طيران بلا اجنحة .. على هامش الموت فضول لا يستكين..!
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
على هامش الموت والفقدان والحزن الثقيل، أتساءل اليوم بفضول معرفي: لماذا الموت يا إلهي؟! نحن نعلم أنك حكيم، ولكن السؤال أيضاً يبحث عن الحكمة والبيان!! نحن شغوفون بالمعرفة وولعون بها، وربّما جُبلنا على هكذا حال، حيث وجدنا أمامنا تحدٍ وجودي معرفي لحوح، يملي علينا وجوباً أن نكون بمستواه، أو بما يليق به. أوليس من الأفضل والحق إدراكك وإدراك ما نبحث عنه بعلم من أن ندركك ونعبدك بجهل غشوم.
إننا نحاول فهم ما لا يتأتّى فهمه، وإماطة اللثام عنه، وكشف ألغازه ومجاهله، ومعرفة ما لا نعرفه، حتى وإن كان عصياً على الفهم والمعرفة منذ البداية، أو تحتاج الإجابة على بعض الأسئلة إلى مدٍ زمنيٍ مُستحق لبحثها أو للكشف عنها، إلّا أنّ شرفَ المحاولة فيه ممارسةٌ وجودية، تجعلنا نستحق هذا الوجود الذي نعيشه؛ فطالما وُجدنا فلابد من ممارسة وجودنا كما يجب وينبغي، وبما يليق بفضول الإنسان الباحث عن الحقيقة والمعرفة.
المعرفة لا تأتي بالتّسليم، أو بتجاهل ما لا ينبغي تجاهله، ولكنّها تأتي من اعتمال العقل والتجربة، وإثارة الأسئلة الوثابة للمعرفة، ومناقشةِ الفَرْضيات والنظريات، أو استبدالها أو تصحيحها. فالخواء لا يقدِّم علماً أو معرفة أو فَهماً لشيء، وأكثر منه غير مستعد للمحاولة، بل إن الخواء هو ما ينطبق عليه قول المثل: “فاقد الشيء لا يعطيه”.
ينبغي للأسئلة لتفعل فعلها في مسلكها المعرفي أن يرافقها نهوضاً بالوعي وإدراكاً بأهمية السؤال الباحث عن إجابة، وإناطة اللثام عن المسكوت عنه، وكسر أغلال العقل، وتحطيم موانع التفكير، والغوص في العمق، والنفاد إلى الجوهر، واستجماع ما يمكن من معطيات ومنجزات العلم للبحث عن مزيد منه، ومزيد من المعرفة والفكر، وبذل ما في الوُسْع والاستطاعة من الجهد؛ لاكتشاف ما هو مجهول وغامض، وإزالة كلّ لَبسٍ أو غبش.
سلطانُ العلم هو ما نحتاجه لننفذ به إلى أقصى مدى ممكن، وعلى نحو مُتجدد ومُستمر ومُوغِل، والأشياء الكبيرة كما قالوا “تبدأ بسؤال صغير”. وقيل في حديث “إنما شفاء العيّيّ السؤال” وفي المثل “من يخشى السؤال, لا يتعلم ابدا”، وفي آخر “ليس من العيب أن لا تعرف، ولكن من العيب أن لا تسأل”. وتكتمل الصورة بالمثل الألماني “ليس هناك سؤالاً غبياً، وإنما هناك إجابة غبية”، وهو ما يُوجب على الباحث الحذر من تلك الإجابات البلهاء الخاملة، والحيلولة دون الوقوع في فخ التسليم بها، ومقاومة محاولات تكسيح الفكر، وتعطيل العقل بالإجابات الجاهزة.
الأسئلة هي بوابات المعرفة، وهي السبيل إلى ما نسعى إليه من يقين، أو هي وسيلة تدلّنا من أجل الوصول إليه. نحن هنا نسأل أو نتساءل لنبدِّد حيرةً، تجلي شيئاً من معرفة، أو بصيص من علم، أو دليلاً نبحث عنه، أو وسيلة تؤدّي إلى خدمة الإنسان ومستقبله.
ما كان في دروب الأمس عصياً على الفهم والعلم، أو مستحيلاً عليه، صار اليومَ مُمكناً أو معلوماً، أو واقعاً مفهوماً وماثلاً أمام العيان، وما كان اليوم عصياً على الفهم والعلم، ربما يصير غداً بديهيّة معرفية، وما لا نطال جوابه اليوم، سنطاله غداً، وغداً لا ينفد ولا ينتهي في درب الزمن السرمد، أو المتطاول والمديد.
المستقبل الّذي نرومُ ونعملُ لأجله، سيفكِّك كثيراً من أسرار الكون وغموضه.. فالكون مكنوز بأسرار هائلة لا ينتهي كشفها، بل وتفوقُ كلّ تصور وخيال، والمعرفة لا حدود لها.. وطالما بقي إنسان في وجوده، سيظل يحتار ويسأل، ويُستثار هاجسه وفضوله المعرفي حتى يصل ويطمئن إلى ما يمكن الوصول إليه، أو يظل يعدِّلُ فيما كان يظنه يقيناً، حتى يصلَ إليه أو بعض منه، ويستمرّ تراكمُ العلم للانطلاق من جديد في كل محطة على نحو أفضل من سابقتها مستفيدة من تراكم المعطيات، واكتشاف المزيد، ليستمر الإنسان في حصاد المعرفة، وفي مدى لا ينتهي، ولن ينتهي إلا بفنائه.
***
يتساءلُ البعض: إن كان الموت ضرورة والحياة ضرورة، فأنت يا ألله على كل شيء قدير.. ماذا كان سيحدث إن عُدمت الضرورات وانعدمت الصدف، ولم يخلق الله الخلائق، ولم تشهد الأكوان والعوالم حياةً ولا موتاً؟! ربما لو حدث هذا لأنعدم الحزن الوخيم الذي يملأ هذا الوجود على اتساع ما نتخيله.. هكذا أحياناً يجوس ويتمرّد علينا السؤال في قمقمه، ويخرج صارخا من محبسه، وربما صارت كلفة السؤال هنا أو الإجابة عليه حياة صاحبه.
ربما يقول قائل: كان الأفضل عدمي، أما وقد وجدتُ فأنا أكره الموت يا ألله، لاسيما عندما يخطف منّا من نعزّهم ونحبّهم.. البقاء غريزة قوية فينا، أو جاءت معنا عندما جئنا، لا دخل لنا فيها، ولا حولَ ولا قوة.. أكره الموت عندما يخطف منّا حبيباً أو عزيزاً، أو من نكن له ود حميم.
ربما يرى البعض إن الموت عندما يخطف من نحب، يكون رهيباً جداً، وذابحاً لما نحمل من رق المشاعر ورهافة الوجدان، ونظل نعيش ما يورثه لنا من حزن وكمد ومرارة الفراق.. الموت سكونٌ موحش.. عدَم وفراغ يدوم، أو فراق إلى الأبد، أو رحيل بلا نهاية، أو خراب وحزن ثقيل جداً على بني البشر.. هذا الشعور ربما يخامر المرء عند رحيل كلّ عزيزٍ ومحب، فيما الموت عند الميت ربما شيء مغاير ومختلف عمّا نظن ونعتقد.
الموت حالةٌ ربّما تتأخّر، ولكنّ مجيئها في حُكمِ الأكيد.. كبارُ المسلَّمات ربّما تكونُ محلّ ظنٍ وشك، أمّا الموت فحقيقة ويقين. هو ناموسٌ كما قيل، لا يقبل الشكّ ولا التفاوض.. ولكن لا يدري الجميع أو الكثير بيقين، ماذا يحدث لنا بعد الموت والغياب الطويل. لم يعد أحد من الموت ليخبرنا بيقين ماذا بعده..!
***
حالنا اليوم هنا إننا ما زلنا نعيش بعض البدائية والبدايات الممتدة إلى عهد الأسطورة والخرافة والفرعون، ومحاولة إرغامنا على المراوحة فيها، والبقاء أسيرين لجدرانها وزنازينها.. نصارع أقدارنا من أجل انتزاع القليل من حقوقنا التي ترزح تحت أثقال ثقيلة من ركام التخلف والبؤس، والاستبداد الذي يحاول أن يستطيل مداه، ويفرض نفسه وغشامته كرهاً على إرادتنا في الحرية، والحيلولة دون الخروج من ربقة المتقادم عهده، والتحرر من وطأته الثقيلة بحثاً عن المستقبل الذي ننشده.
مازلنا نحاول اقتحام ما هو عصي على اطلاق السؤال، فنجد المصاعب والمتاعب والشروط التي لا تريد أن تتزحزح، وتحاول اخضاعنا لمشيئتها، لتبقينا حبيسين دارها وعهدها، وتارة تحاول أن تكرّنا على أعقابنا إلى أدراجها الموغلة بالتخلف والقِدم. ومثلما هي تحاول جرنا إليها نحن نحاول خلق شروط جديدة للانطلاق نحو المستقبل. ربما نتقدم ببطءٍ في بعضٍ أو حتّى في معظم الأحيان، ولكن بثقة إننا سننتصر في نهاية المطاف لا محاله.
مازلنا نبحث عن حقنا في السؤال أمام أبواب صدئة لازالت في وجوهنا مُوصده، وعقولاً في وجه البحث ما زالت مقفلة بردة حضارية تريدنا أن نعيش دياجيرها إلى الأبد، غير أننا مفعمين بالثقة أنها مهما غالبت وتكالبت ضدنا، فالمستقبل لنا لأننا نبحث عنه بإخلاص وإصرار عنيد قادر أن يصيّر المستحيل ممكناً.
***