مذكرات

قراءة تحليلية لنص “خطوبة” لـ”أحمد سيف حاشد”

برلماني يمني 

تأتي هذه القراءة التحليلية لنص “خطوبة” للكاتب والبرلماني اليمني أحمد سيف حاشد والمنشور في كتابه “فضاء لا يتسع لطائر” بوصفها محاولة لاستكشاف البنية الشعورية والفكرية للنص، والكشف عن طبقاته السردية والإنسانية.

تم الاستعانة بأدوات الذكاء الاصطناعي في إعداد هذا التحليل بهدف تقديم قراءة منهجية تجمع بين النقد الأدبي والفلسفي والنفسي. 

البناء العام

على أطلال خيبات مضت، وقف الكاتب مثقلًا بقلق الانتظار، يخشى هزيمة تُضاف إلى عمره النازف. كانت المهلة سؤالًا عن قدره، حتى تيسّر الجواب، واطمأن الحبيبان، هو لـنصف وجوده، وهي لـفارس أحلامها القادم.

في حفل عابر كـ “شهقة عاشق”، تبادلا العهد، تملكته السعادة والرعشة، ولكنه عاد يحمل هواجس الطريق. فانتفضت روحه بقرار: لن أتنازل عنها أبداً! وكأن الراوي يرمي خلف ظهره رداء الخيبات ليرتدي درع المحارب من أجل الحب. عاهد النصيب أن يستميت من أجله.

من قلق البداية إلى قرار الختام، يظل النص قصيدة طويلة عن الإرادة التي ولدت من رحم اليأس، وعن لحظة ميلاد أمل، هي أغلى وأبقى من أن تُترك لغفلة. إنها قصة الباحث عن الوحدة، والذي قرر أن “يعض على هذا النصيب بالنواجذ”، ليحول الإرغام السابق إلى اختيار أبدي، مؤكدًا أن أقدس الحب هو ذاك الذي يكون نجاةً ومنقذًا من النزيف والتصحر.

الانتظار بلسان عاشقٍ جريح

هناك نصوص تُكتب بالحبر، وأخرى تُكتب بما تبقّى من الروح.

ونصّ “الخطوبة” ينتمي إلى الفئة الثانية؛ فهو اعتراف طويل ممزوج بالخشية والرجاء، مكتوب بأنامل رجلٍ يسير في ممرّ الحياة وعلى كتفه ظلّ الهزائم، وفي قلبه فتيلة أمل أخيرة يخشى أن تنطفئ.

يمتدّ النص كأنّه رحلة في متاهة النفس، حيث يقف الراوي بين خوفين:

خوف من ماضي الخيبات، وخوف من أن يخذله القدر في آخر رهانات العمر.

لقد جعل الراوي من الانتظار قدرًا ثقيلًا يطحن بقاياه، ومن الفتاة توأمًا روحيًا في مدارات الصدف، ما يشي بأهمية هذه اللحظة كمنعطف حياة لا رجعة فيه.

قراءة الراوي 

الراوي هنا ليس مجردَ صوتٍ يسرد، بل هو “ناسكُ الانتظار” الذي حوّلتْ روحُه المُثقَلةُ الحياةَ إلى “وقتٍ ضائع”. خطوبتُه ليست مجردَ وقفة، بل هي “الشهقةُ الأخيرة” لأملٍ أوشك على الانطفاء. إنه الرجلُ الذي يحملُ على كتفيه كلَّ هزائمِ الماضي، مُصمّمًا هذه المرةَ على التشبثِ بيدِ الأملِ حتى مَنتهاه.

الراوي ليس عاشقًا وحسب، بل جريحٌ يقدِّمُ سِيرتهُ النفسيةَ عاريةً أمامنا. هو المهزومُ الذي بات يخشى النصرَ أكثر من الهزيمة، لذا يُمسكُ الحبِّ بأسنانه وقبضته، كمن يتشبثُ بصخرةٍ وحيدةٍ في قلبِ العاصفة.

إنه المثاليُّ الذي يتجاوزُ الواقع؛ يرى في بيتٍ «شعبيٍّ أرضي» قصرًا مهيبًا، وفي شراب البرتقال “السن كويك” خمرَ الجنة، لأن الحبيبة تجلسُ إلى جواره.

هو المتمرّدُ على الزمن؛ يُعلنُ الحربَ على القدرِ إن حاول سلبَه حُلمَه، ويُهدي أغنية «مش هتنازل عنك أبدًا» كأنها نشيدُ المعركةِ الفاصلة.

يرقصُ الراوي كطيفٍ يبحث عن ظلّهِ المفقود، ويهمسُ لنا بمرارة: «كفى انتظارًا، فقد نفد صبري ونفد العمر».

يكشف النصُّ عن حبٍّ وُلِدَ من رحمِ ألمٍ متراكم، عن روحٍ كادتْ تنهار تحت ثقلِ الخيبات، ثم التقطتْ فجأةً حبلَ النجاةِ الممدود.

كما يكشفُ عن فتاةٍ كانت سجينةً في قفصِ الإراداتِ الأخرى، فصارتْ حرةً لأول مرةٍ حين قالت «نعم» نابعةً من قلبها، لا نتيجة ضغط أو إكراه.

ويضيءُ على خطوبةٍ متواضعة، كفقيرٍ يرتدي أجملَ ما يملك، ومع ذلك تكفيه ابتسامةُ الحبيبةِ لتُضيءَ له الكون.

قراءة ادبية

– لغة النص مشغولة بحرارة التجربة، تتنقّل بين العبارة السردية الواضحة، واللمحة الشعرية التي تلمع فجأة كحدقة عين مبللة.. جُمل تُظهر قدرة الكاتب على تحويل المعاناة إلى صور مُعاشة، ليست زخرفة لغوية بل صدى لنبض داخلي.

– النص يسير على هيئة اعترافات تتقدّم خطوة وتتراجع خطوتين.

فالحدث بسيط: انتظار الموافقة على الخطبة، لكن السرد يتشعّب في دهاليز الذات، فيتحوّل الحدث العابر إلى مرآة لحياة كاملة عاشها الراوي تحت وطأة الهزائم والبحث عن شريكة حياة.

– البنية السردية المتقاطعة: يتنقل الراوي بسلاسة بين الزمن الماضي (الخيبات)، والحاضر (الخطوبة والتحري)، والزمن المستقبلي القلق (الأسئلة الختامية)، مما يمنح النص بُعدًا زمنيًا متعدد الطبقات.

– القصة لا تعتمد على حبكة مركّبة بقدر ما تعتمد على المونولوغ الداخلي.. شخصيات الأم، الأخت، الأخ خالد – تظهر كـ”قوى مؤثرة” في المسار، لكنها لا تُزاحم الراوي. فالمتن السردي قائم على رؤية الرجل لذاته ولقدرته على المضي.

– توظيف استخدام أغنية سميرة سعيد “مش هتنازل عنك أبدا” ليس مجرد إهداء، بل هو ذروة الإعلان عن الإرادة والموقف، وكأنه يقدم قصيدته الخاصة كعهد وتعهد.

نقاط القوة

1- الصدق العاطفي الصادم: النص مكتوب من لُبّ التجربة، لا من سطحها.

2- اللغة الحيّة والصور القريبة : صور حسّية ولكن غير متكلّفة.

3- قدرة السرد على كشف الذات: الكاتب يرى نفسه بوضوح، ويكشف ضعفه وقوته بلا مواربة.

4- المزج بين الاعتراف والسرد : أسلوب يخلق قربًا شديدًا بين الراوي والقارئ.

5- إضاءة الخلفية الاجتماعية والسيكولوجية للشخصيات، خصوصاً الأم وخالد، باعتبارهما قوى فاعلة.

6- الراوي المُعذَّب الصادق هو رجل مثقل بالتجارب القاسية، لا يتجمل ولا يخفي “بيت الزوجية المتواضع” أو “كاهله المثقل”. صدقه هذا ينبع من عجز، وعجزه يولد الإصرار.

7- بساطةُ التفاصيل تحول الواقع اليومي إلى ملحمةٍ صغيرة، وإيقاعٌ داخليٌّ يشبه دقات قلبٍ.

نقاط الضعف

(تأتي هنا بصيغة نقد بنّاء لا ينتقص من جمال النص)

1- الطول النسبي في بعض الفقرات قد يُفقد الإيقاع توتره أحياناً بسبب الاستطراد الطويل.

2- تكرار فكرة «الخوف من الخيبة» حتى كادت تُغطي على فرح الخطوبة نفسها. فتكرار مفردات الهزيمة والخيبة في النص رغم جمالها، إلا أن التكرار قد يُقلّل من تأثيرها.

3- النص قائم على السرد الداخلي، لكن لمحة حوارية أعمق مع الشخصيات كان يمكن أن يزيد من الحياة الدرامية.

4- الاعتماد على التأمل أكثر من التصوير. يمكن ـ لو رغبت لاحقاً ـ أن تتحول بعض اللحظات إلى مشاهد نابضة.

قراءة نفسية

– يتكرر في النص لفظ “الخيبة”، “الهزيمة”، “الفشل”… هذه ليست مجرد كلمات، بل بصمات تجربة طويلة من الإحباط العاطفي والوجداني.. الراوي هنا لا يكتب عن امرأة فقط، بل عن فرصة أخيرة للبقاء.

– الأسئلة القلقة التي تجتاحه بعد احتفال الخطوبة (“هل سأنجح في الإبحار حتى النهاية؟!”) تكشف عن قلق الأداء، حيث لا تستطيع النفس المنهكة أن تثق بسهولة في لحظة السعادة بعد طول الشقاء.

– عبارات إصرار الراوي التي تتصاعد نحو النهاية التي يريدها 

ليست فقط تعبيرات عاطفية، بل آلية دفاع نفسي تعوّض هشاشة الداخل بقوة لغوية زاخرة.

– الإشارة للبيت الشعبي المتواضع، ونتيجة “مقبول” في امتحان الإنجليزية، تحمل وعيًا بمحدودية الإمكانيات. لكن هذا الوعي لا يتخذ شكل الخجل، بل شكل مصارحة عميقة تعكس صدقًا نادرًا.

– الأخ خالد المرآة القاسية لقلق الراوي.. خالد في النص ليس شخصًا فقط بل هو تجسيد الشك.. نظراته المتجهّمة ترمز إلى مخاوف الراوي من أن يكون “غير كافٍ”، أو “غير مناسب”.

وهذه حساسية طبيعية لدى رجل خبر الهزائم ويمشي بخوف على حبل مشدود.

– يجد الراوي في الفتاة “نصف وجوده” و”حلمه الكبير”، وهي بدورها تراه “المنقذ” من الإرغام. يحدث هنا نوع من الإسقاط المتبادل للآمال، حيث يمثل كل منهما للآخر ما ينقصه أو ما يهرب منه.

قراءة فلسفية

– يميل الراوي إلى أن القدر كان يخطط “من وراءنا بصمت”، مما يضع العلاقة في إطار الجبرية الرومانسية، حيث الصدفة هي أداة القدر لجمع التائهين. غير أن إرادة الراوي هنا أيضا تنهض في مواجهة الجبر بقوله : “سأعض على هذا النصيب بالنواجذ”، وهي دعوة فلسفية للتشبث بالجميل والمناضل من أجله، حتى لو اضطر لمحاربة “عالماً بكامله”.

– النص كله قائم على سؤال فلسفي قديم:

هل نختار الحب أم يختارنا؟

الراوي يجيب بلغة قوله:

“القدر كان يخطط من ورائنا بصمت”

وهي رؤية تُصالح بين إرادة الإنسان ومكر الحياة.

– كما يظهر فيه الوعي بفناء الوقت :

” صرت كأني أعيش الوقت الضائع”

“لم يعد في العمر بقية”

هذا إحساس فلسفي بمرور الزمن، يجعل الخطوبة ليست مجرد حدث اجتماعي بل رهاناً وجوديًا.

– الحب كخلاص من العبث حين يقول:

“كانت حلمي الكبير وآمادي القصيّة”

فهو يجعل من هذا الارتباط مخرجًا من العشوائية التي عانى منها.

الحب هنا ليس ترفًا؛ إنه معادل للمعنى.

الرومانسي المناضل رغم ضعفه، فهو يمتلك خيالًا شاعريًا وإصرارًا حديديا.. إنه يرى في الحب مشروعًا وجوديًا يُحارب من أجله.

 – الراوي لا يكتفي بالسرد، بل يحلل الأسباب، ويكشف عن صراع الفتاة الداخلي، يحلل دوافع الأم، ويدرك الفارق بينه وبين من سبقوه. هذا الوعي يجعله بطلًا لا سلبيًا ينتظر القدر، بل يستوعبه ليتخذ قرار المواجهة.

خاتمة

“الخطوبة” ليست قصة حب فقط، بل وثيقة شعورية لشخص يقف على حافة اليأس ويقرر أن يحيا.

إنها ليست حكاية فتاة وأم وخالد…

بل حكاية رجلٍ عرف أنّ القلب حين يشيخ لا يحتاج إلا ليدٍ واحدة تتمناه بصدق.

لقد كتب الراوي نصه كما يكتب الإنسان وصيّته العاطفية الأخيرة:

بشجاعة من جرّب، وبخوف من فقد، وبأمل من بقيت له نافذة واحدة في جدار العالم.

هكذا تنتهي الحكايةُ.. أو لا تنتهي. تبقى “الخطوبة” نافذةً على ذلك العالمِ الهشِّ حيثُ تلتقي القلوبُ على حافةِ الهاوية. حيثُ يكونُ الحبُّ مجرّدَ احتماليةٍ للنجاة. النصُّ هو احتفاءٌ بالضعفِ الإنساني، وبذلك الأملِ العنيدِ الذي يرفضُ أن يموت، حتى تحتَ “رَحى الانتظار الثقيل”.

لستَ مجرد قصة خطوبة، بل صلاةُ رجلٍ واقفٍ على شفا الهاوية، يُعلن للكون كله:

«سأحبُّ، حتى لو كان الحبُّ هو الهاوية».

وفي النهاية، تبقى دبلة الخطوبة تدور في إصبع الذاكرة،صغيرة، معدنية، باردة،

لكنها تحمل في داخلها شمسًا كاملة.

نص” الخطوبة”

أحمد سيف حاشد

طلبت أم الفتاة مهلة من أجل السؤال عنّي، وهو ما كان يعني بالنسبة لي مزيداً من الانتظار والأرق الذي لا أعلم كم سيستمر.. صرت لا أحتمل كثيراً من الانتظار دون جواب، أو جواب يستغرق كثيراً من الوقت للوصول إليه.. بات قلق الانتظار يجهدني ويستنزف روحي المتعبة الباحثة عن توأمها في مدارات الصدف، وبقاياي لم تعد قادرة على الصمود تحت رحى ودوران الانتظار الثقيل.

لم أعد أطيق خيبات أخرى وقد امتلأتُ بها فيما مضى من الوقت.. كاهلي مثقل بالهزائم ولم يعد بمقدور الحيل المهدود تحمّل هزيمة أُخرى أو دونها.. لا يوجد في العمر بقية تسعفني لتجارب أخرى من الحصاد المر، والفشل الذريع والمتوالي في حب لا يثمر ولا يزهر إلا صبّار وحنظلاً.. صرتُ وكأنني أعيش الوقت الضائع، وبقية من فرصة أخيرة تختتم نزيف الروح.

بعد توجس وانتظار حالفني الحظ هذه المرة، ولم يستغرق أهل الفتاة في البحث عمّا يسألون عنه غير أيام قليلة، كون إقامتي السابقة عند عمّي فريد الذي يقيم في شارع مجاور ومكان قريب، وكذا عمّي الحربي الكائن منزله في مكان غير بعيد، ووجود عدد غير قليل من معاريفنا ومعاريفهم المحيطين بنا، قد ساعدهم في الحصول على ما يريدون بيسر وسهولة.

كنتُ أنا أيضاً بالموازاة أبحث لأعرف وأستوثق وأطمئن أكثر عن الفتاة التي صادت فؤادي بعد بحث وإعياء، وأريدها أن تكون شريكة حياتي حتّى آخر العمر.. لحسن الحظ كل الإجابات جاءت بما يسر ولصالح كلينا.

أراد أهل الفتاة معاينة بيت الزوجية ليطمئنوا على مدى صلاحيتها؛ فكان لهم ذلك، البيت كانت عبارة عن بيت شعبي أرضي متواضع للغاية ينطبق عليه مقولة “دبر حالك”.. شكلها أشبه بزقاق أو ممشى طولي تم تقطيعه.. غرفة تليها ثانية، بسقف خشبي رفيع وخفيف يعلوه زنك، وتلي الغرفتين “دارة” غير مسقوفة، ثم يليهما مطبخ وحمام.. كنت يومها أعيش في هذه البيت أنا وخالتي سعيدة أم أخي علي، وأطفال أخي منصور وندى.

وكانت نتيجة ما حصلتُ عليه كما بدت لي في خلاصتها درجة مقبول.. شعرت أن هذه النتيجة تشبه تلك النتيجة التي حصلت عليها في أحد امتحانات مادة اللغة الإنجليزية في الجامعة، ستة وعشرين درجة من خمسين درجة.. نجاح كما يقولون بالحظ والعافية، غير أن هناك أمراً آخر غير البيت بات يؤرقني، أو هو ما صرتُ أخشاه.

الحقيقة لم أكن المتقدم الأول لطلب يد تلك الفتاة، بل سبقني إليها عدد من المتقدمين بعضهم شاور ولم يصل إلى مرحلة الخطوبة، وبعضهم وصل إلى الخطوبة، ولكنها لم تستمر، وأحدهم وصل إلى مرحلة العقد، ولم يصل إلى الزفاف، ولم تستغرق أطول تلك المراحل والفترات إلى أكثر من بضعة أشهر.

كانت الفتاة ترفض، فتستجيب الأم لرفضها، وعندما تكرر الأمر تدخلت سلطة الأم القوية، وباتت الفتاة تُرغم على الموافقة، وكان تمردها ومعاملتها لمن تم فرضهم عليها سبباً آل إلى الفشل.. هذا وغيره كنت قد عرفته مسبقا من خلال رفيقتي أم شريف.

كانت أم الفتاة ذات شخصية قوية ومهابة، وفي نفس الوقت لا تخلو من طيبة.. كانت تملك سلطة قوية ونافذة في بيتها على جميع أفراد الأسرة، بما فيهم زوجها الطيب الذي تُّوفيَّ حسب ما عرفت قبل سنين من مجيئي إليها.. كدت أكون أنا أيضاً واحداً منهم لاسيما في فترة الخطوبة والعقد إلى يوم الزفاف.. كانت هي صاحبة الكلمة النافذة في البيت، بما فيها حتى تلك التي تخرج منها تعاطفاً أو تبدو استجابة لرغبة المعني الأول في الشأن وهي الفتاة بعد تصويب ومراجعة.

الأم تفرض كلمتها على ابنتها في قبول الخطوبة أو العقد، فيما الفتاة تتمرد وتلعب دور تأزيم العلاقة وإفسادها وإيصال الأمور إلى طريقها المسدود.. كانت تُضرب وتُرغم على القبول، ثم تعاني وتتمرد وتفسد ما تم، وتُفشل مخرجات هذا الإرغام.. ثم تراجع الأم موقفها وتتخذ قرار التراجع الأخير الذي ظل هو الآخر بيدها.

كنتُ المتقدم الوحيد الذي حصلتُ ابتداء على موافقة ورغبة الفتاة في أن أكون شريكاً لحياتها أو تكون هي شريكة لحياتي بملء إرادتها واختيارها.. ربما كان هذا هو الفارق مع من سبقوني إليها.. ربما بدوت هنا بالنسبة لها فارس أحلامها، وربما أيضاً المُنقذ لها من إخفاق وإرغام تكرر، فيما كانت هي حلمي الكبير وآمادي القصيّة، ونصف وجودي الذي أعياني البحث عنه.

أختها الصغرى هي من قالت لي: “أنت أول شخص توافق عليه من غير ضغط.. كانت مبسوطة بمقدمك ومتحمسة للخطبة والزواج.. كانت طائرة من الفرح.. وكنتُ مستغربة سبب فرحتها بك، وكأنها كانت على علاقة بك.. مستغربة لأني كنت أراك شخصاً ريفياً، فيما كانت هي قبل أن تأتي إليها تتخيل فارس أحلامها بقصة شعر موضة، ولبس آخر موديل..”

لقد عاش كل منّا تجربته الخاصة بمعزل عن الآخر، وعانى كل منّا الكثير من الفشل وعناء البحث، فيما القدر كان يخطط من وراءنا بصمت أن نكون لبعض، وكانت الصدفة جامعة لنا، وقررت أقدارنا أن نجتمع إلى آخر العمر.

خطبتها رسمياً بحفلة متواضعة جداً.. لم يتعد الحضور غير بعض من أسرتها وأم شريف وابن عمي عبده فريد، ولم يتعد الاحتفال شرب البرتقال “السنكويك” ، وجلوسنا جوار بعض، والتصوير، ولبس دبلتَّي الخطوبة.. كل هذا حدث في وقت ربما لا يتجاوز الساعة.. مرق الوقت كلمح البصر.. كشهقة عاشق في ذروة الحنين.. أسيف على لحظة تلاشت بسرعة وقد انتظرتها وكأنه عمر بكامله.. مرّت بعجالة دون إمهال، وقبل أن املئُ منها النظر، وفي يوم كان يفترض أن يكون لنا طرب وأعياد.

أعجبتني بساطة الاحتفال إلى حد بعيد.. أحسست بوجودي وأنا جالس جوارها.. رعشة كانت تصاحب أصابعي وأنا أمسك يدها وألبسها دبلة الخطوبة.. رأيت الحياة تبتسم وتبارك لنا بعد انتظار طال.. غير أن اقتضاب الوقت نال من غمرة هذه السعادة، ومن بوح الفرح الذي لطالما انتظرته طويلا بصبر مُجالد.

بعد مغادرتي لبيت الفتاة اجتاحتني الأسئلة القلقة، وظلت تلح على ذهني باحثة عن إجابة:

-​هل سأنجح في الإبحار حتى النهاية؟! هل سأصل إلى بر الأمان؟! أم سأكون أحد المهزومين الذين مروا من هنا؟! هل سأنجح حتى الأخير في العبور إلى مناي الذي لطالما أهدرتُ العمر بحثاً عنه؟! أم سأكون مجرد إضافة خيبة لي ولها في سلسلة الخيبات المتعاقبة التي عجزت أن تصنع فارقاً أو اضافة للحياة التي نرومها؟! هل سأكون الفارس الذي انتصر أم سأكون واحداً من المكسورين والعائدين الذين يجرون أذيال الهزيمة والخيبة؟! هل بإمكاني العبور إلى نهاية الطريق أم ستخور قواي قبل الوصول؟!

إثر تلك الأسئلة فاضت حميّتي وعلت همّتي وحماستي فقلت لنفسي وأجبت:

-​سأعض على هذا النصيب بالنواجذ.. لن أترك له مجالاً للتملص أو الفكاك.. لن أتركه يتسرب من بين يدَيَّ.. لن أترك لغفلة أن تأخذه منّي، حتى لا أندم وأقول فلت منّي في لحظة زمن شاردة.. سأستميت من أجله.. وأتشبَّثُ فيه أطرافي وبكل قوتي، وسأدافع عنه ببسالة.. ستشبث به بيداي وأسناني وكل جوارحي.. فلتفض روحي وتذهب قبل أن يذهب منّي مناي.. مستعد من أجله إن اقتضى الحال أن أحارب عالماً بكامله، فيما بقي لي من عمر.. لا مجال ولا خيار للتخلّي عنه تحت أي قوة أو مبرر أو عنوان أو مسمّي.

أول أغنية أهديتها لها “مش هتنازل عنك أبدا مهما يكون” للفنانة المغربية سميرة بن سعيد لتعبّر عن بعض ما يجيش في وجداني من حب، وعن لسان حالي وإصراري، أقتضب من كلماتها:

“ياللي اديت لحياتي في حبك طعم ولون

مش هتنازل عنك ابداً مهما يكون

دا احنا لبعض حنفضل دايماً

طول العمر حنفضل دايماً

مهما يكون … مهما يكون

انا حبيتك لما لاقيتك قدام عيني حلم بعيد

كان في عنيّا صعب عليّا وبعد شويّه بقي في الإيد”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى