مذكرات

السلسلة الخامسة.. أبي.. أحمد سيف حاشد (1 – 9)

مذكراتي.. من تفاصيل حياتي.. أبي (1 - 9) أحمد سيف حاشد

السلسلة الخامسة

أبي

أحمد سيف حاشد

(1)

منكوبون بالبطالة وبطالة اليوم كارثة مستمرة

 

بعد سنتين من إقامتنا في عدن استغنت شركةُ “البِس” التي كان يعمل فيها والدي عن عددٍ من العمّال، وكان أبي من ضمنهم.. مصابٌ جلل، وقدرٌ بات أكبرَ منّا.. أيُّ نكبةٍ أصابتنا يا الله؟! يا لسوء الطالعِ وعاثرِ الحظّ.. خوفنا مما هو قادم ومجهول بات يزداد ويتسع!! أبي فقد عمله، ولا بديل يعوضه، ولا من يسدُّ لنا هذا القدَر الّذي بدا أمامنا ثقبا أسودا، وفراغا كونيَّاً يريد ابتلاعنا وتغييبنا في مجاهل الجحيم..

لا رجاء يسعفنا، ولا بارقة أمل تلوح في الأفق.. وجُومٌ في السماء، وكلَحٌ في الأرض، ويأس يتمطّى في الشرايين.. لم يعُد هنالك من مصدرِ دخلٍ لنا.. ظروفنا ازدادت سوءًا وانحدارا، وزدنا نحن عوزا وفاقة.. لم يكن أمام أبي من خَيارٍ إلّا أنْ يعودَ بنا إلى قريتنا التي تُهرسُ بؤسا وشقاءً شديدا، ومعاناة تطول، ولا نور في نهاية النفق.. ما أسود الحياة عندما تفقد عملك، وتُقطع أسباب رزقك!

 فادحا أصابنا، وفادحٌ مضاعفٌ أصابَ أبي.. مأساةُ أسرةٍ فقد فيها ربها دخله المحدود، وأسرة أخرى في القرية تتضور جوعا، لا دخل لها ولا عوض غير ما يرسل به أبي.. حكم إعدام أنزله علينا القدر دون تروٍ أو مَهَل..

أبي يَهيمُ على وجهه، يبحث عن وجهِ الله لعلَّه يجده.. كان الشعور بالضَّياع وفقدانِ الأمل قاسيا بل وساحقا.. أتخيل الحالَ أنَّ صخرةً بحجمِ كوكبٍ عبوس، قذفتها السماء على رأس أبي، وأصابتنا معه في مقتلٍ أطاحَ بالجميع..

الخَيارات محدودةٌ وصعبة، بل في الحقيقة ليس أمامنا من خَيار.. لا عملَ ولا أيّ فرصةٍ تنجي لقمة عيشنا، وكلَّ ما يمكن أن تفكِّر به من مساعدة غائبٍ ومعدوم.. أنت مبلوع في لُجَّة البحر، بلا يد ولا مجداف ولا حتّى قشة ترجوها أو تمسك بها مسكة غريق.. جميعنا يغرق في التّيهِ والمجهول وأصقاعِ الضياع..

عاد بنا أبي إلى القرية.. وبات المُصاب والألم مضاعف.. أسرتان تعانيان الجوع، وكل شيء فيها عزيز، ولا أمل في انتظار ينقذنا من حالنا البائس، ولم تبق أمام أبي إلّا المُغامرةُ والرحيلُ إلى الغربة؛ يبحث فيها عن فرصة عمل أخرى تسعفنا من حالة البؤس والموت البطيء..

حدث هذا قبلَ استقلالِ الجنوبِ من الاحتلال البريطاني.. ضاقت الدنيا في وجهِ أبي ودلهمّت.. بعد أن فقدنا مصدر رزقنا وما نقتات في عدن عُدنا مع أبي إلى القرية التي جئنا منها، كأسماك السّلمون التي تعود من مهجرها لتموت في مسقط رأسها، أمّا أبي فعليه أن يواصل الهِيامَ والبحثَ عن فرصة عمل.. عليه أن يشقّ البرَّ والبحر؛ ليجد عملا نقتات منه، ولا عذر ليتخلّى عن مسؤوليته، حتى وإن كان مصابنا وقدرنا أكبر من الجميع.. فكانت وجهته هذه المرة إلى “بربرة” في الصومال الشقيق.

***

اليومَ يا أبي أسوأ من أمسه المنكوب.. فما حدث لنا ولليمن تجعل مأساتنا في الأمس رغم كبرها تبدو بحجم رأس دبوس في محيط.. ما نشهده اليوم، هو محيط من العذاب والموت والبشاعة..

نحن في زمن بات وقد تعاظمت فيه مصائبه وبشاعته.. وما كان في الأمس مصابٌ مقدورٌ عليه بممكن أو بمعركة مع المستحيل، بات اليومَ كوارثُ تفوقُ ما تحتمله الجبالُ، بل ولا تقوى عليه اليمن كلُّها، وقد جمع لنا العالمُ، وصبَّ فوق رؤوسنا، كلَّ فساده ورعبه وبشاعته..

الفارقُ بين مصائبِ الأمسِ وازدحامِ كوارث اليوم تفوق كل ممكن ومعقول.. اليوم السّنة السابعة نعيشُ حربا ضروسا، وهروبا إلى مزيد من التشظّي والجحيم.. حروب متعددة تشُبُّ وتنشب هنا وهناك بألف رأسٍ وأميرِ حرب.. اليمن باتت نتفا ممزقة بينهم.. كل يقضم منها ما أستطاع؛ وصار السؤال الأهم أين هي اليمن؟! وياتي الجواب الصادم من واقع الحال: كانت هنا يمن..!!

سنواتٌ عجاف أكل فيها شعبُنا دواخلَه، وأكل المجتمعُ الواحدُ بعضَه بعضا، وأكلت النار معظمه.. حروبٌ دميمة وبشعة، سحقت شعبنا طولا وعرضا.. مـأساةٌ بعمقٍ سحيق، وطولٍ وأبعادٍ تبدّت لنا كمحيط دون أطراف ولا خِلجان ولا منتهى..

لك أن تتخيَّلَ حجم الكارثة، وأنت ترى العملة تتدهور على نحو غير مسبوق، بل أن قدرتها الشرائية باتت تتلاشى على نحو فاجع ومخيف، دون اكتراث أو شعور بالمسؤولية من قبل سلطات الأمر الواقع الغارقة بالنهب واللصوصية والفساد المهول.

أكثر من مليون ونصف موظفٍ ومتقاعدٍ، ومستفيدٍ، قُطعت رواتبهم، وقُطعت معها أسبابٌ الرزق الشريف، وأطراف الحرب والصراع تتكايد مع بعضها لتتخلى عن المسؤولية حيال هذا العدد الذي يعيل قرابة عشرة مليون مواطن، باتوا مُفقرين ومعدمِين ومُعوزين..

تزداد البطالة كل يوم، وربما تتضاعف كل عام، وتُمارس أطراف الحرب سياسة إفقار متعمدة حيال هذا الشعب المنكوب بها، وتنتشر الأمراض والأوبئة، والمجاعة والتشرّد، والضياع، كما تفتِك الحربُ بهذا الشعب المنهك منذُ سنواتٍ طوال، وفي محيطنا عالمٌ متوحِّش لا يبالي بما وصلنا إليه من حال ومحال..

أكثرُ من مليونِ مواطنٍ يقتل بعضه بعضا في الخنادق والجبهات، بل وحماية حدود المعتدي.. سلطات مُغتصِبة وأرض تُغتصب.. قيمٌ إنسانية مُهدرة، وحقوق شعب تستباح.. نهبٌ وانهيار.. أمراءُ حرب وجهلة، وعملاءُ يتسلطون.. عدوانٌ كبير واحتلالُ غاشم، وهمجيٌ غيرُ مسبوق.. ما حدث كان أكبرُ من أن يُوصَف، ولم يكن يخطر على بالٍ وما كان بحسبان..

***

 

 (2)

ناسٌ يرَونَنا دُونَهم!

كان أبي عاملا.. مُفنِّدا للجلود.. هي مهنةٌ مُحتقرَة عند البعضِ باعتبارها امتدادٌ لدِباغة الجلود.. مهنة مُحتقَرة عند من يتملَّكهم الخَوَاءُ و”العنطزه”، والّذين يعيشون على السّلبِ والنهب، والفساد في الأرض، وغير القادرين على فهمِ أنّ العملَ طالما كان مشروعا، هو قيمة اجتماعية وشرفٌ كبير؛ لأنّ صاحبه يأكلُ من كدِّه ومن عرق الجبين..

  كان أبي يعمل في شركة (البِسْ) بعدن، يفنِّد الجلود، وهي الحرفةُ الّتي أعطاها الجزء الأهم من زهرة عُمره وريعان شبابه.. العمل بتفنيدِ الجلود له أضرارٌ صحية، ولكنْ يبدو أنّ أبي وهو يلتحق بالعمل في هذه الشركة قد آثر فرصة العمل على البِطالة، وأنفذ المثل القائل “غُبارُ العمل ولا زَعفُران البِطالة”.

  بسبب الملح والجلود، والمواد الكيمائية المستخدمة أُصِيبَ أبي بضيق النّفَس، وسُعالٍ ليلي، رافقه حتى آخر أيام حياته..

خِلالُ أكثرِ من خمسين عاما من عمري، لم أكن أعرفُ أنّ هناك فئاتٍ سكانيةً، أو مجتمعيةً في اليمن تحتقرُ مِهنةَ دباغةِ الجُلود، والعاملين فيها، وتنظر إليهم نظرة دونية!.. كانت الفكرةُ الراسخةُ في ذهني أنّنا ننتمي إلى طبقة الفقراء فحسب، ولم أعلمْ أنّ هناك فئاتٍ سكانيةً، وبيئاتٍ قبليةً، وبدويةً، ترانا دونها إلّا في فترةٍ متأخرةٍ من حياتي.

  أبي بدأ حياته المهنيةَ عاملا في “تفنيد الجلود”، وينتمي إلى الطبقة العاملة، أو قُلْ إنْ شِئتَ إلى أُسر ذوي الدّخلِ المحدود، وتُعتَبر هذه المهنةُ بوجهٍ ما ذاتَ صلةٍ وامتدادٍ لمهنة الدِّباغة.

في العهد الاشتراكي بجنوب اليمن، وجدت حمايةً قانونيةً، ونصوصا عقابيةً لمن يُعيِّرُ أو يحتقرُ، أو يسيءُ، إلى مواطنٍ بسبب انتمائه المهني، أو حتى الطبقي المتدنّي بقصد الاحتقار والإساءة، بلْ أذكرُ أنّ قانونَ العقوباتِ النافذَ وشروحاته، تقرِّرُ أنّه إذا وجَّه أحدٌ إساءةً بالغةً، أو استفزازا وتحقيرا شديدا إلى شخص، من شأنها أن تحدث لديه هياج نفسي شديد ومباشر، وارتكب من وُجِّهت إليه هذه الإساءةُ جريمةَ قتل، فلا يقاد القاتل به.

بهذا الصدد شروحاتُ قانونِ العقوباتِ الصادرِ عام 1976 تُعيد السببَ إلى أنّ فِعلَ القتلِ ارتُكِبَ من قبلِ الجاني في لحظةِ الهياج النفسي الشديد جرّاء الإساءة البالغة، وعلى نحوٍ أخرجتْ مُرتكبَ الفعلِ عن حالته الطبيعيةِ، ومن وعيه بتقدير أفعاله، تحت تأثير ذلك الهياج الذي تسبّب فيه المجني عليه.. وقد قيّد القانونُ القاضي بالحدِّ الأقصى لعقوبةِ الحبس بما لا يزيد عن خمس سنوات.

   كما أنّ الثقافةَ والوعيَ السائدَ في الجنوبِ آنذاك، كان منحازا أيديولوجيَّا لصالح طبقات الفقراء، أو ما كان يسميهم طبقات العمال والفلاحين، وفئات الحرفيين والصيادين وغيرهم، أو من كان يعتبرهم إجمالا بـ “أصحاب المصلحة الحقيقية في الثورة”، بل وصل الأمر بهذا الوعي إلى الحدِّ الّذي جَعَلَنا نعتزُّ بهذا الانتماء، ونجلُّ فقرنا باعتزاز، ولم نشعرْ بأيّ انتقاصٍ يوما بسبب المهنة، أو تدنّي المستوى الاجتماعي لنا.

وأكثرُ من هذا، كانت توجدُ إجراءاتٌ اقتصادية، واهتمامٌ لافتٌ وبحماس فياض، يتم بذله من قبل السلطات نحو شريحة المهمشين، والعمل على رفع مستواهم الاقتصادي والتعليمي، والاجتماعي، وتم بذلُ محاولاتٍ كثيرةٍ ومتتابعةٍ؛ لإعادة دمجهم في المجتمع، ولاسيّما في عهدِ الرئيسِ سالم ربيع علي والمشهور بـ “سالمين”.

وكانت من الهُتافات الأخَّاذةِ والآسرةِ في ذلك الحين، التي سمعتها من قِبَلِ المهمّشين في أثناء دراستي الإعدادية في طور الباحة بسبعينات القرن المنصرم هتافٌ:

“سالمين قدام قدام ** سالمين ماحناش أخدام

سالمين عُمّال بلدية ** سالمين منشاش أذية “

وتمّ منعُ وصفِ أيِّ عامل بلدية بالخادم كما كان.

***

 

 (3)

في وجه العنصرية أعتز بعمل أبي!

  بعد انقطاعٍ طال بين أبي ومهنته السابقة، عاد إليها مرة أخرى مضطرا، بعد أن ألجأته إليها مسيس الحاجة والعوَز، وبعد أن نفذ ما يملك ويدّخر من مال، وتشرُّدٍ طال لسنوات، على إثر مقتل أخي علي سيف حاشد في القرية، ومُلاحقة والدي من قِبَلِ سلطة صنعاء في ذلك الحين، والّتي كانت تسعى لاعتقاله دون أن يقترف أيّ جريمة، وأكثر من هذا أنّه لم يمارس السياسة بأيِّ وجه، ولا يوجد لديه أيُّ انتماءٍ سياسي، غير أنّه أب لأخي علي، وحمله لحزن ثقيل أناخ على كاهله إثر مقتله.

استمرّ أبي بهذا العملِ للمرّة الثانيةِ “تفنيد الجلود” قُرابةَ السنتين أو أكثر، في بخَّارٍ كائنٍ في حيّ “الخساف” بـ”كريتر” وذلك في ثمانينات القرن المنصرم، لدى صديقه الودود عبد الحميد، رغم استمرار معاناة والدي من نوبات السُّعال الليلي، الناتجةِ عن عمله السابقِ بنفس المهنةِ في شركة “البس”..

وعن مهنة والدي الّذي عاد إليها مرةً أخرى، يقولُ “عامر علي سلام فوز” الذي زامن والدي لفترة في العمل: ((كان سيف حاشد رجلا عصاميا، ولي الشُّرفُ في العملِ معه، في بخّار عبد الحميد في “الخساف”.. حيث كان والدي “علي سلام “يعمل سائقا عند عبد الحميد، فيما كنت أنا واخي في إجازة الصيف المدرسية نعمل أيضا في تفنيد الجلود.. كان يتمُّ جلبُ كلّ أنواع الجلود المملحة والجافة من الشيخ عثمان والشيخ الدويل الى البخّار، ونحن نستلمها في المستودع، حيث يقوم عمي سيف بتفنيدها (وهي عملية فرز مهمه جدا، وتحتاج لدراية وحنكة في تصنيف الجلود، وليس أيُّ كائن يستطيع أن يتعلمها، حيث تُقسّم الجلود الى نوعين، جلود الماعز (التِّيُوس)، وجلود الخرفان.. وبالتالي يعتمد المُفنِّد على فحصه لكل جلد إن كان درجة أولى او ثانية، او ثالثة، او رابعة.. ولكلّ درجةٍ لها تسميتُها.. صافي درجة أولى.. كشر درجة ثانية.. وأقلُّ من ذلك ثالثة ورابعة.. وبعد الفرز والعدِّ أيضا نقوم بإضافة السم مع المِلح المخلوط الى كل جلد، وعمل رصَّات خاصة لكل نوع في البخَّار الّذي كان يتسع لكميات كبيرة من الجلود.. وفي أثناء الطلب الخارجي نقوم بوزن الجلود على شكل بُنَدٍ كبيرةٍ، ندخلها في مكينة ضغط خاصّة برُزمِ الجلود، وربطها بإحكام، ونأتي بالجواني (تغليف كلّ بُندةٍ على حده) ووزنها ثانية للاطمئنان، ونكتب عليها بفرمات محددة اسم الدولة الّتي نصدّر الجلود إليها، او اسم الميناء..!! ومن ثَمّ تُحملُ الى الميناء، وتُشحن في السُّفن الى أوربا  (إيطاليا/ فرنسا/ وغيرها) ويتم مراسلة الشركات عبر مكتبٍ خاص، وكان التاجر عبد الحميد يتعامل معه)).

كان عملُ أبي في تفنيد الجلود هذه المرة مضطرا أكثر من المرة السابقة، وآثر والدي العمل في هذه المهنة التي يجيدها، أو كانت متأتية للعمل فيها، رغم تأثيرِها على مستوى صحته، أو بالأحرى على ما بقي لديه من صحة.. وبين العمل في بداية العمر وغاربه، عمر مديد وعمل كديد، وصحة تذوي، ولكنها تقاوم بعناد وصبر لا ينفذ..

  هكذا هم الفقراء يؤثرون العمل على الصحة، مهما كان الخطر عليها أو مهددا لها.. إنَّهم يؤثرون العمل على ما عداه، وإن كان فيه تراجعٌ أو تلاشٍ أكبر أو محتمل للصحة.. يموتون وهم يعملون بمثابرة من أجل أن يُعيلوا أسرهم بالرِّزق الحلال المندّى بعرق الجبين، ولو بما يفي بالحدِّ الأدنى من كرامتهم، وكرامة أسرهم المحرومة من الكثير، ودون أن يخطُر لهم بال، أو هاجس شيطان عابر، أو شيطان يجوس في الحِمى، ليمارس النَّهبَ أو القتل، أو حصد الغنيمة من تحت ظلال السيوف، أو يجني المال الوفير من مصدر مشبوه، أو عمل غير مشروع.. إنني أعترف لآبائنا.. لقد كان آباؤنا كبارا بحقّ وجدارة..

  عرفتُ أبي خلالَ مسيرةٍ حياته أنّه يقدِّس العمل، ويقدِّس مواعيده بدقَّةٍ حدَّ القلق، ويعمل بمثابرةٍ دون توانٍ أو كسل، ويبذل جُلَّ اهتمامه وعنايته في العمل، ويسعى بمثابرةٍ لتحقيقِ أكبر قدرٍ مُمكنٍ من الإنجاز.. وينام مُرهقا ولكنّه مستريح الضمير، ويقوم باكرا من فراشه، وبنشاط متجدِّد، ويقظةٍ وجذوة، تستمر معه طوال ساعات العمل..

في صنعاء خلال سنوات الحرب كتبت عن أبي الدبّاغ منشورا على صفحتي في “الفيسبوك” معتزا بمهنته، ولأول مرة عرفت من صديقي ورفيقي القاضي عبدالوهاب قطران أنّ مهنة دباغة الجلود لدى بعص مناطق وقبائل الشمال مهنة محتقرة، ويعتبرون أصحابها ناقصي أصل، مثلهم مثل المزاينة والحلاقين والجزارين، ومن في مستواهم، أو دونهم.. وزاد من الشعر بيتا كان منتشرا بين القبائل:

تجنَّبْ صحبةَ الأنذالِ تسلمْ

مُزيِّن ثُمَّ حجَّام وجزَّار

وقشّامٌ ودوشانٌ ودبَّاغٌ وحائكْ

ومهنة “تفنيد الجلود” هي امتدادٌ لمهنة الدِّباغة، أو ذات صلة بها، كما تمّ إلحاق فئة الدبّاغين بفئة الجزارين استنادا إلى الصلة في المهنة، في إطار نظرة تراتبية اجتماعية تنضح بالعنصرية الفجة وعيا وممارسة.

عرفتُ شيئا آخر في أثناء حديثي مع زميلي ورفيقي في الكلية العسكرية “حسين” من الجوف، الَّذي ألتقيت به خلال فترة الحرب.. عرفت منه أنَّ البيع والشِّراء إلى تاريخ غير بعيد، كانت لدى بعض قبائل الجوف معيبة على من يمتهنها، وإنها – من وجهة نظر هؤلاء- مهنة غير مرغوبة، وغير محترمة، ويلحق العيبُ بمن يمارسها، وقد عمل أبي أيضا في هذه المهنة فترة طويلة..

هكذا يتم قلب المفاهيم والقيم رأسا على عقب، أو أنَّ منتجي تلك القيم هم المقلوبون على رؤوسهم، وبالتالي ينتجون مفاهيما وقيما خاطئة، وبعضها مقلوبة كوضعهم المقلوب، معتقدين سويِّتها واستقامتها، ليتحوَّل في نظرهم من يمارس العمل الشريف، ومن يأكل من عرق الجبين، مقذوفا بالعيب، ولعنات تلاحقه كقدر لا مفرَّ منه، هو وبنيه ومن تناسل منهم.. تدركهم اللعنة لتدمغهم بالعيب والانتقاص والاحتقار والازدراء العنصري الناتج في حقيقته عن تشوّه أو خواء عميق في الوعي، ومنطق سطحي رجعي متخلّف..

ويظل اعتزازي الكبير بعمل والدي، وبكل المهن الذي مارسها طيلة حياته، دون أن انتقص يوما من إنسانية أي فئة اجتماعية، بل أمقت التصنيف العنصري، وتراتبية الأصول التي تؤدي لحصر الأصول الناقصة واحتقارها، وأزدري الاصطفاء، وأرفض التفكير النمطي التقليدي القائم على تراتبية فيها احتقار الإنسان لأخيه الإنسان..

زدت اعتزازا بمهن والدي، ونظرت إليها من بُعدٍ آخر غير البعد الذي ينظر إليها بعض من يعانون عُقد النقص وخللا في الدماغ، وتشوّها في التربية والتنشئة الخاطئة.. في واقعٍ كهذا، أميل إلى تقدير أكثر نحو من ينبت في الصخر كشجرة التين الشوكي أو الصبّار أو شجرة السدر، وقد تحّدت كل الظروف الطاردة للحياة، وعاشت رغم قسوة الطبيعة، وشمخت متحديةً وباسقةٌ، بل وزادت تُزهرُ وتُثمر، في أعز الفصول ضيقا، وكأنِّ وجودَها المعاند، فيه حكمةٌ ومقاومةٌ، وتحدّي لوجع الطبيعة، وتشمخُ برأسها علوا، وتزهر أطرافها بألوان زاهية، وتعطي النحل والناس رحيق العسل..

أعتز أنَّني ابن هذا الأب المكافح، الَّذي أنتمي إليه، وصار ولده نائبا للشعب، ويمثله بما يليق به، وقد حرِصتُ وأنا أختار أنْ أكون لا منتمي، أو أكون نائبا برلمانيا مستقلا بحق وحقيقة.. صاحب رأي وموقف حر ومستقل، وأن يكون “الشَّريم شعاري” وأن يتكثف إعلاني ووعدي الانتخابي بعبارة “انتخبوا من يمثلكم لا من يمثّل بكم”.

أغلبُ الظنِّ أو كما أتخيل نفسي أنني لازلت حريصا ووفيَّا لهذا الشعب المنكوب بمن قادوه وتسلطوا عليه من أعالي القوم وأشرافه.. لازلت وفيا للعهد والوعد الذي قطعته يوما للوطن، وقد خان أسياد القوم شعبهم، وسقطت المنازل الرفيعة في القيعان السحيقة، وسيكنس التاريخ – يوما – أصحاب المراتب العالية إلى مزابله المنتنة، وكلَّ من جلبوا لهذا الشعب الكوارث العظام، ومارسوا بحقه الخيانات الكبار بتمادٍ بالغ، ومجاهرةٍ فجَّة وصارخة، وأتوا بالعار الذي لا يُمحى ولا يزول إلى اليمن بطولها وعرضها!!.. ليس حديث الأنا ولكنْ هو الاعتزاز، إنْ لم أعتز بهذا فما الذي بقي لأعتز به؟..

والخلاصةُ أنّني أمقتُ التّفكيرَ النّمطي، في التراتبيات الاجتماعية المتخلفة، أو القائمة على الأصل، أو الحسب والنسب، أو التفكير العنصري بكل مسمياته، وأرفض العصبيات المنتنة، وضخ الكراهية التي تستهدف الوطن في عُمقه ووحدته ومستقبله.. ولا بأسَ أنْ أقولَ هنا وفاءً لأبي: “كم أنت عظيما يا أبي!” .

***

(4)

أنا ابن الدبّاغ .. الإنسان

بعد ما قاله لي صديقي حسين، وما كشفه لي رفيقي عبدالوهاب قطران عن معنى انتمائي وأمثالي في الثقافة والمخيال الشعبي، لدى بعض قبائل ومناطق اليمن، أو بعض المجتمعات المحلية فيها، وما يلحق صاحبها من الانتقاص والنظرة الدّونيّة، لم أخجلْ ولم أتخفِ ولم أحاول جبر ما بدا مكسورا، أو ستر ما انكشف، بل على العكس، دافعت عمّا أعتقد باعتزاز يليق، ولم أخشَ من معايرة، ولم أتحرّجْ من عمل والدي، أو من المهن التي ارتادها خلال تاريخ حياته، بل اعتززت بنفسي كثيرا، وبأبي الذي حفر في الصخر من أجلنا لنعيش بكرامة، واعتززت بانتمائي الذي استطاع أن يحجز له مكانا في الصخر الصّلد، وبتحدٍ مضاعف، ليكون وأكون كما يجب..

غيرَ أنَّ الأهم أنَّني لم أنجرْ إلى البحث عن عصبيةٍ صغيرةٍ مقابلة، تقتل أو تشوّه الإنسانَ الكبيرَ الَّذي يملاني، ويسكن وعيي، ويدأب إلى تحصيني من أي هشاشة تعتريني، ولم أتنازلْ عن الضابط الاخلاقي المنسجم مع هذا الإنسان الذي يسكنني، والإنسان الذي أبحث عنه خارجي، وخارج انتمائي..

لا يعني هذا أنَّني لا أقاوم، ولا أهاجم الاستصغار الذي يحيط بي، أو يحاول أن ينال منّا كشرائح وفئات مجتمعية من حقها أن تحظى بحقوقها كاملة، وأولها حق المواطنة.. ولم أبحث – يوما- عن انتماء آخر لا يليق بي كإنسان أولا..

أنا لست ابن السَّماء.. أنا ابن الدبَّاغ الّذي يثور على واقعه كلّ يوم دون أن يكلَّ أو يملّ أو يستسلم لغلبة.. ابن الدبَّاغ الذي لا يستسلم لأقداره، ولا ينوخ، وإن كانت البلايا بثقل الجبال الثقال.. ابن الدباغ المجالد الذي يعترك مع ما يبتليه، ويقاوم حتى النَّزعِ الأخير..

ابن الدبَّاغ الَّذي يتمرّد على مجتمعٍ لازال يقدَّس مستبديه.. ويقاوم سلطة لا تستحي عندما تدّعي.. سلطة تدعي العدل، وطغيانها أكبر من محيط… تتعالى بمنخريها على الوطن الكبير.. سلطة تخصخص المواطنة، وتوزع صكوك الغفران كما تريد، وتغيّب المساواة، وتنشر الفقر كالظلام الكثيف، وتحبس الحرية في محبس من حديد..

أنا أُجرّم القتل ولا استسهله، ولا أشرب الدم ولا أسفِكه، ولكنّي متهما بشرب الكحول.. أنا ابن لأبٍ لا يبيع الموت ولا يهديه، ولا يجعله مقاسا للرجولة أو معبرا للبطولة..

أبي صانعً الحلوى وبائعها، يأكل من كدِّه ومن عرق الجبين.. ينشر الفرح والطعم اللذيذ، ويرفض الحرب ونشر الخرائب..

   أنا ابن أبي، لم أبنِ مجدا على أكوام الجماجم، ولم أحتفِ يوما أو أفاخر باتساع المقابر، أو بطوابير النعوش الطويلة، ولم أطرب لركام الضحايا، ولم أضُخْ الكراهيَّة، وغلائلَ الحقدِ الدّفين..

***

أنا ابن أبي المُثقل بأحمال ثقال.. نكدُّ حد العي ونشقى.. من غبش إلى عشيّة.. لم نقِم الحزنَ يوما في مبيتٍ، أو نبيع وهما للضحية.. زيفوا الوعي بآلاف الخطب.. وأثقلوه بألف دس وفريّة..

روجّوا للدجل من أعلى المآذن.. أشعلوا النار ألف ونيف.. وأثقلوا الأرض بأحزان المياتم.. أطمعوهم بحور العين وأنهار من عسل وخمر.. وخبوا المكر تحت المعاطف واللحى.. وخبوا تحت العمائم ألف جلاد وليل.. نحن إن شربنا الكيف خلسة.. تسفح العين لألي.. وإلى الله نسافر..

أنا لا أفاخر بهندِ، ولا بمن تأكل الأكباد.. ولا أفاخر بنسبٍ أو قبيلة أو بقاتل.. لا أتسول التاريخ زادي، ولا أدّعي سلطانا وميراثا.. ولا أدعي حقا من قبل آدم وحواء، أو ما قبل الثريا..

أنا لست من ماءِ السَّماء، ولا أفاخر أني سليلٍ لعلي أو فاطمة.. أنا أبي الدباغ والفلاح، وبائع الحلوى أنشر البهجة والفرح.. أبي كابد الدهر وعانا، واقتات من عرق الجبين..

أنا لستُ الأنا المثقلةَ بذاتها وذواتها.. أنا أقذف الأنا في وجهِ المستبد غيرُ نادم، وأناضل لإزاحة الظُّلمِ الّذي أثقل كلًّ كاهل.. أنا الأنا الّتي تعتز وتفاخر، إنّها ليست من ماء السماء، وتقاوم من يراها، إنها جاءت من روث الحمير..

أنا الحالمُ ابن الأحبة.. أنتمي للحُلم الكبيرِ كبَر المجرَّة، بل كبَر هذا الكونِ الفسيح، الّذي يكسر المحابس ويسافر للبعيد، دون حدود أو منتهى.

***

(5)

التحيُّز العنصري والسياسي 

نشأتُ وترعرعت دون أن أشعر إن اسمي عبء على كاهلي.. لم يكن لي مع اسمي الرابع مشكلة.. لم أجد بصدده ما يجعله محل مأخذ أو نظر.. وفي عدن وخلال مدة طويلة حللتُ وأقمتُ فيها لم أشعر يوما إن اسمي كان عبئا أو عقبة أمام نيل حقوقي أو مسّها بحال.. كل شيء كان يسير على ما يرام.

في عدن وتحديدا في السبعينات على الأرجح، تم إلغاء أسماء المحافظات الست المكونة لجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية واستبدالها بالأرقام.. عدن المحافظة الأولى، ولحج الثانية، وأبين الثالثة، وشبوه الرابعة، وحضرموت الخامسة، والمهرة السادسة، وتم منع نسب الأسماء إلى المناطق أو إلى القبائل.. خطوة أو خطوات كانت في الاتجاه الصحيح..

تم إلغاء لقب الجوفي والحسني والمهري وغيرها من ألقاب كبار أسماء قادة البلاد، ومع ذلك وبسبب الصراع السياسي في النصف الأول من الثمانينات أنقلب الحال، وتم التحريض والتعبئة المناطقية بفجاجة، وعلى نحو جرّار، ثم تم تعميدها بالدم والدموع..

***

في هذه الحرب المرعبة التي نعيش أوارها باتت جل سلطات الأمر الواقع هنا وهناك تتعاطى مع الأسماء كانتماءات سياسية وطائفية وجهوية وقبلية ومناطقية تكلف أحيانا دفع كلفة باهضه على أصحابها.. ربما بسببها تكلّفك بعض مشقة في حياتك، أو تطول وتستهدف حريتك أو حياتك نفسها.. من المحتمل بسببها تفقد أشياء كثيرة، وربما تفقد كل الأشياء بسبب اسمك المرتاب به..

أصبحت بعض الأسماء عبء على أصحابها، فإن كانت هنا تجلب لك حظ ووفرة وتسهيل، فإنها في منطقة أخرى ربما تعني تهديد وخسران.. في الحرب وفي هذا العهد الأكثر توحش ودمامة صارت اسمائنا عبء علينا وربما خطرا محتملا يتهدد حياتنا، في واقع قبلي ومناطقي وعنصري يتعقب الأسماء، ويبحث عن أنفاسها حتى وإن كانت بدون أنفاس..

***

عندما أتيتُ إلى صنعاء من عدن عام 1990بعد الوحدة كان اسمي أحمد سيف حاشد هاشم. كان هذا هو اسمي في بطائقي وكل وثائقي التي أتيت بها معي من ألفها إلى ياءها.. جميعها تحكي هذا الاسم لا سواه.. لا تغيير فيه ولا تبديل..

في 1990عندما أتيت إلى صنعاء ليس على اسمي لبس أو غبار، ثم تم تغيير اسم “حاشد” إلى اسم “قائد” في كشوفات الدائرة المالية التابعة لوزارة الدفاع، وخضت مراجعة مضنية استمرت لشهور؛ لأستعيد اسم جدي حاشد في كشف المرتب الشهري، فيما ابن عمي عبده فريد حاشد المستشار في وزارة الخارجية في إحدى معاملاته استبدلوا اسم حاشد بـ “حامد” حتى تمكن هو الآخر من استعادة اسم جده بعد مراجعة..

لم أسي الظن يومها بما حدث، ولم أرجعه إلى سوء فهم أو فساد طوية، ولكن في إحدى نقاشاتي اللاحقة مع أحد مدراءي المنتمي إلى حجة، أحسست باستكثار أن يكون اسم جدي حاشد، وكان يومها لحاشد القبيلة جاه وهيبة، ومكانة اجتماعية أكثر من غيرها..

أما اليوم وفي ظل سلطة الأمر الواقع في صنعاء، فقد صادرت من كلينا اسم جدنا “هاشم”.

***

عندما بدأ عهد “الفيسيوك”، كنت لا أحسن استخدامه في أول الأمر.. كان يتم فتح حسابات في “الفيسبوك” بأسمائنا دون علمنا.. كان بعض الخبثاء ينتحلوا شخصياتنا ويتلبسون بأسمائنا..

طلبتُ من صديقي وأحد المساعدين لي وهو صادق غانم أن يفتح لي حساب “فيسبوكي” باسمي حيث كنت حينها لا أجيد فتح حساب لي فيه.. كان لدي “الفيسبوك” لا زال عالم مجهول لا أعرف منه غير عتبة داره، وبالكاد..

فتح صادق غانم لي حساب باسم أحمد حاشد هاشم، وأخبرني أن الفيس رفض قبول اسم سيف لوجود حسابات أخرى تطابق اسمي، فاستعاض عن اسم أحمد سيف حاشد هاشم بأحمد حاشد هاشم، وهو ما كان متاحا يومها.

اسم هاشم هذا هو اسم جدي الثاني، وهو اسم حقيقي، وليس مجلوبا أو دخيلا على اسمي الرباعي، وتعاطيت مع اسم أحمد حاشد هاشم في وسائل التواصل الاجتماعي، دون تسيس أو بحث عن انتماء نسب، أو توجه سياسي، بل لم أفكر في أمر كهذا مطلقا حتى من باب الاحتمال.. لم أكن أفكر أو أعلم بمكسب أو عبئ وتبعات لهذا الاسم، وصديقي أيضا هو الأخر لم يفكر بهذا..

لم أكن أعلم أن هاشم وهو بعض من اسمي الرباعي سيتم استخدامه للإساءة، ويتم اتهامي باستخدام اسم “هاشم” لأغراض انتهازية أو سياسية أو اجتماعية..

***

وظف ناشطوا حزب التجمع اليمني للإصلاح اسم هاشم للنيل مني على نحو واسع وكثيف.. شنوا بكثافة حملة شعواء على هذا الاسم، وتحديدا بعد مؤتمر “اليمن إلى أين” عام 2012 والذي أنعقد في بيروت.. خصصت صحيفة “الناس” و “الأهالي” مقالات عدة ومتجنية علي شخصي وبسبب اسم “هاشم”.. رموني بما هو فيهم من تخلف وعاهة..

ورغم توضيحي الصادق الذي نشرته في صحيفة “المستقلة” يومها إلا أن كثافة الضخ لاسيما في وسائل التواصل الاجتماعي كانت طاغية على الحقيقة، ووجدتُ نفسي وأنا أوغل في الإيضاح كمن يحرثُ في البحر.

***

واليوم وفي هذه الحرب لازلتُ أدفع ثمن اسم لم أختاره أنا، ولكن ببساطة أجدادنا لم يعلموا أنه سيأتي عهد متخلّف وأحمق ندفع نحن فيه ثمن الأسماء التي اختارها آباء أجددانا لأبنائهم..

آباء أجددانا كانوا بسطاء ولا يعلمون أننا سنأتي على أيام غارقة في الجهل والعصبيات المنتنة.. لم يكن يخطر ببالهم إن الأمور ستأخذ هذا المنحى، وهذا القدر من الهبوط والانحطاط الذي وصلنا إليه اليوم.. كانوا لا يعلمون أن أسماء مثل حاشد وهاشم ستصير جريرة أو خطيئة على أبنائهم وأحفادهم.. كانوا لا يدركون إننا سنستجير صراع 1400 عام، ونستعيد ذكرياته الأليمة، بل ونحييه بانتشاء وانتقام، ونعيد إحياء عهده بإمعان وإصرار.

***

توجهتُ في نهاية شهر ديسمبر 2016 مع زملاء في لجنة العفو العام الفرعية والخاصة بأبناء محافظة لحج من صنعاء إلى تعز، وكانت وجهتنا إلى سجون مدينة الصالح في تعز؛ وذلك لتطبيق القرار بحدود الاختصاص، وكانت هي المرة الأولى التي اتجه فيها إلي تعز منذ بداية الحرب..

والعجيب أن سلطة صنعاء في الحرب غيرت أسم جامع الصالح إلى جامع الشعب، ومؤسسة الصالح إلى مؤسسة الشعب، ولكنها لم تغير أسم مدينة الصالح التي استحدثوا فيها أو حولوا بعضها إلى سجون، موزعين فيها المعتقلين الكثار.. لم يتم تحويل اسمها إلى “سجن الشعب” على غرار جامع الشعب أو مؤسسة الشعب، وإنما أبقوا على اسمها وأضافوا إليها اسم “سجن” لتصير “سجن مدينة الصالح”!

في رحلتي تلك شاهدت عشرات النقاط العسكرية على طول طريق صنعاء تعز، ولم أشاهد علم الجمهورية باستثناء علم واحد في نقطة واحدة بعد نقيل يسلح، بل هو بقايا علم ممزق ومهترئ ومتآكل يجسد الحال كما هو في الواقع دون زيف أو رتوش، فيما علم الجماعة كان في كل نقطة عسكرية يعلن سيادته وانتصاره.

بعض النقاط العسكرية عندما كانت تسألني عن هويتي كنتُ أعرض بطاقة عضويتي الخاصة بمجلس النواب، والثابت اسمي فيها “أحمد سيف حاشد هاشم”.. كنت ألاحظ أحيانا لمن يقرأ حيرة من يطلبها، ثم يعلِّق بعضهم بسؤال: كيف حاشد وهاشم ؟! كان يعقّب بعضهم: حاشد وهاشم ما تركب!! ويسألني بعضهم: هاشم من أين؟!

***

كل وثائقي ومؤهلاتي بما فيها بطاقتي الشخصية العسكرية تحكي اسمي الرباعي، غير أن جواز سفري تم إثبات وتغيير اسم “هاشم” باسم منطقتي دون رغبتي وإرادتي، وفي هذه الحرب أيضا تم منحي بطاقة شخصية تم فيها تغيير هاشم بنسبي إلى منطقتي رغما عن إرادتي أيضا، وعن حقيقة اسمي الرباعي..

وفي هذه الأيام مضى أكثر من عام ، وأنا أدنو من الأجل أريد تسجيل رقمي الوظيفي في الخدمة المدنية، ولا أريد أن أورّث أبنائي المتاعب في حقوق تخصهم بعد رحيلي في هذا العهد المُغالِ أو العصي لهوله حتى على التسمية والتعاريف..

سنة كاملة من المتابعة ولم أستطع  استعادة اسمي الرباعي.. لقد قضموا أكثر من خُمس اسمي بكبر وعصبية وباذخ من عناد.. كم سنة أحتاج لدى أمن ومخابرات صنعاء لأثبت لهم اسمي الثابت في وثائقي الأكيدة والمسلمة نسخة لها عبر مندوب الأحوال الشخصية ولأكثر من مرة.؟!. كم أحتاج من الوقت ليقبلوا اسمي كما هو..؟! ما ذنبي أن يأتي اسم “حاشد” على “هاشم”. ولماذا يستكثرون اسم “هاشم” علىّ وأنا لا أعده أكثر من اسم متمما لاسمي الرباعي؟!

إنه بعض من اسمي الحقيقي لا يجوز إقصائه أو تغييره واستبداله.. إنني لم أدّعِ ولا أنازع به في ملك ولا ولاية.. إنني أدعو دوما للمساواة والمواطنة والعدالة منذ ريعان شبابي إلى اليوم، ولم أحيد عنها يوما قيد أنملة.. إنني أريد فقط تأكيد حقيقة اسمي وهويتي التي تريد عُقدهم المتجذرة في وعيهم مصادرتها عنّي.. أريد بطاقة تثبت هويتي بالاسم الذي يتطابق مع كل مؤهلاتي ووثائقي ومع الحقيقة قبلها.. أنا لا أدعو ولن أدعو يوما إلى أي عصبية منتنة.. أنا إنسان لم أتنازل يوما عن إنسانيتي.. شعاري هو إنسانيتي أولا.

من مأساة الوعي والتاريخ أن نجد أنفسنا ندفع ثمنا في حياتنا لما لم يكن على بال.. إننا اليوم نعيش عهد الحمقى الناضح بالرداءة والتعاسة، والوعي المشوه والدميم.. عهد صارت فيه الأسماء والألقاب تجني على أصحابها المعاناة، وربما تبلغ حد مصادرة مستقبل أصحابها، أو قطع العيش والمعاش عنهم، وربما استلاب الحياة..

اسمي تتفحصه وتمنعه عنّي المخابرات .. ما هذا السمج والهراء والعقل المثقل بعصبية لا تطاق.. من أين آتي لهم باسم آخر؟! اسمي أحمد سيف حاشد هاشم .. ليس لدي مشكلة مع الأسماء.. هذا اسمي الحقيقي منذ الولادة وسيظل كذلك حتى بعد الرحيل، وأظنه بات وشيكاً.. يصرون على استنفاذ ما بقي لدي من حياة في متابعة استعادة اسمي الرباعي الذي صادروه، أو يريدون مصادرته ما بقيت حيا، ثم ميتا وإلى الأبد إن كان هذا بإمكان..

لقد نشرت تعليقا على هذه المعاناة بالقول: أريد أن أنتزع منهم حقي في اسمي قبل أن يقتلوني..!! هل يريدون الانتقام حتى من أطفالنا في حقوقهم بعد أن نموت.. كم هم مرعبين وحاقدين وصغار.. ما أصغرهم..!!

مأساة أسماءنا تطول وتذكرني بما كتبه الأديب السوري الساخر محمد الماغوط:

“سأنجب طفلا أسميه آدم، لأن الأسماء في زماننا تهمة”

***

أنا أحمد سيف حاشد هاشم ابن الدباغ الإنسان.. الطريف أن أحد المرافقين لمسؤول كبير أخبرني أن كنيته كانت “أبو هاشم” وعندما قرأ في تفاصيل حياتي إنني ابن “الدباغ” قلب اسمه إلى أبو علي.. أنا أحترم كل المهن وكل الناس الذين يأكلون من كدهم وعرق جبينهم، بل واعتبرهم عظماء كبار.. ليس لدي عُقد أو مواقف استنقاص حيال أي إنسان حر وشريف..

واذا كان لدينا مأخذا أو نقدا في المسميات فهي تلك التي تحتدم أسماءها مع جوهرها ومضامينها.. تلك الأسماء التي تتنافي مع توجهات وحقيقة مسمياتها المظللة والمخادعة للناس والشعب، مثل مسميات حزب “الإصلاح” و “أنصار الله” التي جلبت لنا وللوطن أقدارا من الجحيم.. جعلونا فحما وشواء.. صلبونا على جدران الجوع.. سامونا الضيم والعذاب.. معاناة تطول ولا تنتهي بانتهاء ما بقي لنا من عمر، بل وعمر أولادنا وأحفادنا..

***

 

(6)

سلطات بوعي متعفن

إننا نعيش اليوم عهد أشد وطأة.. عهد ما كان يخطر على بال.. عهد أكثر سفورا وقبحا وفجاجة.. ربما يجلب فيه اسمك وانتمائك وولائك حظ وغنيمة واحتكار، أو حرمانا ودونية، لا يبتدئ من الوظيفة العامة مرورا بالترقية، ولا ينتهي بشغل المناصب العليا، وما يلازمها من امتياز ووفرة أو تضييق وحرمان..

عهد جريء على نحو صارخ.. موغل في غب الباطل.. يعطي حقك الأصيل من لا يستحق.. يتجاوز حدودك وما وراء بحارك، ويغتصب حقوقك بفضاضة وبداوة.. يستبيح ما لك من حقوق بتحدٍ وإرغام.. يستولي بغلاظة ما ليس له فيه حق ولا شبهة.. يهبك بسخاء حقوق الغير الذي يكابد حرمان حقوقه المستحقة حتى يموت جوعا وضيقا وكمدا..

أصابوا أسمائنا بكل مقيت حتى باتت وبالا يصيبنا ويصيب أصحابها، في صراع محتدم تسوسه العنصرية البغيضة، والعصبيات المنتنة، والمصالح الضيقة، وتاريخ دامي ومرعب عمره أكثر من 1400 عام، ولازال يمتد ببشاعته ودمامته إلى اليوم، وبلعنة لا تريد أن تجفل أو تغادر حياتنا وحياة من سياتي بعدنا.

***

السلطات المتعاقبة لدينا لا تنهض ببناء حقيقي ولا تقدم تنمية شاملة.. السلطات لدينا طفيلية ومتعفنة الوعي في جلها، تعتاش وتقتات على ما قبلها. هي تفشل في إحداث اقتصاد معافى وتنمية مستدامه.. وأكثر من هذا تعجز على نحو مضطرد في تحسين أحوال مواطنيها، بل وتجلب لهم الحروب والفوضى والكوارث المعيشية..

سلطات تستعيض عن فشلها بفرض نفسها بالغلبة والحيلة واستخدام مقدرات الشعب في تكريس فكرها وسياساتها وأيديولوجياتها في الوعي، وتتطفّل على ما سبقها من بناء متواضع ربما جله هدايا من شعوب أخرى أو هبات ومعونات، فتستبدل الأسماء القائمة على المدارس والشوارع والمنشآت بأسمائها التي تكرّس فيها عصبتها وأيديولوجيتها وفكرها وسياساتها وثقافاتها وانحيازاتها..

بات اليوم أسود من أمسه؛ فنقول جوازا وحقيقة: لا يبنون مصانعا ولا مدارسا..! لا يبنون مدنا ولا يرصفون شوارع..! بل يحولون بعض المنشآت المدنية إلى سجون.. يتسولون من الآخر دون اعتماد على أنفسهم.. يخونون ويتأمرون على أوطاننا.. يفسدونها بإمعان.. يعيدون تسميتها.. ينهبونها بجرأة.. يهدمونها وينشرون الفساد والخراب فيها على نحو مرعب ومهول..

يصنعون دميا وأصناما وكوارثا ويتباهون ويتفاخرون بها دون حياء.. يطلقون التسميات على مسميات هي منها ومنهم براء، بل هم يعيشون أكبر عوزا وفقدانا لها.. وأكثر من هذا وذاك لا يستحون ولا يخجلون..

***

(7)

هدية سويسرية

كان ذلك اليوم بالنسبة لي يوما استثنائيا فريدا لا يشبهه أي يوم من أيام حياتي التي خلت وأجفلت.. كنت أشعر أن فرحتي يومها تكفي أن تغمر الكون كله، وتفيض على كل متسع في أطرافه وأرجائه البعيدة التي لا يعرفها علم ولا نظر.. كنت أشعر إنه فرح يعدل الحزن كله، بل ويميحه بغسيل ومسحوق يزيل الكلس والصدأ وما حجّره الزمن المتقادم والبعيد..

كانت فرحتي كبيرة وكثيرة لا متسعا لها ولا قدر.. لا عد لها ولا حصر.. أكبر وأكثر من فرحة تائب نال مناة بعد منية، ومن راهب ظفر بجنة الرب التي لطالما عاش من أجلها شظف العيش وضيق اليد وضنك الحال، وأنكر حقه في الحياة لينالها في دار ثانية.. فرحة الذي صبر وجالد حتى نال مناه بمنيّه..

يا إلهي .. أبي يهديني ساعته الصليب السويسرية، بعد أن أهداه صهره القادم من “إنجلترا” ساعة “أورنت”.. كان وقع هديته في النفس وقع الدهشة التي لا توصف، وأثرها في النفس والذاكرة حيا لا يزول إلا بزوالها..

بين ساعة أبي وساعتي التي أهداها لي أبي طفره تكنولوجية.. ساعتي تعمل يدويا بتدوير كمانها حتى يستغرق كل دورانه، فتركض وتدور عقاربها دون توقف يوما وليلة، فيما ساعة أبي تعتمد على حركة اليد والنبض، أو كما كان يقول أبي: “تمشي على الدم” وهو أمر لطالما كان يحيرني ويثير تساؤلاتي!!

يا إلهي.. أنا المعجون بالحرمان والتمنّي.. أنا الطفل الذي لطالما تمنّى يوما ساعة من ورق أو بلاستيك، فخاب مناه، ولم ينل ما تمناه، وحصد مرارة وحسرة، فعوّض تمنّيه أن رسم خربشة ساعة على معصمه، واكتفاء بها ليصنع منها سعادته، وإن كانت مجرد وهم أو سراب..

يا إلهي.. كيف احتوي فرحتي، وقد وجدت ما هو أكثر من الحلم والتمنّي.. ساعة الصليب في عمري ذاك، وفي ذاك الزمان، حلم بعيد المنال، بل هو أبعد عليّ من المستحيل.. تأتي بها صدفة عجيبة لا تتكرر مرة في الالف.. شيء لا يصدّق.. مفاجأة فرح مهول لا يحتملها قلبي الصغير.. تحول قلبي إلى صرة فرح يطير إلى السموات البعاد.. منطاد ملون يحلِّق في البعيد.. يصعد للسماء بزهو وانتشاء منقطع النظير..

أنقصتُ من طول سلسها الفضي أكثر من نصفه لتمسك جيدا على معصمي المنهك.. كنت أرى الكون كله معلقا في يدي النحيلة.. يا إلهي.. كانت الفرحة لا تسعني، ولا تفارق عيني معصمي.. فرحة تبلغ حد البكاء.. فرحة عابرة للخيال، وكل ما هو معروف ومعتاد..

ليلتها لم أنام.. كنت ألتذ بها تارة كعاشق وأخرى كعريس.. أحتسي السعادة حتى الثمالة.. لم أشعر أن الحياة جميلة كذلك اليوم وتلك الليلة البهيجة.. كانت عقاربها الفسفورية الخضراء تضيء في الظلام كجوهرة وتأسر العيون المليّة.. جاذبة وأخاذه تأخذني من معصمي بعلمي وحلمي إلى ما بين النجوم ، بل وتعبر بي إلى تخوم الكون..

كان صوتها في سكوني “تيك تيك” يحييني ويشجيني.. يشعرني بسعادة غامرة لا حد لها ولا مدى.. صوتها يسري في رأسي كنشوة فارس منتصر على جيش عرمرم.. صوتها يشبه نبض جنين في بطن أمه.. قيثارة فنان غجري يستعرض ابداعه أمام من يحب.. عاشق بلغ فيه العشق ذروته العليّة.. كنت اسمعها وأسمع خفقات قلبي، وأنا المتيم في حبها والمبهور بها حد الدهشة والذهول..

كيف لي أن أنام والسعادة تجرف النوم من عيوني المستمتعة بلون عقاربها الفسفوري الأخضر؟!! كيف أنام وخفقات قلبي تتداخل وتتماهى مع صوت نبضها الآسر، كمعزوفة نادرة لا تشبهها معزوفة أو وجود إلا من باب المجاز..

تقلّبني الفرحة على فراشي يمنا ويسرا، وأنا استمتع بلونها الفسفوري كعاشق ولهان حين يلقي حبيبته في غلس الليل ودياجي العاشقين.. اتابع سحر عقاربها في الجريان كمن يتابع عشيقته الأكثر جمالا في ضفاف نهر جميل.. كل لحظة أسألها عن الوقت الذي يستغرقني حد التيه..

 اجعل من الليل محطات ومواقف، وأسألها في كل فنية وأخرى عما بلغه الليل من مدى نحو الصباح .. لم أسمح للنوم ليلتها أن يأخذ مني فرحتي إلاّ غفوة قليلة قرب الصباح.. وكانت غفوة ناعمة وحالمة، تشبه غفوة نبي على أرجوحة السماء بين الأكوان البعيدة..

وفي الصباح استعجلت النهوض.. كنت شبيها للصباح والضياء.. كنت أرى العجب العجاب يحيط بمعصم يدي النحيلة المتوجة بتاج ملك، أجلُّ من تاج هرقل وأعظم من تاج كسرى.. كنت أشعر أنني قد صرت مركز الكون، وأن الكون كله يزف فرحتي..

تلك الفرحة النادرة غفرت لأبي سنوات قساوته الأولى، وجعلتني أشعر أن الحياة فيها ما يستحق البقاء، بل الفرح الكبير..

وفيما أنا اليوم أتخيل تلك الفرحة العريضة؛ أسأل بأثر رجعي: كم ستكون فرحتي في تلك الأيام لو كان أبي أهدا لي جهاز “إيباد” أو “لابتوب” أو تلفون مطور؟!! لو حدث هذا زمن أبي لكنت من يومها إلى اليوم عالقا في فرحتي دون ملل أو انقطاع أو فكاك.. كانت فرحتنا في تلك الأيام تختلف عن أفرح اليوم التي لا تدوم..

***

(8)

تجربة أثيرية لعبور اللاوعي.. رسالة إلى أبي

كم أحبك يا أبي.. عندما كنت أكتب عنك شاهدتك في الحلم غاضبا ووحيدا.. ربما اعتدت أن أراك غاضبا، ولكن ما آلمني أن أراك وحيدا.. لا أقصد الانتقاص منك، فأنا بعض منك ومن مداك في سلسلة طويلة من امتداد يغالب الفناء والرحيل والانقطاع.. كما لا أقصد يا أبي تسجيل أي بطولة عليك، وأي بطولة هذه التي يمكن أن يسجلها ولد على والده.. لست أنا من يسجل بطولة على أبيه، حتى وإن ابلغت العضات والعبر لمن يحتاجها في بيئة تكاد تغلق بابها على نفسها وتختنق، في وسط باذخ بالعيب والنفاق والزيف والادعاء..

كم مزّقني مشهد أن اراك وحيدا في الحلم.. أحسست أنك تعتب وأنا أذهب إلى أصغر التفاصيل.. شعرت كأنني أحاكمك في غيابك محاكمة غير عادلة تشبه محاكمة متهم في غيابه.. أحسست أنني أصادر حق حضورك.. ولكن كيف يكون حضورك وكيف استحضر روحك الشفيفة؟!!

حاولت تحضير روحك مستزيد بما قرأت.. حاولت أن ابلغك وحشتي وافتقادي الكبير لك.. شغوف أنا بمعرفة تفاصيل عالمك الذي رحلت إليه.. لقد حاولتُ بالفعل وفي ليل شديد السواد أن أستحضر روحك الندية.. شعرت بما يشبه موجات أثيرية تداهمني وتسري في جسدي من أسفله إلى أعلاه.. تيار من موجات الأثير تكتسحني من القدمين إلى الكتفين وتصعد إلى الحنجرة.. عودة وتكرار وكأنني أتشبع بالأثير.. الموجات الأخيرة كانت أقوى من تلك التي قبلها..

صوتك تحشرج في حنجرتي، أو حنجرتي هي التي كانت تحشرج بما خلته صوتك، أو كان صوتي يحاول العبور إليك، أو كان صوتك وصوتي يحاولان العبور إلى ما هو مستحيل.. بدأ الصوت في حنجرتي ثقيلا وساحب كصوت مسجل نفذت طاقة أو صلاحية البطارية المشغلة لها.. شعرت إن احدنا قد تقمص الآخر.. أحسست بحالة تلبس.. قلبي كاد يقفز من فمي.. لم أحتمل التجربة..

قمتُ فزعا مرعوبا والهلع يستحوذ أوصالي، ووجهي شاحب وممتقع.. لم تكن تجربتي الأولى التي أحاول استحضار روحك يا أبي، ولم أستطع أن أكمل ما بدأت من تجربة مضنية لا أعرف ما ستفضي نتيجتها، هل إلى كشف عمّا أبحث عنه، أم موت الذي يتحدّى الاستحالة، أو العبور إلى اللاوعي، أو الاجتياز إلى عالم الجنون وزوال العقل؟!!

ربما بعض ما حدث كان وهما أو خيالا في المستحيل، ولكن الأهم أنه يكشف عن حاجتي لك ورغبتي في عناقك الذي لم أتجاسر أن أطلبه منك في حياتك لهيبتك.. لقد كانت السبع السنوات الأخيرة من حياتك الندية مشبعة بالود والعطاء وأنت تسندني، وتخفف عني ما أثقل كاهلي..

أردت أن استسمحك وأستأذنك.. أردت أن أسألك عن عالمك الذي صرت إليه، وأبحث من خلالك عن سر الحقيقة أو تفاصيلها التي نبحث عنها ولم نجدها! أردت أن أقطع الشك باليقين، وأن أتحقق من كل الأقاويل والمزاعم التي تكتظ في رؤوسنا منذ بدأ الإنسان يسأل عن وجوده، فجاءت جل الاجابات بما ينطبق عليها قول الشاعر:

“وكلٌّ يدّعي وصلاً بليلى *** وليلى لا تقرُّ لهم وِصالاً”

لقد أحسست بعتبك وأنا أكتب عنك، فعدت لأكتب عن ذلك الكبير الذي كان يسكنك، وما يليق بك كأب وإنسان.. لا زلت أذكر ذلك اليوم الذي وجدتك بالصدفة وأمي جوارك، وأنت تجهش بالبكاء ودموعك تنهمر.. تشهق روحك إلى أعلى وكأنها لا تريد أن تعود إليك، وتنتحب أنت بحرقة ومرارة وكربة لا تريد أن تغادر جسدك المثقل بتداعي الحزن والألم..

تفاجأت وأنت توغل في البكاء الأجش، وتحمل ذلك القدر من القهر الذي طفح، لم أدرِ يومها ما سبب بكائك، ولم تخبرني أمي عن أي قهر قد أصابك.. ولكن عرفت لاحقا السبب الذي كتمته عنّي أمي، ثم سرتني به بعد إلحاح منّي وتردد منها..

ليس عيبا يا أبي أن نرى دموعك.. ليس عيبا أن ترينا تفاصيل حزنك في وجهك الباكي أيها الإنسان.. ما كان عليك أن تشيح عنّا بوجهك لتخفيه عن عيوننا، وأنت تجهش بالبكاء، وتحاول أن تدس رأسك بين أكياس “قشر البن” التي بجوارك في ركن دكانك الحزين، لتولي لنا ظهرك، وتواري عنا خريطة حزنك في وجهك العاري، وعيونك الذابلة التي غيب الحزن لمعانها، ودموعك التي لمحتها عند استدارتك وكانت تنهمر كالمطر..

علمت يا أبي بعد حين إنك كنت تستذكر وتبكي ولدك علي، رغم مرور السنوات الطوال على رحيله.. كيف استطعت أن تخبوا عنا كل هذا الحزن الذي يسكُنك، والقهر الذي أثقل روحك سنوات بكتمان الرجال الذين يصمدون ويصبرون.. رائع أنت يا أبي.. لم أكن أعلم أنك تخفي عنّا كل هذا العذاب والغياب والفقدان داخلك، وداريت عنّا كل هذا الكمد الذي يبدو أنه صار أكبر منك، فتمرد عليك بكل هذا العنفوان..

أردت أن أقول لك يومها: ابكي ما استطعت يا أبي، ودع الدموع تنهمر كما تشاء، ولا تمانعها ولا تقم بقمعها، ولا تخجل وتتحرج منّا أيها الإنسان، واستعن بالصبر المجالد حيال ما يسببه الموت من وحشة وغياب سرمدي لأعز من نحب..

اليوم يا أبي صرنا نعيش المصائب كلها.. اليوم يتمدد الموت وتزدهر المقابر.. كم هي عظيمة أيامكم رغم بؤسها وحرمانها.. لم تعد من مقارنة لنا بين أيامنا وأمسكم.. اليوم توالت وتكالبت علينا الاعسار والمصائب كلها في حضرة الحرب والموت والبشاعة..

اليوم همجية الاحتلال باتت في وعيهم تحريرا مصانا، وما هو محتل صيروه على نقيض اسمه أو مصادما لمسماه!! والفجاجة العنصرية قالوا عنها: قرآن كريم احذروا أن تمسّوه باعتراض.. تبدلت المفاهيم يا أبي على نحو فاق التصور.. صار الموت باذخا، والبشاعة تعبث بالوطن، ونحن في زحام حضورنا موغلين في الغياب، ومنهكين في همنا اليومي.. بات الجمال بأبعاده الأربعة ينعب وينتحب.. يا لبؤس المرحلة..

***

 

(9)

رسالة ثانية إلى أبي

حرب ضروس يا أبي، هي تلك التي نعيشها اليوم، بل وقد باتت حروب باذخة ومتعددة، تهاجمنا من كل حدب وصوب، وتسحقنا كل يوم بتكرار ثقيل.. نهلك فيها ونجوع منذ سبع سنوات طوال، وصمت العالم المتحضر يتواطأ مع الحرب لتطول أكبر فترة ممكنة، وضمير العالم مُلجوم بمال النفط، ومصالح الدول التي تقتات وتعيش على الحروب والضحايا..

بتنا يا أبي ضحايا محاصرين ومقموعين.. تتزاحم علينا أسباب الفناء من كل صوب واتجاه.. محارق ومهالك وأوبئة.. جوع ومجاعة ومخافة.. سجون ومعتقلات وزنازين.. جبايات لا سقف لها تزداد في العام مرتين وثلاث وبتكرار مضاعف لكثرة الجباة.. وأسواق سوداء تزيد سعر الضعف ضعفين، وقد باتت تنتشر كالفطر وتنهشنا كالضباع..

عاد الاحتلال يا أبي.. احتلال يتمدد كالسرطانات في أجسادنا، ونفوذ يتم تقاسمه، وسلطات أمر واقع بالغلبة تفرض نفسها.. لا هم لها غير اخضاعنا إلى أجل غير مسمّى، وكل ما مرت الأيام غلظت سُلطة الإخضاع، وأوغلت في طغيانها، وأمعنت في إفقارنا، وحمت فسادها الذي تغوّل، وأسواقها السوداء التي بات لا يفوقها في الدمامة غير وجه السلطة نفسها، والتي تبذل كدها وكديدها لحماية نفسها منّا نحن الضحايا  والجياع..

نحن نحترق يا أبي، ونار النفط تذكي ما خمد.. العالم حولنا يمارس حربه ضدنا لنهب بلادنا وتقسيمها.. لفرض الوصاية واحتلال بعضها، ونحن الفقراء فيها تسحقنا الحاجة والعوز.. ولأن عدونا يملك المال والنفط والعمالة التي تتماهى ولا تعترض.. كل المسوخ توالدت حتى صارت كالأحذية في المستنقعات الموحلة..

عذابنا لا ينتهي.. كل يوم في الجحيم يا أبي نشتوي ونصطلي.. حشودنا لا تنقطع ومواقده لا تنطفي.. نحن زيت نارها.. أبناؤنا أفواجها.. وتستمر المحرقة.. تجارها يحتفوا بفنائنا.. يتفيدون نزيفنا.. يتخمون أرصدة.. أرصدة في أرصدة.. شعبنا يحتشر في مقتلة.. تلك الحروب ليست حربنا.. شعبنا صار المطايا والوقود والضحايا.. وعندما قلنا اوقفوا حروبكم غضبوا وكشّروا في وجوهنا أنيابهم كالضباع والذئاب..

نحن كنّا ولازلنا ضحايا حروبهم.. ضحايا من اشعلوها وداعميها.. حروبهم طالت وتمددت حتى بلعت تخومها.. كم هي هذه الحروب دميمة.. أطماعهم كجهنم وجحيمها.. موت لم تعد المقابر حيلها.. خراب وفساد وطغيان يجتاحنا.. ما عاد فينا للصبر ذرعا أو مُتسع..

احتلال وحشي وهمجي.. وعملاء أرخص من الملح يا أبي.. حوامل تنافست لتكون أكثر ابتذالا وسفالة وسفه.. كائنات لا تخجل ولا تستحي.. مستعدة تفعل بشعبنا كل شيء.. تتنافس على لعناته لتنال رضى أسيادها.. تافهون بلا حدود.. واقع مرعب خلّفوه لنا ليقول التاريخ من هنا مرّوا، ويقول كل قائل “هنا كانت يمن”..

تم قطع أسباب عيشنا.. قطعوا أرزقنا.. سدوا كل أبواب العيش الكريم.. فتحوا أبواب الفساد على مصرعيها.. وجعلوا الارتزاق مفتوحا بلا أبواب.. فتحوا أبواب الجحيم كلها لنكون المحاطب والوقود يا أبي.. ونكون فُرجة مترفيها.. سبع سنوات من الحرب والفناء.. ومن لم يمت بالحرب مات من الجوع والحزن والكمد.. افترست شعبنا هذه الحروب المُهلكة، وزادت تؤازرها الأوبئة..

***

هي الحرب التي قال عنها الفيلسوف الوجودي سارتر يشنها الأغنياء ليموت فيها الفقراء، وهي الحرب ذاتها التي قال عن مأساتها “سوفوكليس” أعظم ثلاثة كتاب التراجيديا الإغريق بأنها تنال من الخبيث بالصدفة، أما الطيب فدائما ما تنال منه..

نحن الطيبون نالت الحرب منا مقتلا يا أبي.. نلنا من الحرب وبالها ومآسيها العراض.. الحرب التي تنتهي كما قال جبران خليل جبران بتصافح القادة, وتبقى تلك المرأة تنتظر ولدها الشهيد..

قالها شاعرنا نزار “من رأى السم لا يشقى كمن شربا”.. ونحن نقولها لمن رأى فلما أو قرأ عن الحرب كتابا، ليس كمن عاش جحيمها سبع سنوات طوال.. حروب في حروب، بها شعبنا أشتوى وأكتوى.. ودفع الغالي من دمه.. من أرضه ومقدراته ومستقبله.. نحن فقراء يا أبي وازددنا فقرا مدقعا، وجارنا يتورم مالا ونفطا، وأكثر منهما حقارة يا أبي..

الحرب رعب ومآس.. يتجرد فيها بعض البشر من كل القيم.. يصيرون أكثر وحشية من الضواري والوحوش الكاسرة.. قالها إبراهيم نصر الله: “إن الله لم يخلق وحْشاً أسوأ من الإنسان، ولم يخلق الإنسان وحْشاً أسوأ من الحرب..” وكأنه يوصف يا أبي من أعنيهم بإمعان..

كان يوما يا أبي لدينا أصدقاء نحبهم.. كشفت الحرب الأقنعة.. وجوههم دميمة وأصابعهم من جذام.. عقولهم مُقفلة وقلوبهم من حديد.. مغرمين بالدم كعبدة شيطان رجيم..

سوق سوداء كطوفان نوح.. أكلوا بقايانا بشراهة الجراد.. مفسدون ذادوا عن الفساد بشراسة الذئاب.. ساديون حتى العظام.. يرتكبون الفضائع في المعتقلات والسجون.. يحاصرون ويقمعون من يبحثون عن حقوقهم.. يتربحون بالحرب يا أبي على حساب شعب يموت حربا ومرضا وجوع..

 

***

يتبع..

 

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة احمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة احمد سيف حاشد على التليجرام

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

 

 

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. بانوراما ملحمية بصراحة سرد بطريقة متميزة فيها الشغف فيها الكثير من العنفوان والشموخ …

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى