مذكرات

قراءة تحليلية لنص “اسحقوا مخاوفكم” لـ”أحمد سيف حاشد”

برلماني يمني

قراءات متعددة في نص «اسحقوا مخاوفكم» للكاتب والبرلماني أحمد سيف حاشد، باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي..

مدخل عام

في نصه القصصي «اسحقوا مخاوفكم»، يقدّم الكاتب والبرلماني اليمني أحمد سيف حاشد نموذجاً فريداً للأدب التحرّري. إنها حكاية تبدأ من ذاكرةٍ فرديةٍ لشاب يخاف الأشباح في طريق العودة إلى قريته، لكنها تنتهي بنداءٍ إنساني شامل يدعو إلى تحرير الوعي من الأوهام التي تصنع الطغيان.

ينطلق الكاتب من مشهدٍ شخصيٍّ في مواجهة «شبحٍ» ليعيد تأويله بوصفه استعارة كبرى للخوف السياسي والاجتماعي الذي يهيمن على الوعي الجمعي. ومن هنا يتحوّل النص من حكاية ذاتية إلى بيانٍ تحريضيٍّ إنساني يدعو إلى تحطيم الوهم بوصفه شرطًا للتحرر.

تبدو القصة قصيرةً وبسيطة، لكن ما وراء الحدث السردي الصغير يبرز سؤالٌ وجودي وسياسي أعمق: كيف تُصنع الشجاعة؟ وكيف تتبدّد أوهام الرهبة؟ وكيف يتحوّل الخوف إلى تصميمٍ ومقاومةٍ ووعيٍ جديد؟

البعد الرمزي والاستعارة السياسية

يتجاوز النص حدوده السردية ليغدو استعارةً سياسيةً واضحة، تتجسّد من خلالها مفاهيم السلطة والخوف والتحرر:

الشبح: يرمز إلى السلطة المستبدة ووهم قوتها.

النخلة: تمثل الحقيقة المغيّبة خلف ستار الخوف.

المسدس: يرمز إلى أدوات المقاومة والإمكانات الفردية.

الظلام: هو الجهل الجمعي الذي يهيئ الأرض للطغيان.

ومن خلال هذه الرموز، يوجّه الكاتب رسالته إلى المجتمع:

«لا تسمحوا للأوهام أو للسلطة أن تعيدكم إلى الوراء مهزومين، حتى وإن بلغ بكم الرجوع إلى بطون أمهاتكم.»

الأسلوب الفني

يجمع النص بين السرد الواقعي والتكثيف الشعري. فالسارد بضمير المتكلم يمنح القصة صدق التجربة وقوة التأثير. تتصاعد الأحداث في حبكةٍ مشوّقة تنتهي بانفراجٍ رمزي حين يتحوّل الرعب إلى وهمٍ منقشع.

على الصعيد الفني، لا تمثل المفاجأة في النهاية مجرّد حيلة سردية، بل تحوّلاً فكرياً يكشف طبيعة الصراع الحقيقي: ليس بين الإنسان و«الشبح»، بل بين الإنسان وخوفه من هذا الشبح. وهنا يلتقي البعد الجمالي بالبعد الفلسفي، إذ تصبح المواجهة الفردية مرآةً للمواجهة الجماعية ضد أنظمة القهر التي تتغذّى على الجبن الجمعي.

الرسالة الأساسية

يقدّم الكاتب عبر القصة استعارة مكثفة عن واقع المجتمعات الخاضعة للاستبداد، حيث تُهزم بالإرادة أولاً قبل أن تُهزم في الميدان.

الكاتب ينتقد قبول الأفكار الجمعية دون تمحيص، ويرى أنها تشكل سجناً نفسياً للفرد.

الرسالة الجوهرية تتمثل في الدعوة إلى تحرير العقول من الخوف ومن قيود التبعية والخضوع، وسحق الأوهام التي تستعبد الشعوب وتُبقيها ذليلة.

«ابدأوا بتحرير الوعي أولاً، وستسقط الأشباح بعدها حتماً.»

البنية السردية والدلالية

يعتمد النص على التدرّج التصاعدي في البناء السردي: يبدأ بلقطةٍ حسّيةٍ مشحونة بالخوف، يتطور نحو الإدراك، لينتهي بالكشف وتبدّد الوهم.

اللغة تقوم بوظيفة مزدوجة: وصفية في البداية، ثم تحريضية في الخاتمة.

هذا التنوّع يمنح النص توازناً بين الانفعال والتفكير، بين الحكاية والرؤية، وهو ما يخلق طاقةً درامية وفكرية متكاملة.

رمزياً، يمثّل «الشبح» الخوف الجمعي، بينما تمثّل «النخلة» الحقيقة المستترة التي تُستعاد بالفعل المعرفي والشجاعة. وهكذا يصبح النص رحلة في الوعي من ظلمة الانفعال إلى نور الإدراك.

فلسفة المواجهة

يرى الكاتب أن الخوف هو العدو الأول للإنسان، وأن الهروب لا يخلّص بل يضاعف الجراح.

النص دعوة إلى ميلاد وعيٍ جديد يواجه الظلام بدل الالتفاف حوله، وينطلق من لحظةٍ محليةٍ في طريقٍ مهجور ليصل إلى دلالةٍ كونية تقول:

«الأشباح الحقيقية لا تسكن الظلام، بل تسكن عقول البشر.»

مكامن القوة والضعف في النص:

1 – نقاط القوة

المزج المتقن بين الفلسفة والسرد الفني.

البناء الدرامي المتصاعد والمشوق.

اللغة الشاعرية المتوترة بالانفعال.

عمق الرمزية واتساعها.

تحويل القصة الشخصية إلى رسالة إنسانية عالمية.

2 – نقاط الضعف

الإطالة في بعض المقاطع الخطابية.

التحول من الرمز إلى الخطاب السياسي المباشر في الختام، مما يُضعف قليلاً من جمالية التلميح الأدبي.

3 – التقييم العام

النص يمثل عملاً أدبياً ناضجاً يجمع بين السرد القصصي والعمق الفلسفي، حيث تتفوق عناصر القوة على الملاحظات التقنية البسيطة.

القيمة الأبرز فيه هي تحويل التجربة الفردية إلى استعارة كبرى عن مواجهة الاستبداد والتحرر من الخوف.

من التجربة السردية إلى التجربة السياسية

تتجاوز دعوة حاشد إلى «سحق المخاوف» حدود الأدب لتصبح امتداداً لمسيرته في مقاومة الخوف داخل الحياة العامة والسياسية.

فالشبح الذي واجهه في الطريق هو ذاته الذي يواجهه المواطن أمام السلطة، أو في صمت المجتمع، أو في رهبة التاريخ.

كما انكشفت «النخلة» في نهاية القصة، ينكشف في الوعي الجمعي زيف المقدسات السياسية والدينية والاجتماعية التي تُخضع الإنسان.

إنه نصٌّ يقف على تخوم الأدب والفكر، بين الشهادة والتحريض، بين التجربة الذاتية والرسالة الإنسانية.

«اسحقوا مخاوفكم» ليست عبارة ختامية فحسب، بل وصية وعيٍ وموقفٍ وجودي تعبّر عن سيرةٍ كاملة في مقاومة الأشباح الكبرى:

الاستبداد، الفساد، القداسة الزائفة، والصمت المذلّ.

مقاربات فكرية

– يشترك النص مع فكر لا بويسي في أن الاستبداد لا يقوم إلا على تواطؤ الخوف، وأن الطاغية يستمد سلطته من رضوخ الناس.

وكما يقول لا بويسي: «كفّوا عن خدمته، فيسقط»، يقول حاشد ضمنًا: «اسحقوا مخاوفكم، فيسقط الطغيان». كلاهما يجعل تحرر الذات شرطًا للتحرر الجماعي.

– يُقارب النص رؤية ألبير كامو في فلسفة التمرد بوصفه فعلَ وعيٍ يبدأ بالرفض؛ فقرار الراوي بعدم التقهقر أمام الوهم يشبه لحظة الوعي الكاموي التي تقول «لا» للعبث، و«نعم» للوجود الفاعل.. لكن تمرد حاشد يتخذ بعدًا أخلاقيًا أكثر منه وجوديًا؛ فهو يقترن بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية.

– يُلاقي النص فكر فانون في تأكيده أن التحرر النفسي من الخوف والدونية هو المدخل لأي تحرر سياسي حقيقي. لكنّ الاختلاف يكمن في الوسيلة: فانون يدعو إلى الثورة العنيفة، بينما نص حاشد يستبقي المواجهة في مستوى الوعي والفعل السلمي، ليجعل من المسدس رمزًا للقوة الكامنة لا وسيلة للقتل.

– تلتقي رمزية الشبح/النخلة في نص حاشد مع رمزية «الجبلاوي» عند محفوظ. كلاهما يجسّد فكرة السلطة الموهومة التي تهيمن بالخرافة لا بالقوة. لكن حاشد يقدّم معالجة أكثر إيجازًا ومباشرة، تستهدف التحريض والتنوير أكثر من إعادة إنتاج الأسطورة.

الخلاصة

يمثل «اسحقوا مخاوفكم» نموذجاً للأدب التحرّري الذي يحوّل التجربة الشخصية إلى مشروع نقدي للمجتمع والسلطة.

إنه بيان أدبي في فلسفة الحرية والمواجهة، يعيد للأدب دوره بوصفه قوة مقاومة ومعرفة في آنٍ واحد.

يكشف النص أن «الأشباح» الحقيقية لا تسكن الأماكن المهجورة، بل تعيش في العقول، وأن المعركة الحاسمة هي معركة وعي قبل أن تكون معركة وجود.

وبذلك يقدّم أحمد سيف حاشد أدباً يتجاوز الحكاية ليصبح صرخة وعيٍ وإنذار ضميرٍ إنسانيٍّ ضد الاستبداد والخوف

***

اسحقوا مخاوفكم

أحمد سيف حاشد

في نهاية سنة أولى على الأرجح من مرحلة الثانوية، سافرت من عدن عائداً إلى القرية عن طريق منطقة “شعب” التي كنّا نحط فيها الرحال لبعض الوقت تارة عند سعيد وأخرى عند أديب، وقبلها عند الحاج محمود لنستريح حتى يأتي الغلس، ثم ننتقل منها إلى قريتنا البعيدة عبر طرق تحتال على نقاط أمن الشمال.

كانت هناك مزاعم قديمة في ذهني من أيام الطفولة الأولى تحكي أن المنطقة الخالية من السكان في “موجران” تحت الدار الأبيض من جهة الشمال الشرقي، مسكونة بالأشباح والعفاريت، وقد كان لي في هذا المكان حكاية ذات دلالة.

كان الغلس قد بلغ أوجه، وكنت حينها أحمل بيدي مسدساً نوع “تاتا” روسي الصنع، معمراً وجاهزاً لإطلاق النار، والتعامل مع أي مفاجأة أو طارئ قد يعترض طريقي في ذلك المكان أو في غيره من أمكنة الطريق.. كان المسدس يعطيني شعوراً بقدر من الأمان والثقة الكبيرة بالنفس حتى مع الأشباح التي بات اعتقادي بوجودها يتضاءل، أو صارت معتقداتي بها أقل حدة بكثير من تلك التي كانت تعيش في ذهني أيام طفولتي الأولى.

فجأة وفي المكان الخالي والتي تكثر فيه مزاعم الأشباح والعفاريت، شاهدت شيئاً أسود.. مميزاً يشبه الشبح، ظل يكبر.. شبح أكثر سواداً مما حوله.. بدا لي جسماً ضخماً يقارب حجم الفيل.. يتوسط الطريق وكأنه جاهز لاعتراض طريقي، بل أحسست أني وطريقي بتنا مُستهدفين منه.

أردت أن أنحو نحو اليمين بعيداً عن هذا الذي أشاهده وسط الطريق ملتبساً في الظلام، متجنباً الصدام معه على افتراض وجوده.. تنحيتُ يميناً في محاذاة الجبل، ولكني شاهدته ينحو معي نحو اليمين، أعدت المحاولة على نحو معاكس، في الاتجاه الآخر نحو اليسار، فوجدته أيضاً ينحو معي في المقابل نحو اليسار.. إنه يعترض طريقي أينما ملت.

توجست أكثر وقلت لنفسي: يبدو هذا الشبح الضخم لا يريد لي المرور من ذلك المكان، ولكن لا طريق سواه.. لا معبر الآن غيره ممكن ومتاح.. التقهقر والعودة إلى الوراء من حيث أتيت عاراً وعيباً إلى آخر العمر.. ماذا أقول لمن أعود إليهم؟! هل أقول عفريت اعترض طريقي؟! هل أقول لهم شبح ردّني من وسط الطريق؟! أم أقول إنني رعديد وخائف وجبان؟! ثم حتى إن عدتُ لأبحث عن مسلك آخر بعيد، أظل أمام نفسي ذلك الرعديد الجبان على الأقل أمام نفسي.. وأجيب على نفسي بحزم وتحدٍ: لن أعود مهما بلغت كلفة المرور.

ثم أن خزنة المسدس محشوة بالرصاص، ورصاصة واحدة قادرة أن تقتل فيلاً أو على الأقل أن تعوقه.. فما البال والمسدس في خزنته ثماني طلقات، والتاسعة في بطن المسدس، جاهزات للانطلاق، تنتظر ضغطة بسيطة على الزناد، ومتابعة الإطلاق.

يجب أن أتقدم إلى الأمام ويكون ما يكون.. لا خيار لي إلا التقدم في مواجهة هذا الشبح المريب في مقصده.. أخذت أتقدم نحوه مع وضع من الانحناء والجاهزية لإطلاق الرصاص.. أتقدم رويداً رويدا.. خطواتي صارت أكثر مخاتلة مع تقدم حذر إلى الأمام نحو ذلك “الشبح” الذي كان قد تبدّى لي ضخماً ومرعباً..

سبابتي معقوفة بجاهزية تامة على الزناد.. بدت لي مشحونة بإرادة الضغط في حالة اصطدامي بأي هول أو مفاجأة.. أرسل وعيي إشاراته إلى أعصابي كلها، بما فيها يدي وسبابتي الجاهزة للضغط على الزناد.

برمجتي العصبية باتت تسري في كل أوصالي، وبثقة أنها لن تخذلني مهما كان هول المفاجأة.. صرت جاهزاً واوثقاً من مسدسي وبرمجتي العصبية التي تسكن مربض سهامها في إصبعي المعقوفة على الزناد، والجاهزة لإطلاق النار على الفور.

تقدمت إلى الأمام في وضعية منحنية ومتسللاً نحو ذلك الشيء الملتبس لاكتشف ماهيته.. إصبعي على الزناد تتحين لحظة الضغط، والمسدس المسدد إلى الشبح في وضعية الجاهزية الكاملة لإطلاق الرصاص في أي لحظة.

تقدمت أكثر وأكثر.. اقتربت ودنوت من الشبح، وعندما صرت قريباً منه، وعلى شفق خفيف تفاجأت على نحو غير ما توقعت.. اكتشفت أنها نخلة متوسطة الحجم، وريح خفيفة تحرك سعفها، وبالتباسها بالظلام وبقايا الوهم القديم الذي سمعته عن المكان بدت لي كشبح يميل يميناً ويساراً حتى توهمت أنه قاصد اعتراض طريقي ومنعي من المرور، أو تحمل النتائج في حال إصراري على هذا المرور.

* * *

انكشف كل شيء وتبدد كل وهم، وأولهما وهمي ومخاوفي.. تنفست الصعداء وأنا أضحك من نفسي على نفسي.. نصحت من حكيت لهم قصتي أن يتغلّبوا على مخاوفهم، وأوهامهم، ويتغلبوا على الأشباح التي تريد أن ترجعهم من حيث أتوا، حتى وإن بلغ بهم هذا الرجوع إلى بطون أمهاتهم. 

بإمكانكم هزيمة الأشباح إن هزمتم أولاً وهمكم وخوفكم الذي يتسلط عليكم ويستبد بكم.. حرروا وعيكم أولاً من أوهام تستعبدكم وتجعلكم خانعين أذلة، لا حول لكم معها ولا قوة.. لا تسمحوا لها أن تُرجعكم على أعقابكم مهزومين مدحورين بخزي وعار وشنار.

بمقدوركم أن تهزموا كل الأشباح حتى دون مسدس أو بندقية، ولكن بإرادة لا تعرف الهزيمة.. بإمكانكم الإطاحة بكل سلطة مستبدة مهما بدت قوية إذا ما حررتم وعيكم، وانتصرتم على أوهامكم، وسحقتم مخاوفكم، وعقدتم العزم على إسقاطها أو تحطيمها مثل أي صنم، حتى وإن كان “هُبل”.. بإمكانكم هزيمة من هو أكبر من هُبل، بل وكل سلطة طاغية ومستبدة. 

* * *

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى