مذكرات

قراءة تحليلية لنص “عدول عن الانتحار”  لـ”أحمد سيف حاشد”

برلماني يمني

هذه القراءة التحليلية انجزت عبر أدوات وتقنيات الذكاء الاصطناعي، في محاولة لتقديم مقاربة سريعة وموضوعية لنص “عدول عن الانتحار” للحقوقي والبرلماني اليمني أحمد سيف حاشد، والمنشور في كتابه “فضاء لا يتسع لطائر”، تسلط الضوء على أبرز دلالاته ومعانيه، وتستكشف أبعاده، ضمن سياقه الثقافي والاجتماعي.

نافذة

نصّ”عدول عن الانتحار” مُفعم بالشحنات النفسية والانفعالات المتضاربة!.. نصٌ أدبي ثري يستحق قراءة نقدية مُشبعة، من خلال الغوص في أغواره وتحليل مكامنه.. إنه نصٌّ إنسانيٌّ معقّد، يحملُ بين طياته أنينَ روحٍ تئنُّ تحت وطأةِ الوجع والألم.

إنَّها رحلةٌ في نصٍّ، حيثُ يصيرُ الصراعُ مع الذاتِ ومع الآخرِ لوحةً دراميةً تكشفُ هشاشةَ الإنسانِ أمامَ قسوةِ الحياة، وعنفوانَه في التمسُّكِ بها.

لقد اختار البطل ضجيج البارود على صمت الموت، وكلفة المغامرة على فاجعة الفقدان، ليؤكد أن البقاء ليس مجرد استمرار في الحياة، بل هو تمرد عليها بشروط الذات المحتجة. 

مواجهة العتمة والنور

يأخذنا الكاتب أحمد سيف حاشد في نصّه “عدول عن الانتحار” إلى قلب أزمة وجودية ونفسية حادة يعيشها طفل تحت وطأة قسوة الأب وغلظته.

النص ليس مجرد سرد لحادثة، بل هو جولة مكثفة في دواخل النفس المأزومة؛ رحلة تبدأ من حافة الهاوية (الانتحار) وتعود إلى الحياة عبر فعل تمردي صارخ ومغامر.

إنها سيمفونية من المشاعر المتناقضة: اليأس والأمل، الألم والحياة، الخضوع والاحتجاج. 

والكاتب هنا لا يكتفي بعرض الحدث، بل يحلل الأفكار والمنعطفات الذهنية بدقة، مُقدماً عملاً يلامس جوهر الصراع الإنساني بين الحرية والقمع، وبين الموت والبقاء.

غواية الفناء ونداءات البقاء

يدور النص حول لحظةٍ فارقة يتكوّن فيها قرار الانتحار في نفس الراوي، قبل أن يبدأ بمراجعة هذا القرار. 

وهنا يصبح البعد الأخلاقي مركز الثقل؛ فالمتكلّم لا ينظر إلى مصيره وحده، بل يستحضر ما قد يخلّفه فعله من ندوب على أسرته ومحيطه. إنها ليست حيرة عابرة أو انفعالاً مُفاجئاً، بل صراعُ ضميرٍ مكشوف يختبر فيه الإنسان حدود مسؤوليته عن الآخرين.

وهو نا يحوّل النص من مجرّد سردٍ للحظةٍ مأزومة إلى ما يشبه محاكمة داخلية تستنطق القيم الكبرى: معنى الوفاء للأسرة، ثِقل العار، واجب الرعاية، ثمن الانتقام.

صوتٌ يكلّم ظلَّه:

يأتي السرد بصوت المتكلّم الأول، مانحًا النص نبرةً حميمة تنفتح فيها الروح على القارئ بلا حواجز. هذا القربُ الصوتي يجعلنا نسمع ارتجاف النفس كما لو كان همسًا في أذن، ونرى العالم بعين الراوي لا بعين مراقب خارجي.

وينهض النص على أسلوب الحديث الداخلي المتواصل؛ سلسلةٌ من الأسئلة والاعتراضات، ودفعاتٌ من التبرير والتردّد، واستدعاء حنون لصوت الأم، وتذكيرٌ بخيط الحياة الذي تشده غريزة البقاء.

هذا الحوار العميق مع الذات لا يمنح القارئ فرصة المشاهدة فحسب، بل يدعوه ليكون شاهدًا ومحكّمًا ومتورطًا وجدانيًّا في اللحظة نفسها.

بناء المشهد وتصاعد التوتر

المشهد العمليّ لمحاولة إطلاق النار مفصّلٌ بدقّة:

تثبيت العلبة الخضراء، صنع السندان الخشبي، وضعية الإطلاق، تصور ارتداد البندقية، صوت الرصاصة، الغبار، رائحة البارود.

وهذا التفصيل الحسي يخلق ذروة درامية قوية جعلت القارئ يعيش الفعل لحظةً بلحظة. ثم تتلوه فوضى الناس وصراخ الأم، ما يُعيد النصّ سريعًا إلى البعد الاجتماعي والإنساني، ويُغلق الحلقة: من القرار الفردي إلى تبعاته العامة.

اللغة والأسلوب

اللغة عربية فصيحة، تميل إلى العمق البلاغي في مواضع عدة، وإلى البساطة الوصفية في مواضع أخرى. وثيمات التكرار تُستخدم لرسم الذبذبة النفسية للراوي.

واللغة مشبعة بكلمات قوية ومفردات ذات شحنة عالية، شاعرية وقدرة لافتة على التصوير، خاصة في وصف المشاعر الداخلية؛ استعارات وكنايات تنقل التجربة من مجرد حكاية إلى لوحة انفعالية مؤثرة.

هناك تباينٌ بين جُمَلٍ قصيرةٍ تُعلي الإيقاع وشدّ التوتّر، وبين جُمَلٍ أطول للتفكير والتبرير. والصور الحسية تعمل على ترسيخ الحدث في الذاكرة.

يُقدّم النصُّ سرداً ذاتياً يستخدم تقنية تيار الوعي، حيث تتدفق الأفكار والمشاعر بحرية، مما يخلق إحساساً بالصدق والعفوية.

ينتقل السرد من العالم الداخلي المجرّد (الأفكار) إلى العالم الخارجي الحسي والمادي في مشهد إطلاق الرصاص. الوصف هنا دقيق ومفصل، مما يخلق مشهداً سينمائياً حيّاً ومُتوتراً.

الزمن والمنظور

الزمن في النص لحظي ومتحرّك: انفعالٌ مباغت، ثم تروٍ، ثم فعل، ثم مخبأ، ثم اكتشاف.

الانتقال بين الماضي القريب والحاضر يتم بسلاسة.

المنظور الداخلي يُبقي التركيز على مسوغات القرار، لذلك لا نعطي مساحةً لرؤية الأب من داخل نفسه؛ كل ما نعرفه عنه مرآة في نفس الراوي، وعندما يرى غيرته على الأسرة، ولكنه يظل ظلّاً على هامش القصة.

مكامن القوة في النص

يُعد نص “عدول عن الانتحار” قطعة أدبية عميقة، يتجاوز فيها الكاتب حدود السرد العادي ليقدّم تشريحاً نفسياً وفكرياً لأصعب لحظات الحياة.

تكمن قوة النص في سلاسة العرض لتعقيدات النفس، وفي قدرته على تجسيد المفاهيم المجردة (كغريزة البقاء) في صورة حسية حية.

تفصيل الحوار الداخلي وعمق تبريرات الراوي يعرض تجربة نفسية متكاملة وصادقة.

المشاهد التقنية (إعداد البندقية، صوت الرصاصة، الغبار) عالية التأثير وتجعل القارئ شاهدًا، فيما ضمير المتكلّم يقربنا إلى الوجدان ويكسب السرد مصداقية انفعالية.

تصاعد الأحداث من التفكير إلى الفعل ثم الهرب والبحث يضمن ديناميكية نصّية، والنص يطرح أسئلة اجتماعية (مسؤولية الأب، تبعات الأفعال الفردية على الأسرة) تجعله ذا أثر ما بعد القراءة.

ملاحظات على النص

على الرغم من قوة النص، يمكن الإشارة لبعض الملاحظات:

في سياق السرد النفسي المشحون، قد يشعر القارئ ببعض الإطالة في الوصف التقني والتفصيل الذي يكسر قليلاً من الإيقاع الدرامي لتيار الوعي، ولكنه يخدم في المقابل توثيق البيئة وزمن القصة.

كانت ستبدو القصة أكثر عمقاً لو ذُكرت الخلفية النفسية للأب وشُرحت دوافعه وأسبابه، ولكن ربما تم ترك ذلك ليذكره الكاتب في قصص ومواضع أخرى. وهي نقاط قابلة للتفّصيل والاشتغال الإبداعي في قراءات لاحقة أو في نصوص تالية لهذا النص.

ثغرات تقنية طفيفة وبعض ملاحظات فنية أخرى، غير أنها ليست قاتلة للسرد، ولا تنقص من قوة العمل، لكنها تُشير إلى أماكن يمكن أن تتوسع فيها الرواية أو النصوص المشابهة.

يبقى أجمل ما يُسجَّل للكاتب في هذا النص أنه ينحاز إلى الحياة، لا بوصفها استسلامًا أو انطفاءً، بل كاختيارٍ غاضبٍ ومحتجّ، يُحوّل الوجع إلى فعل مقاومة، ويجعل البقاء صرخةً تحفظ الروح ولا تكسرها.

التحليل النفسي

«عدول عن الانتحار» كقصةٍ قصيرةٍ تقدّم تجربةً نفسية متكاملة تُسوِّغ فعل الاحتجاج بدل الموت، وتطرح سؤالًا إنسانيًا عميقًا عن الوسائل التي يملكها الفرد ليُعيد صياغة كرامته.

في النص، ومن خلال الحوار الداخلي، تتشكّل ثلاث نبضات نفسية متعاقبة:

• انكسار لحظة اليأس، حين بلغ الألم حدّه الأقصى.

• يقظة الضمير وتذكّر أن موتًا كهذا سيُخلّف خرابًا يفوق ما حدث.

• تبدّل نحو احتجاجٍ حيّ يفضح القهر ويعيد للذات سيطرتها دون أن تُزهق روحًا.

وبهذا المزيج، يظهر الراوي بين طفولةٍ مذعورة تريد الهرب، ونضجٍ مبكر يزن العواقب ويحوّل الألم إلى اعتراض. 

إنّه نصّ يُقارب الموت بحساسية، لكنه ينتهي إلى اختيار الحياة بوصفها فعل مقاومة، لا قيدًا ولا هروبًا.

مقاربات

يهبّ النص مثل عاصفةٍ هادئة، يبدأ همسًا ثم يتّسع حتى يغدو نداءً يطرق أعماق الوجود. فالراوي يقف عند تخوم الرصاصة كما يقف المتصوّف عند حافة الكشف.

وفي تلك اللحظة، ترتفع الأسئلة الكبرى التي شغلت كامو وسارتر: ما جدوى أن تُكمِل الطريق حين ينهش الظلم روحك؟ وما معنى أن تختار البقاء إذا كانت الحياة نفسها تبدو كفخّ محكم؟

لكن النص لا يقف عند حدود العبث، بل يعبر إلى صراعٍ داخلي مشحون، أشبه بمحكمةٍ دوستويفسكية حيث تتواجه الأصوات: صوتٌ يتّهمه بالهرب، آخر يدعوه إلى الانتقام، وثالثٌ أقرب إلى صدى الأم يستحلفه بالبقاء.

ومن خلف هذه الضوضاء، تنهض القرية بكل ثقلها، كما عرفها زيد مطيع دماج: بيوت طينية تتنفس القهر، آباء يشبهون صخور الجبال في قسوتها، وأعرافٌ تُمسك برقاب الأبناء كما تمسك القبيلة بالزمان.

ليس الأب فردًا هنا؛ إنه سلطة كاملة، ظلّ يمتدّ على الروح قبل الجسد، قانون خفيّ يطوّق الحياة ويملي على الطفل كيف يرى نفسه.

وبعين فوكو، تبدو العلاقة بينهما كشبكة قوة دقيقة، تمتدّ من الكلمة والنظرة والصفعة، إلى ذلك الشعور القابع في أعماق الراوي بأنه مُراقَب حتى داخل نَفَسه.

ومع ذلك، ومن قلب هذا الحصار، تولد شرارة العصيان. يمدّ الراوي يده إلى لحظته القصوى، إلى بندقيته وإلى خوفه معًا، لا ليؤكّد هزيمته بل ليختبر آخر ما تبقى له من سيادة على وجوده.

تبدو الرصاصة، قبل انطلاقها، وكأنها تعبير عن قهرٍ لا يجد لغةً أخرى؛ لكنها، حين تنحرف أو تُخطئ القلب بقَدَرٍ غامض، تتحول من فاجعةٍ إلى علامة على أن الروح، مهما تعثّرت، لا تزال قادرة على رفض موتٍ يُفرض عليها.

وهكذا، ينتهي النص لا بانتصار الحياة وحدها، بل بانتصار الموقف، ويصبح ملحمة صغيرة عن إنسانٍ يرفض ويقاوم ويصرّ أن يكتب جملته، ولو على حافة الرصاصة.

وفي آخر هذا العبور المرهق، يلمع النص كندبةٍ تعرّت من جرحها ولم تفقد بهاءها. لم ينتصر الراوي على الموت فحسب، بل انتصر على فكرةٍ سوداء كانت تخدش روحه. وعاد من حافة الفناء ليقول إن البقاء ليس استسلامًا، بل صرخةٌ تُقاوم، وإن الروح حين تنكسر قادرة على أن تنهض بما يكفي لتُنقذ نفسها.

مسك الختام

القصة هنا ليست مجرد حكاية عن محاولةٍ انتحارية لم تتحقق، بل مرآةٌ تسبر أغوار النفس حين تضيق عليها الحياة. فهي تعلّمنا أن الاحتجاج قد يكون أرقى أشكال النجاة، وأن البقاء ليس دائمًا هدوءًا بل موقفٌ يعلو بصراخه على صمت القمع.

وفي هذا المسار تتبدّى قوة النص: أن يحوّل ألمًا خانقًا إلى فعلٍ يُعيد للذات صوتها، حتى لو ظلّ الصوت مرتجفًا، فهو صوتٌ لا يشيخ.

نص “عدول عن الانتحار” 

أحمد سيف حاشد

أطلقتُ سراح تفكيري في كل الاتجاهات، وأنا أحدّث نفسي: الانتحار قرار مؤلم ومؤسف بل وفاجع ليس بحق نفسي فقط، بل بحق أسرتي التي تحبّني، وتشعر بالامتعاض وعدم الرضى حيال بعض أخطأ أبي المعهود بغلظته وقسوته، دون أن أنكر عليه هنا محبّته وأبوّته.. أشعر بحاجة ماسة أن أبلغ أبي استيائي البالغ، واحتجاجي الشديد بما يؤدّي إلى ندم أشد يراجع به نفسه، بوجع يطاله وحده.. يجب أن لا يطال هذا الندم والوجع أحداً غيره.

لابد أن أفعل شيئاً يُؤذي أبي وحده وبمفرده، على أن أعيدُ النظر في قراري المنفعل بالانتحار، والرجوع عن الفاجعة التي كنتُ قد نويتها وبيُّتها، وستصيبُ أهلي لا محالة بفادح لا يقوون عليه.. يجب العدول عمّا عزمتُ عليه في لحظة انفعال كان قد بلغ ذروته.. أريد أن أفعل شيئاً آخر مغامراً ومقامراً على أن يكون أقل كلفة من إزهاق روحي التي إذا ذهبت قطعاً لن تعود، ولا أشد منها إلا فراق من أحب.

غريزة البقاء هي الأخرى مالت إلى رفض قرار الانتحار، ثم وجدتُها تتشبث بالحياة أكثر مما كانت عليه، ثم ما لبثت في صراعها معي أن أنشبت أنيابها ومخالبها في حياة لا تريد فقدانها.. غريزة البقاء استثارت وجودها داخلي، وحشدت قواها، وذهبت بي إلى وجهة غير ما كنتُ قد عقدتُ العزم عليه.. تراخى قراري حتى أنتهى إلى رجوعي عنه، أو عمّا كنتُ قد عقدتُ العزم عليه.

ليس سهلاً ولا هيناً على طفلٍ أن يعقد عزمه على الانتحار إلا بكيل قد طفح، وضرر استمر، ومعاناة بلغت أتونها، ولكن غريزة البقاء ظلت تنازعني قرار الانتحار، وتمنحني أعذارها، كأن تقول لي ما كانت تقوله لي أمّي وتكرره: ما زلتَ حديث عهد بحياة ستعتدل وتتغيّر يوماً لصالحك.. ما زال مشوار الحياة أمامك طويل، وسيطوله يوماً تغيير وتبديل.. اصبر قليلاً.. قليلاً من الصبر.. تحمّل حتّى تقوى على الصبر ويشتدُّ ساعدك، وتذهب بعيداً، وتتحرر تماماً من قسوة والدك، وسيفتح الله لك ألف باب على مصراعيه.

ثم تدعوني وتشدُّني غريزة البقاء إلى ما هو أهون فعلاً وأقل ضرراً؛ فتقول لي: بإمكانك البحث عن فعل تغيظ به والدك، على أن يكون أقل فقداناً وخسراناً وكلفة عليك وعلى محبيك.. الفقدان إلى الأبد لا تقوى عليه، ولا تقوى أمّك وأخواتك على تحمُّله.

ثم أحدثُ نفسي: إن قتلتُ نفسي، فالأكيد أنني سأقتل أمّي معي حسرة وندماً وكمداً.. سوف أفتقد اخواتي إلى أبدٍ سيمتد إلى يوم القيامة.. سأثقلهم بقية حياتهم حتى مماتهم بكثير من الحزن والحسرة ووجع الفقدان.. جميعهم لا يقوون على حمل مصاب جلل كهذا.

وأسترسل في التفكير والحديث مع نفسي: قطعاً ومن المستحيل أن أقتل أبي، فمن سيعيل أسرتنا الكبيرة بعد أبي إن قمتُ بقتله وتغييبه عن ظهر هذه الدنيا الفانية؟؟! أين سأذهب من عار سيلطخ حياتي كلها، بل وندم أشد، سيودي بعده بي لا محالة، بل ولن تطول مهلته؛ فأكون ما هربتُ منه بتُّ أفعله مرتين.. مرة بإعدام أبي، ومرة أخرى بقتل نفسي.. وتبعاتُ هذا وذاك سيكون وخيماً على بقية أسرتي المنهكة.. قرار أحمق بخسارة مضاعفة.. لا .. لا .. هذا خيار مستحيل يجب أن لا أطرق له باباً أو نافذة.. هنا بإمكاني أن أتهم “الشيطان” داخلي في وسوسة تريد أن تدفعني إلى ما هو أثقل وأفدح.

الحقيقة أريدُ فعلاً آخرَ أقل كلفة ولكن لا يخلو من ضجيج أعبّر فيه عن نفسي ورفضي للقمع الذي اجتاحني من أبي.. لن يكون هذا إلا بفعل آخر صارخ ومشبع بالتمرد والاحتجاج. أريد أبي أن يندم على فعله المملوء بقسوة الحديد. أريده أن يسمع بعضاً من جنوني احتجاجاً على قمعه.. أريدُ أن أرد له بعضاً من جنونه بما هو متاح ومقدور عليه، ودون إزهاق أي روح.

لا أستطيع أن أبلع قهري وأصمتُ كحجر أو خشبة.. لا بد أن أفعل شيئاً أعبّر عنه بأقصى ما يمكن من الاحتجاج، ولكن دون الانتحار. أريد بوجه ما أن أعاقب أبي وأسمعه بعضاً من احتجاجي المنتفض.. لابد من حملِه على أن يُحِسَّ بمظلمتي وظلمه لي، ولا بأس أن يسمع قصتي كل الناس.. أريد أبي أن يندم بسبب قسوته المفرطة حيالي. كان غضبي يستعيد ركضه ورفسه داخلي، والدم يستعيد ثورته ويغتلي في عروقي.. أحتاج إلى إفراغ ما لدي وما في جوفي من رفس واكتظاظ وثورة.

*​*​*

نزلت من الحجرة التي كنتُ فيها، وعرّجتُ على باب الدار لأتأكد من إغلاقه بالمزلاج والمرزح، ثم صعدتُ إلى الديوان.. وضعت على الجدار المقابل علبة “طاحونية” فارغة، ولكنها زاهية بلونها الأخضر، وثبتّها بسكين في خُرم الجدار، ثم وضعت أمامي شبه “صندوق”، وهو عبارة عن ألواح خشبية كانت تُستخدم لنقل صفائح الجاز، وتحميلها على الجِمال عند نقلها.

انبطحتُ خلفه، وحاولت تثبيت البندقية بيدي من خلال ألواحه الخشبية لتقلل من الارتداد أثناء إطلاق الرصاص، واطلقت لرِجلَيَّ التمدد في وضع قتالي لم آلفه، ولكن انطبع في ذهني من صور شاهدتها في مجلات صينية وروسية حصلت عليها في وقت سابق من أخي المنتمي للحزب الديمقراطي الثوري، وقريني عبد الباسط أخ محمد سعيد غالب الذي كان ينتمي لأحد فصائل العمل الوطني التي يرأسها عبدالله عبدالرزاق باذيب.

كنتُ أعرفُ أن البندقية تركض الرامي خلفها عند إطلاق الرصاص؛ فلزم أن أثبّتها على نحو يقلل من ارتدادها.. حاولتُ أسدد على العلبة التي وضعتها على الجدار، فيما إصبعي جاهزة على الزناد بأمان مفتوح على الاطلاق السريع، وبمجرد الضغط على الزناد بإصبعي المتحفزة تم اطلاق الرصاص على السريع.

لم أكن أعرف أن كل ذلك الغبار سيكتظ من الداخل على ذلك النحو الكثيف، ولفترة بدت لي غير وجيزة.. لم أعرف أن الرصاص الراجع سيفعل بالجدران ما فعل!! لا أدري كيف نجوت؟!! لعل “الخضر” الذي منعني أبي من زيارته كان حاضراً معي، أو هو الحظ الوفير.

لم أكن أعرف أن صوت الرصاص والغبار الكثيف سيكون بذلك القدر الذي يجعل من يرى الدار من خارجه، ويسمع لعلعة الرصاص في داخله، يعتقد أن ثمة زلزالاً قد حل فيه، فيما كانت رائحة البارود نفَّاذة تملأ المكان وتعج فيه.

وفي زحام الغبار حاولت أفتش عن علبة “الطاحونية” التي سددت إليها الرصاص، فوجدتها كما هي، والسكين ثابتة كما هي في الجدار دون إصابة أو مساس.. لقد تفاجأتُ وشعرتُ بالغرابة أنني لم أصب الهدف الذي سددتُ البندقية إليه، رغم قربي منه أو عدم ابتعادي عنه أكثر من أربعة أمتار على الأرجح.. كانت رماية سريعة من المسافة “صفر”، لقد نجوتُ أنا والهدف، وأُصيب ما عدانا.

النسوة والرجال والأطفال هرعوا إلى الدار ليروا ماذا حدث!! كان أول الواصلين جارنا القريب مانع سعيد.. باب الدار مغلق، وأنا اطمئن الجميع من مفرج الديوان، إنه لم يحدث شيء ولم يصبني أي مكروه.

تكوَّم الناس باب دارنا، فيما أسئلتهم تتزاحم، وترتسم علاماتها، على الوجوه، وبعضهم يدق باب الدار بقوة ويهم بكسره، وأمي تهرع من البئر إلى دارنا وتتصرف كمجنونة.. تصرخ وتبكي وتنوح بقلب مخلوع، ومفطور بالفجيعة!!

نزلتُ وفتحتُ الباب وأطمئن الناس أنني بخير، فيما امي تفتش جسمي وملابسي لترى ماذا صنعت بنفسي. وعندما تأكدت من سلامتي ذهبت لتخفيني من أبي بديوان آخر في الدار.. ديوان مظلم ومملوء بحزم الزرع اليابس.. أما أبي فقد هرع من رأس “شرار” ربما لينتقم منّي أشد انتقام، ولكنه لم يجدني وأبلغته أمي أنني هربت إلى الجبل.

*​*​*

مكثتُ يومين في مخبئي السري لا تواسيني فيه غير أمّي، وحنانها وخبزها. ومع ذلك لم أنجُ من عقاب تأجّل، ولم تنج أمي من مائة سؤال ومشكلة.

خلال يومين أحسست أنني مللت مخبئي وملّني هو الآخر.. هواجس تحتدم داخلي، وكوابيس ضارية تقض مضجعي.. سأم يثقل كاهلي، ووحشة ووحدة قاتلة تشتد في جوف الليل الموغل في السواد.. طلبتُ من أمّي أن تترك لي فسحة بين إخوتي النيام لأنام بينهم، ثم توقظني قبل حلول الفجر لأعود إلى مخبئي خلسة دون أن يراني أبي.. ولكن انكشف أمري بعد ساعة زمن.. يا لخيبة حيلتي وحيلة أمي!!

مرَّ أبي على إخوتي النيام قرابة الساعة العاشرة ليلاً وهم يغطون بنوم عميق. أنا الوحيد بينهم من كنتُ متوجساً ويقظاً وأكاد أسمع دبيب النمل.. لا أدري ما الذي لفت نظر أبي أو أثار انتباهه رغم سكوننا وخمودنا.. لا ادري أي شيطان أخبره أنني على الأرجح أكون موجوداً هنا، في وسط من يغطون بالنوم.

سمعته يعد من هو موجود، ويقول لأمّي: هناك واحد زائد في العدد، وهي تشكك وتناور وتحاول أن توهمه وتصرفه إلى موضوع آخر؛ لكن أبي جثا على ركبتيه بيننا، وبدأ يتحسس بأصابعه، ويعد الرؤوس ويسميها لأمي، وأمي مرتعدة الفرائص تحاول أن تقرأ بكتمانها سورة ياسين، فيما أبي يعد ويتحسس الرؤوس، وما إن وصل إلى رأسي عرفني حتى أخذ يدقه بالأرض كالمطرقة، فانقَّضَّت أمي عليه كذئبه، وراحا يتشاجران وصوتي وصوت إخوتي المذعورين وصوت الشجار يملأ فضاء القرية وجوارها. صراخ يمزّق سكينة ليل أناخ واستتب، ويصيبُ أهل قريتنا وما حولها بالحيرة والأسئلة والفزع.

اقتنصتُ فرصة لحظة الشجار بين أبي وأمي ونفذت بجلدي. ركضت وقفزت من فوق الدار.. كانت مجازفة غير أن الخوف والهلع صنع المعجزة، وربما مادة الأدرينالين التي تفرزها الغدد الكظرية في حال كهذا تجنبنا ما قد يلحق بنا من ضرر محتمل.

*​*​*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى