أول مقيل لي في صنعاء..!
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
بعد مضي فترة وجيزة من قدومي إلى صنعاء بعد الوحدة، خامرني شعور ببعض عزلة وانغلاق وتوتر.. إحساس بالسجن أو الإعاقة أو الانطواء في مجتمع أكثر ما يجمعه ويشترك فيه هو تعاطي القات واجتماع المقيل.
أحسستُ أنني سأعيش منبوذاً ومنكفئاً في قبوي على نفسي إن لم أحاول تعاطي القات، أو على الأقل حضور مجالسه، بل وجدتُ نفسي احتاج مجلس خاص بي يجتمع فيه معارفي واصدقائي، وبعض من اريد التعرف عليهم عن كثب وقرب.. لقد قال الواقع كلمته: لابد للود من قات ومجلس.. لابد من التعايش بهذا الحد أو ذاك مع الواقع الذي وجدت نفسك تعيش غربتك فيه.
لقد شعرتُ على نحو متزايد أنني في مجتمع مدمن ومُخدّر يجمعه القات، وفيه يبدو السوي في هذا الأمر شاذاً، ويبدو الشاذ سوياً.. القاعدة تتحول إلى استثناء والاستثناء يتحول إلى قاعده.. الصحيح يبدو في نظر “المجتمع الخطأ” خطأ، والخطأ يبدو صحيحاً في الوعي السائد لدى المجتمع.. لا أستطيع أن أكون مثالياً إلى ذلك الحد المصنوع بالرقم والمسطرة حتى وإن كانت رغبتي تميل إلى تحقيق ذلك.. لم أكن مُعمماً بسلطة أو في يدي زمامها.. لا يد لي عليها ولا صولجان.. ليس بإمكاني أن أصدر قوانيني لأعممها وأفرضها على المجتمع.. لا قدرة أرغم فيها المجتمع على إنفاذها من غير سلطة.. لا بأس من الميل والتنازل قليلاً تحت هكذا ضغط في مجتمع يحكم عليك بالعزلة والنبذ عندما تصادم ما أستقر عليه الناس من عادات وتقاليد وأعراف.. هكذا ربُّما فكّرتُ في لحظة هشاشة أستمرت.
خُضتُ صراعاً مع القات قبل أن أدمنه.. تأرجحت بين إقدام وإرغام.. عشتُ لبعض الوقت حالة شعورية مقاربة لوصف من قال: حال بين من لا يستطيع العيش في مجتمع، ولكنه في الوقت ذاته لا يستطيع العيش من دونه.
تحت هكذا شعور وواقع مجتمعي يفرض شروطه؛ قررتُ أن يكون لدي مجلس قات متواضع وعلى قدر الحال.. اشتريتُ مسانداً ومتاكئاً محشوةً بنشارة الخشب وألياف أخرى لا أدري صنفها، وربّما بعضها صنعناها نحن في البيت بعد أن حشوناها بأشياء أخرى مثل أقمشه قديمة، وذلك كاحتياط أو لسد النقص عند الاحتياج.
***
كان مقيلي الأول في مجلسي بصنعاء يضم لفيفاً من الأصدقاء والزملاء والأصهار، جميعهم يتعاطون القات، باستثناء اثنين، هما رفيقي جازم، وزميلي وجاري منصر الواحدي. أمّا أنا فهناك من حملني على أن أقع أعوراً كما ورد في المثل الشعبي: “إذا دخلت بين العوران قع أعور” رغم أني كنت المستضيف للمقيل، ولكنّي أرغمتُ على التخزين بيمين الطلاق وبالثلاث.
صهري محمد المطري “مبحشم” كبير، ومولعي قات من الدرجة الأولى، وبمثابرة يومية لا يقطعه عنه إلا ظرف قاهر، كمرض شديد الوطأة ألزمه الفراش.. خبرته في القات والتخزين والكيف ضاربة جذورها في مدى أربعين أو خمسين عاماً متوالية.
عزمتُ محمد المطري إلى المقيل معي في أول يوم افتتاح ليشرّف مجلسي.. حضر بقاته وقاتي دون أن أطلب منه أن يشتري لي قاتاً معه، بل لم أكن أعتزم التخزين، وإنما اعتزمتُ الجلوس مع المخزنين، غير أن المطري أرغمني على التخزين بالحرام والطلاق والأيمان الغلاظ.
صديقي ورفيقي ومسؤولي الحزبي جازم العريقي الذي أحببت أن أعرفه ببعض أصهاري ومعاريفي في صنعاء لا يتعاطى القات مطلقاً، واستعاض عنه بـ “الزعقة”، فيما جاري وصديقي منصر الواحدي لا يتعاطى القات ولا “الزعقة”، وكلما مل ذهب إلى بيته في الجوار وعاد بعد ساعة، وثلاثتنا من الذين أتينا إلى صنعاء من عدن بعد الوحدة. فيما رابع وخامس وسادس من صنعاء يتعاطون القات، ولكن لا أدري بأي قدر.
***
وجدتُ نفسي في الجلسة أمارس إكراه نفسي على التخزين.. كنت في بداية المقيل وأنا أتعاطي القات، في حال أشبه بحال المحكوم عليه بفعل ما يكره، ومع ذلك حاولتُ أداري ما يعتريني متقمصاً إشراقة مزيفة.. كنتُ كلّما حشيتُ ورقة في فمي، أجد مرارتها تبلغ رأسي.. أشعر بكلفة وإرغام وأنا أتعاطيه.. ربما بديت أمام نفسي وصبري في المقيل وكأنني في جلسة تعذيب.
طلبتُ شاي أسود بالنعناع والقرنفل، أحسستُ وأنا أكرع الشاي في فمي ان المطري المبحشم جواري مستاء مما أفعل.. سمعتُ منه همهمة وبركضة كلام غير مفهوم يشبه قرقرة نرجيلة، ثم استأنف الحديث في سياق آخر.
شعرتُ كأنني ارتكبتُ خطأً لا أعرف ما هو بالضبط.. في عدن وقبلها في قريتنا جرت العادة لدى الكثير بشرب الشاي أو” المزغول” مع القات.. أبي كان يفعل هذا وغيره كثيرون، ولم أسمع من يعيب أو يعاف هذا.. أحسستُ أن ما أفعله لا يروق، بل ربما يكسر كيف “المطري” دون أن أعلم، أو هذا ما عرفته منه لاحقاً.
بدأ مزاج وكيف المطري ليس على ما يرام.. بدأ وكأن عطباً قد أصابه في مكين.. اربدَّ وجهه غلساً وكلحةً.. ربما حاول أن يكظم غيظه مراراً حالما كان يشاهد الرفيق جازم في الوجه المقابل له، وهو يأكل الزعقة باحترافية مدهشة، وكان صوت “فَقص الزعقة” لافتاً، وأحياناً يبدو صوت بعضها صارخاً ومستفزاً لكيف “المطري”.
نفد صبر المطري، وقد بدت له أصوات “قصقصة” الزعقة كانفجارات يقذفها رفيقنا في وجهه.. فانفجر بيننا كرعد داوٍ.. بدا وكأن مسّاً شيطانياً قد أصابه.. صرخ بانفعال لم نتوقعه في وجه رفيقنا الطيب جازم:
– خزّن وإلا قم اخرج من عندنا.. اقلع من وجهي.. قيص قيص قيص، من الساعة ثلاث ما خليتنا نخزن ولا خليتنا نطعم القات.
اهتجني حرج شديد.. أحسستً بغصة ذابحة.. جفّت شفاهي حتّى بدت لبرهة كأنها محنطة من عهد فرعوني بعيد.. أحمرَّ وجهي واسودَّ خجلاً من حماقة المطري حيال الرفيق جازم، الذي كان خجولاً، وبدأ لنا إثر كلام المطري بوجه كسير ومصدوم.. زفر ألماً وكمداً من صفاقة وفجاجة كانت لنا صادمة..
أحسستُ بدوار وكأن الأرض من تحتي تميد.. جازم إنسان من الطراز الرفيع.. مرهف الإحساس والمشاعر.. جازم بالنسبة لي كان مثالاً وقدوة.. مثقف ممتلئ، وقيادي حزبي من الطراز الأول، وأكثر منه، نبيل إلى حد لا يصدّق.
اعتذرتُ للجميع واعتذرتُ للرفيق جازم الذي شعرتُ أن ما فعله “المطري” قات وصاحب، لا يداوى حتّى وإن فرشتُ على الجرح صفحة وجهي.. كان هذا أول درس صادم تعلمته في أول مقيل، وأول مجلس قات في العاصمة صنعاء.
***