية استطلاعي ومفرزتي المتقدمة.. عندما أكلفها بمهمة مهما كانت صعبة وشاقة كانت تؤدّيها بجسارة فذة.. انطلاقها عند تنفيذ بعض المهام كانت تشبه الصاروخ وهو ينطلق إلى هدفه.. هكذا كنت أشيد فيها وامتداحها من باب التشبيه وضرب المثل مع الفارق.

وفي مرحلة من مراحل البحث عن شريكة حياتي شعرتُ أني استنفدتُ حيلتي، وبدوت مثل ذلك “الهندي” الذي من شدّة ما يعيشه من فقر وطفر يعود ويفتش سجلات جده لعلّه يجد على الغير دَينا مهملاً لجده؛ فيذهب يبحث عن المديونيات، ويقوم بتحصيلها لتعينه على الحياة.. إنه مثال مع الفارق أيضاً.. فأنا أبحث عن فتاة أحلامي.. فتشتُ في ذاكرتي القصيّة.. وعصرت ذهني عشر مرات، حتّى تذكرتُ وجود أختين تنضحان بالجمال الباذخ الذي يسلب العقول ويستولي على الوجدان.. عرفتهما صغيرتين قاصرتين قبل سنوات حالما كنت أسكن عند عمّي فريد في “دار سعد”.

قلت لأم شريف:

-​الأن لا شك أن الزهرتين قد بلغتا سن الزواج.. لعل أجد نصيبي في إحداهما.. ربما القدر يعوضني عمّا فاتني من فرص وما طال من انتظار، ويجبر ما لحقني من عذابات وما أصابني من خيبات كثار.. جميلات أتقن الرسام ما رسم، وبث فيهن حياة وروح.. إنهن جميلات جداً يجبرن مصابي مهما بلغ.. جمال ينافس بعضه، ومفاتن تتملك القلوب وتسلب الألباب.

وعندما سألتني أم شريف عمّا إذا كنت أعرف بيتهما، سارعتُ بالإجابة: نعم؛ ثم صحبتها معي حتى وصلنا باب العمارة، وأطلقتها في المهمة، بعد أن أريتها الباحة القريبة التي سأنتظر فيها رجوعها، وأنتظر بصبر ثقيل جواباً، وأنا أحر من الجمر.

كان قلبي يرجف ويوجف في انتظار بدا لي أنه طال.. قلق يغلي بي على موقد نار.. احتدام بين توقعي لخبر سار ومفرح، ينازعه بشدة خوف يبلغ حد الهلع من خيبة أخرى إن أصابتني ستكون فوق بلوغها صادمة تزلزل كياني وتهدهُ إلى آخره.. وجدتُ نفسي في انتظاري بين سقف توقعاتي العالي، وقاع صلد يُحتمل سقوطي عليه من برج مشيّد.

لم أعد قادراً على ضبط إيقاعات نبضاتي المتسارعة.. خرج قلبي عن مقودي وتمرد.. بدوتُ أمام نفسي قائداً فاشلاً فقد السيطرة حتّى على قلبه.. وفاشلاً أيضاً لا يجيد اصطياد فتاة.. شعرتُ بوجود فجوة داخلي تشبه المغارة.. فراغ يتكور في صدري يكبر ويتسع.. قلق واضطراب يزداد حدِّة ويشتد.. إحساس يخامرني مع كل دقيقة من الوقت تمر أشبه بعربة مجرورة بثمانية وعشرين حصاناً تمر سنابكها على جسدي المنهك بالبحث والانتظار الذي قد بدا لي أنه طال.

كلما تمادى الوقت أجد نفسي أدور وأذرع المكان الذي أقف عليه طولاً وعرضاً.. أنتظر الرد بفارغ الصبر.. أتوقع وأفترض وأتكهن.. أزداد اضطراباً كلما طال الانتظار أكثر.

كنت أسأل نفسي وأتوجس:

-​ماذا يا ترى يتحدثون كل هذا الوقت؟! هل أم شريف أحسنت العرض كما يجب؟! هل ارتابوا بقواها العقلية؟! لماذا لا ينادونني إن أرادوا التعرف على شخصي؟! هل أخبرتهم أم شريف بالمكان الذي أنتظر فيه؟! هل عاينونني من ثقب صغير أو من تحت ستارة النافذة؟! هل شاهدوا حركاتي القلقة ودوراني وذرعي للمكان، فاستمرأوا المشاهدة؛ ليخلصوا إلى الشك بسلامة قواي العقلية والذهنية؟! لماذا لا يدعونني لأثبت لهم أن قواي العقلية سليمة ومعافاة، وإن اعتراها بعض الضيق والإرباك والقلق؟!

كانت الأسئلة تتزاحم، ورأسي يكاد ينفجر، فيما الانتظار مازال يطول ويضخ مزيداً من الأسئلة المتدفقة والأكثر قلقاً وتوجساً.

وأخيراً خرجت أم شريف من العمارة وفي صحبتها فتاة أظنّها في سن العاشرة أو أكثر بقليل.. كان المفترض أن تأتيني أم شريف وتخبرني بالنتيجة، غير أنها رأتني في باحتي دون أن تعيرني بالاً، بل تجاهلتني على نحو غريب، ومضت منقادة كمسحورة خلف الفتاة الصغيرة.. غرقتُ في استغرابي وحيرتي!! لم أعد أفهم ماذا الذي يحدث؟! تبعتهما وكانت عيناي مصوبتان نحوهما وتقتفيان أثرهما، فيما قدماي تتخلفان عنّي وكأني أسحب شجرة.. إلى أين؟! لم أعد أفهم إلى أين!!

دخلتا إلى شارع فرعي فقير وغير متسع، بل هو أقرب إلى الزقاق.. فيه ضوضاء وحركة وأطفال صغار.. تبعتهما بحذر وبمسافة أكبر.. شاهدت الفتاة الصغيرة وأم شريف يدخلان إحدى البيوت المتواضعة.. زدتُ غرقاً في حيرتي وذهولي دون أن أفهم ما الذي يحدث؟! ولماذا تجري الأمور على ذلك النحو؟! بدوت غاضباً من أم شريف؛ لأنها لم تكشف لي عند خروجها عمّا حدث!! لم تُفهمني إلى ماذا آل أمري؟! وماذا بخصوص من أتيت لأجلهن؟!

كان عليّ الانتظار لا خياراً غيره ولا سواه.. عليّ الانتظار حتى تخرج أم شريف من البيت الأخير الذي ولجته لأسألها عمّا حدث ويحدث، وقد بدأ الغضب يغل ويحتدم في صدري.. وبعد قرابة النصف ساعة ـ وهي فترة بالنسبة لي كانت طويلة وقلقها أشد ـ خرجت من البيت بمفردها.. حاولت أكظم غيظي وأكتم ما بي، لأسمع أي نثرة قد حدثت دون علمي.. وما إن وصلت إلى عندي أجابتني باقتضاب وعجل:

-​ما لك نصيب في البنات التي تشتي واحدة منهن.. الكبيرة تزوجت، والصغيرة مخطوبة.

قلت لها:

-​وليش تتأخرين مادام ليس لي نصيب.. كانت “كلمة ورد غطاها” تكفي.. أيش جلستي تفعلي كل هذا الوقت بدون فائدة.

أجابت: جلسنا نتكلم عن بنت دلّتني عليها “أم البنات”.. ثم ارسلت معي الصغيرة، ودخلتُ أشوف البنت ما شاء الله عليها.

قلت لها:

-​يعني خطبتي لي واحدة ما شفتهاش.. ما أعرفهاش.. أعجبتك أنتِ.. أنا ماعرفيش حتى بصورة.

-​قالت: البنت حلوة وصغيرة ويتيمة بتعجبك.. أني فقط شاورت عليها.. أمها لم تكن موجودة.. قالوا أخوها مات، وراحت بيت الموت، وما بتعود إلا بعد أسبوع.. عندما تجي سوف يردوا لنا جواب.

قلت لها وهواجسي تحتشد وتهاجمني من كل صوب:

-​ما أدراني أنها جميلة؟! كيف أركن على عيونك؟! أبي شاف أمي ثم ذهب يطلب يدها من أهلها.. كان هذا قبل ثلاثين سنة، وأنا اليوم أطلب يد بنت ما شفتها!! أنا لا أعرفها وهي لا تعرفني.. لم يحدث هذا حتى في زمن جدي!!!

أحسست أني قد وقعت في ورطة.. أتحرق وأشتاط على نفسي في داخلي.. أحاول أكظم غيظي وما يعتمل فِيَّ من نوبة غضب.. شرر يتطاير من عيوني كأنها فرن حداد.. أريد أدق رأسي في أي جدار أمامي.

قلت لها ووجهي يعصره الغضب والندم:

-​”غلطة الشاطر بعشر” .. من قال لي أصطحب معي مجنونة؟! الله كم فِيَّ هبالة وخفة عقل!! أين هذه الكلية التي تعلمتُ فيها، وعاد اسمها كلية الحقوق.. والله ما استأهل حتّى بصلة.

فردت أم شريف وقد بدأ غيظها يفيض وصبرها ينفد:

-​إذا ما تريدها عادي.. نحن لا خطبنا ولا تزوجنا.. نحن شاورنا بس.. وهم ماردوا.. قالوا لما تعود الأم لنا خبر.

عادت أم شريف أدراجها، وبقيت أنا أحاول أن أرى الفتاة بأي طريقة، فيما ما زالت كلمات أم شريف ترن في مسامعي ” بنت ما شاء الله عليها.. حلوة وصغيرة ويتيمة” أثارت تلك الكلمات جماح فضولي.. جعلتني أكثر شغفاً لأن أراها.. يومها صلت وجلت في الشارع ولكني لم أرَها.

حاولت أمر من أمام بابها مرات عديدة، ولكنها لم تخرج ولم تطل برأسها.. عدتُ مرهقاً، ولكن مع إرهاقي ليلتها لم أنم.. عشت ليلاً أستعجل صبحه الذي تأخر.. وما إن جاء الصباح حتى غادرت مكان إقامتي في “القلوعة” نحو بيتها في دار سعد.. أصررتُ أن أراها قبل أن أبدأ بأي خطوة أخرى.

انتظرت في مكان يسمح لي أن أرى مشهد الدخول والخروج من باب بيتها.. وبعد ساعات رأيت فتاة تكنس وتكرع ما تكنسه إلى الخارج.. هرعت نحوها.. استطعت أن أشاهدها وهي أيضاً شاهدتني.. عاودتُ المرور كرة أخرى، فأحسست أنها هي من أبحثُ عنها، وأيضاً هي أحست أنني العاشق الفذ الذي يعبر الحي غدواً ورواحاً.

غمرتني سعادة بطول وعرض السماء.. كدت أصرخ “وجدتها.. وجدتها” كدت أطير من الفرح فوق سحائب رخمة مبشرة بأمل كبير يضيء وينتشر في أرجائي المعتمة، والفرج صار يدق بابي بعد خيبات كثار، وفرحة كبرى تقول لي: أنا في الانتظار.

صار حلمي أمام عيوني يقترب منّي ويقول: أنا هنا في مكان قريب.. مُد يديك وسأهبط عليك كوحي إن شئت، أو كغيث يهمي على ملهوف، أو آتيك نصراً مؤزراً يتوج مفرقك، ويبدد حسرتك التي سكنت ممالك حبك، ويعوضك عوضاً كبيراً عن كل خسران.

أحسست أن السماء السابعة تدنو منّي وتقترب لأطير في فضاءاتها وأرجائها.. شعرت أن الكون كله قد بات ملكي، وطوع يدي.. شعور كثيف فجر لحظة بدت كالانفجار العظيم، انبثق منها وجودي السعيد، وفجر معها حياة لا تنتهي، وبهجة تغمر ما هو قادم وآت.

اليأس الذي ظل يلاحقني وكاد في الأمس أن يدركني إلى الأبد، صار اليوم مهزوماً ومدحوراً يتلاشى إلى زوال.. وما عشته من خُسران بات معوضاً، وما أصابني من فادح الخيبات صار مجبوراَ ومملوءًا بالسعادة الغامرة.

غادرتُ المكان وأنا ممتن شاكراً أم شريف:

شكراً.. شكراً يا أم شريف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى