مذكرات

قراءة تحليلية لنص “أريد أن أطمئن” لـ”أحمد سيف حاشد”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد ونصه “أريد أن أطمئن” في قراءة تحليلية متنوعة بمساعدة تقنيات الذكاء الاصطناعي. 

الكتابة حين تصبح مرآةً للروح 

في المشهد الأدبي اليمني المعاصر، يطلّ أحمد سيف حاشد بوصفه صوتًا متعدد الأبعاد؛ يجمع بين التجربة السياسية والنضال الحقوقي والرهافة الإبداعية، ليقدّم سردًا يتجاوز المألوف ويغوص عميقًا في طبقات النفس. ويأتي نصّه «أريد أن أطمئن» كتجربة إنسانية شفافة، تُمسك بلحظة يتقاطع فيها نور الحب مع ظلال الخيبة، ويتجاور الرجاء مع خوف أثقلته التجارب.

منذ الأسطر الأولى، يبدو الكاتب كمن يعبر داخله بحذر، يمشي في حقلٍ تتناوب فيه الأضواء والظلال؛ يقترب من اليقين ثم يتراجع، خشية أن يلمس الحقيقة فتتفتت بين أصابعه. إنّه سائرٌ في هشاشةٍ لا تخلو من شجاعة، وفي خوفٍ لا يخلو من رغبة ملحّة في الطمأنينة.

النص يكشف عن عذوبة في البوح وصدقٍ يلامس القلب مباشرة؛ فهو صورة دقيقة لحالة «قلق الشغف»، حيث يتصارع اليقين البصري مع التوجّس، ويتردد صوت قلب أثقلته الخيبات، لكنه لا يزال يبحث عن ضوء يعيده إلى الحياة.

وتتجلّى براعة حاشد في لغته التي تتأرجح بين الشعر والنثر، بين الحلم والواقع، لتحوّل الاضطراب الداخلي إلى جمالية فنية آسرة. يظهر الكاتب هنا كإنسان يتخفف من عباءة السياسي والحقوقي، ليطلّ في هيئة شاعر مُرهَف، يحمل جراحه الشخصية كما يحمل همّ وطنٍ أثقلته الصراعات.

هذا النص ليس مجرد حكاية لقاء عاطفي؛ بل هو رحلة داخلية بين الشك والحيرة والبحث المضني عن السكينة، عبر لغة مكثفة بالشاعرية والصدق النفسي.

رجلٌ مثخن بالوجع… وطفلٌ يبحث عن حضن

الراوي ليس شخصية تُروى بقدر ما هو حالة تُرى. إنه كائن يتكوّن عند تخوم الروح، مزيج من الضوء والعتمة، من الخيبات والرجاء.

هو رجلٌ تعرّفه الظلال أكثر مما يعرفه الضوء؛ رجلُ تراكمت داخله طبقات الخسارات حتى صارت جيولوجيا كاملة للألم المؤجل. لكنه، في الوقت نفسه، مسكونٌ بطفلٍ صغير لم يكتمل فطامه العاطفي؛ طفل ينظر إلى العالم بعينين واسعتين، يبحث عن يد تطمئنه، عن كلمة تُعيد ترتيب فوضاه، عن يقين صغير لا يخونه.

هذا الامتزاج العجيب بين الرجل الذي أنهكته التجارب والطفل المرهف الذي يطلّ من شقوقه هو ما يمنح النص بريقه؛ فالصراع بين الصلابة المفروضة والهشاشة الكامنة، بين الرجاء الذي يلوّح والخوف الذي يجلس عند العتبة، يصنع عالمًا داخليًا نادر الصدق.

البنية السردية

السرد في النص يتحرك من الداخل، لا من الخارج. لا حبكة تقليدية، بل دائرة حسّية تدور بين الرؤية والشك، بين التحقق والتحقق المضاد. إنها دائرة الوجدان ذاته:

لا شيء مكتمل، ولا شيء محسوم، حتى الفرح يحتاج أن يُمتحَن.

لغة الحواس وبلاغة التوجّس

يتكثف الحقل اللغوي حول مفردات القلق والشك والخوف، لتتحول اللغة نفسها إلى جسد مرتجف يعكس اضطراب الراوي. وفي المقابل، تلمع الحقول الضوئية عند ذكر الفتاة: ضوء، إشراق، تلألؤ… وكأنها نافذة خلاص وسط عتمةٍ داخلية متراكمة.

ويأتي التكرار الصوتي لـ «هي.. هي.. هي» كصلاة صغيرة تُتلى لإخماد الهاجس؛ لا حشوًا بل محاولة لصناعة يقين موسيقي يقاوم صمت الخوف.

الكاتب يمزج بين المونولوج الداخلي والصور الشعرية، ليحيل النص إلى قصيدة تُكتب بالحواس قبل الكلمات، وإلى اعتراف إنساني نادر الصدق.

مكامن القوة

  • صدق التجربة وشاعرية اللغة، حيث تتحول الحالة النفسية إلى صور حسية نابضة.
  • بناء تدريجي لحالة الشك، بما يمنح لحظة اليقين قيمة درامية خاصة.
  • قدرة لافتة على تحويل الوجع الشخصي إلى صدى إنساني عام يلامس القارئ.

مكامن الضعف (المحتملة)

  • الإفراط في التكرار أحيانًا على حساب الإيقاع.
  • اعتماد كبير على الحوار الداخلي، مما يجعل السرد ذاتيًا ومنغلقًا قليلًا.
  • حضور ظليّ للمحبوبة يحدّ من التفاعل الدرامي المباشر.

رغم ذلك، يبقى النص محتفظًا بوهجه عبر صدقه النفسي وعمقه الإنساني.

التحليل النفسي

يبدأ النص بإشراقة عاطفية تنطفئ سريعًا تحت وطأة الشك، فيعكس حالة وسواسية واضحة. الحقيقة لا تُكتفى من النظرة الأولى، بل تحتاج طقوسًا مهدئة للقلق: إعادة النظر، طلب الشهادة، وسؤال آخرين، كأن القلب لا يطمئن إلا حين يُعاد تثبيت اليقين مرة بعد أخرى.

الشك هنا جرحٌ لا تردّد؛ خوفٌ قديم يذكّر بسقوطات سابقة، فيتحول الفرح إلى حدث «مشبوه» يحتاج إلى اختبار. ويظهر صوت «الأنا الثانية» التي تعترض الفرح وتحذر من السقوط: «السقوط من السحاب قاتل». إنه صدى الخيبات المتراكمة.

وتعيد صور الطفل (الرضيع، الحضانة، الدهشة) الراوي إلى جوعٍ عاطفي قديم؛ طفلٌ يبحث عن ميلاد جديد لكنه يخاف بكاءه التالي. هذا التصادم بين الخيبة القديمة والحاجة الجديدة هو قلب التجربة النفسية للنص.

البعد الوجودي

يرفع النص الحب إلى مستوى كوني:

«سعادتي باتت أكبر من الوجود…»

وليس ذلك مبالغة، بل لحظة نادرة يشعر فيها الإنسان أن الكون يتسع بالتجربة، وأن الحياة تعاد صياغتها عبر نبضة واحدة من نور.

ختامٌ يضيء العتمة

«أريد أن أطمئن» ليس نصًا عن فتاة، بل عن إنسان يتأرجح بين الخوف والرجاء. إنه كتابة تمشي على الحد الفاصل بين العين والقلب، بين أن ترى وأن تصدّق، بين حقيقة تلمع للحظة وظنّ يزاحمها بظلّه.

يكشف حاشد قلبه بلا أقنعة؛ قلبًا متعبًا من الخسارات، لكنه ما زال رائعًا بقدرته على الخوف، وبقدرته الأكبر على التمسك بضوء صغير يعيده إلى الحياة. هنا يصبح النص شهادة شاعرية على هشاشة الإنسان أمام الحب والشك، وعلى صعوبة بناء اليقين في عالم لا يكفّ عن الارتجاج.

وبين الطفل الذي يتشبث بالطمأنينة والرجل الذي يحمل جيولوجيا الخسارات، يتشكّل صوت الراوي كبحثٍ مرير عن ثقةٍ لا تهرب. فالفرح يأتيه مرتجفًا، مثل برقٍ يشقّ ليلًا طويلًا، ثم يختفي قبل أن يطمئن القلب.

وحين يبلغ النص نهايته، تنتصر لغة الحلم على لغة الخوف. يتأكد اليقين البصري، لكن اليقين المصيري يبقى معلّقًا بخيط الانتظار. انتظارٌ مُرهق، غير بطولي، لكنه إنساني حدّ العراء.

«أريد أن أطمئن» ليس مجرد نص؛ إنه مرآة روح تبحث عن ملجأ وسط العصف، وبرهانٌ على أن القلب، مهما أثقله الخوف، يظل قادرًا على حمل الضوء… ولو كان ضوءًا يرتجف

نص “أريد أن أطمئن”

أحمد سيف حاشد

رأيتها وجزمتُ للوهلة الأولى أنها هي لا غيرها، بإشراقها وجمالها وإحساسي بها، بيد أن شكاً جاس فِيَّ واعترى.. هاجس إلى نفسي تسرّب وانتشر.. تشربت منه ظنوني، وأيقظ الشك فِيَّ الأسئلة!! ما أحوج حاصد الخيبات لقلب مطمئن.. لطالما صادني البخت النحوس، وقلَب الحظ في وجهي المجن، وكم هويت، وكم نُكبتُ في الهوى، وكم وقعتُ وانتهيت.

رأيتها في المرة الأولى بأم عيني الاثنتين.. أبهرتني وأحيت الروح فِيَّ من جديد.. عاد الأمل بعد إخفاق ويأس.. رغم هذا بقى لديّ هاجس يجوس.. ربما عيوني كانت مُجهدة.. عدتُ وعاودتُ النظر.. فركتُ عيوني ودعكتها بالأصابع واليدين.

سألتُ نفسي: هل ما رأيتُ هي الحقيقة ذاتها؟!

أجابتني الحقيقة: ذلك ما رأيت.

رغم هذا ظل شيئاً في داخلي يشدّني دون علمي ما هو!! اعتلال أم اختلال واضطراب؟! أخشى التوهم والسراب.. نفسي تريد أن تُصدّق بعد يأس وانتظار!! دهشة لا تُصدّق.. وجب التحقُق والتأكد مرتين.

بعد العيان كرّتين، قالت عيوني هي.. هي.. طرتُ بأجنحة الفرح فوق السحاب.. غير أن وسواساً قهرياً تسلل من شق صغير.. رعدة خوف تسللت إلى نفسي وقالت:

– أن تهوي من فوق السحاب أنت مقتُولٌ لا محالة.

قلت لنفسي: لن أترك باباً موارباً، أو التباساً يربك أم الحواس.. لزم التحرّي وسد كل المنافذ والشقوق.. لزم التحرر من كل المخاوف والظنون.. حيرتي أشغلتني.. يا أم شريف بددي حيرة نازعتني بين أكسوم ومأرب.

يا أم شريف أنا مثقل بهمٍّ ثقيل.. أريد أن أقطع شكّي باليقين.. استجديتها ورجوتها أن تستفيض بما رأت، وما تنامى للمسامع، وتزيل عن فهمي كل لبس محتمل.

أفهمتني أنها هي لا سواها.. هي .. هي .. هي الحقيقة ما رأيت.. هي.. هي لا أختها.. أختها الكبرى متزوجة، والثانية ما زالت صغيرة..

فصلّت أم شريف أوصافها، وأنا مُنهمك أطابق.. أعاير قولها على ما رأيتُ.. ثم صرتُ أنا من يصف، وهي تردد كل فقرة مرتين.. ومُؤكدة أنها هي.. هي من رأيت.. تلألأت في وجهي العبوس وهج الشموس البهيجة.. كل شيء بات فِيَّ يضيء ويحتفل.

من يسعني؟!! سعادتي باتت كبيرة.. أكبر من وجودي ومن كل الوجود.. ورغم هذا ما زال فِيَّ إحساس يجوس!! هاجس يحثني لتكبير الحقيقة.. لا بد للقلب الشغوف أن يطمئن ويستريح.. قلبي الذي عاش أكواماً وأكواناً من الخيبة الثقيلة.. كل حيرة تبددها الحقيقة.. هكذا صرتُ أفكُر عندما أجد الوجود لا يتسع لفرحتي الكبيرة!!

في ثالث يوم ذهبت لعمّتي.. عمتي أم عبده فريد، عمتي التي التقطت خروجي من بطن أمي لواجهة هذا الوجودِ.. طلبتُ منها أن تزورها وتقريني تفاصيل الكتاب.. تتأكد مما رأيت.. يومها كانت تقيم في بيت قريب من بيت الفتاة.. أعطيتها أوصافها وما سمعتُ من الكلام وما رأيت؛ عادت بتأكيد المؤكد.. ثم قالت: آية في الحسن ومعجزة قلما جاد الزمان بمثلها.

استمعتُ لها بألف اذن وألف لهفة، ولم أكف عن السؤال!! بدوت كأنني طفل في سن الحضانة.. فاغر فأه مبلوداً بدهشة، وأحيانا أعيد السؤال وأكرره كأبله.. يا لقلة حيلتي!! وعندما تفرغ ما لديها من الكلام، أرجوها بأن تستمر ولا تتم.. أريد أن أوغل في السماع حتى أثمل.. السكر كالذي أسمعه حلالٌ في حلال.

كنتُ أرجوها أن تُسهب وتُكثر في الحديث، أكثر من الكثير إن تأتّى لها.. تستفيض ولا تمل.. تعرّقتُ وشعرتُ بحرج أشد، وهي ترسل نصف ابتسامة حالما سألتها عن نهود من رأيت.. بدوتُ كرضيع أو دون سن الفطام.. ظللت مشدوهاً إلى فمها وهي تُحدّث عمن أحب.. معلقاً أنا على الشفة كأجراس الكنيسة.. وشغفي بمعرفة المزيد لا ينتهي، ولا يحط له رحال.

أسبوع تم واكتمل .. سبته وجمعته.. غرقتُ في الحلم كثيراً.. أكثر مما أنام، حتى بات الحلم أكبر من مجرّة.. يستغرقني كل يوم ألف مرّة.. بعد أسبوع أرسلتُ الرسول لأكمل ما بدتُ فيه، غير أن أم الفتاة استمهلت للسؤال عنّي حتى لا تجازف.. وكان عليّ الانتظار.. مرغماً أن أنتظر.. مكرهاً أنا لا بطل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى