مذكرات

قراءة تحليلية لنص “في المرقص” لـ”أحمد سيف حاشد”

برلماني يمني

هذه القراءة التحليلية اعتمدت على تقنيات الذكاء الاصطناعي في معالجة المحتوى واستخلاص أبرز الدلالات. وتهدف هذه المقاربة إلى تقديم رؤية مركزة وموضوعية تساعد القارئ على فهم أهم الأفكار والرسائل الكامنة في النص.

موجز

القصة في ظاهرها حكاية بسيطة لرجل يزور مدينةً أجنبية، فينزل إلى مرقص، ثم يحاول أن يرقص مع فتاة، فيعجز عن الكلام، فتعمّ الضحكات المكان، ويخرج من الموقف بخفةٍ ساخرة.

والحكاية الحقيقية لا تكمن في تلك اللقطة العابرة، بل في المنطقة السرّية التي يتكسّر فيها عمرٌ بأسره على لحظة واحدة.

رسالة النص

الرسالة العميقة للنص تقول:

“نحن شعوب حُرمنا من الفرح حتى صرنا غرباء في لحظات الفرح حين تأتينا.”

والنص صرخة حرمان تتخفى داخل قصة مضحكة وحزينة.

مدخل

النص، في جوهره، اعترافٌ طويل لا يدور حول الرقص، بل حول الحياة التي لم تُعَش، والروح التي بقيت معلّقة بين واجبٍ ورغبةٍ تبحث عن فسحة ضوء.

في هذا النص، يتجلّى الكاتب لا بصفته سياسيًا، ولا حقوقيًا، ولا مناضلًا يمنيًا خبر المعارك والمظالم، بل بصفته إنسانًا يتفقّد الخراب الذي عَبَرَ حياته.

الحكاية في ذلك العمر المرهق الذي وقف فجأة أمام مرآةٍ قاسية، فرأى كم مضى منه بلا حياة، وكم ظلّت الروح فيه مؤجلة، ومحاصرة.

هذا النص يبدأ من مكانٍ بعيد لينتهي باعتراف ووجعٍ شفيف، ما يزال يبحث عن رقصةٍ فاتته، وعن حياةٍ كانت على وشك أن تكون ولم تكن.

شخصية الكاتب

النص كُتب من موقع التجربة الذاتية، يظهر الراوي فيه حساسًا.. شفافًا.. محاصَرًا بتاريخ قمعي طويل.. صادقًا في الاعتراف.. مثقلاً بعمرٍ يجيء من ساحات حقوقية وسياسية شاقة.. يملك قدرة عالية على المراقبة الداخلية.

هذا النص لا يكتبه شخص “سائح” أو “شاب فضولي”، بل شخص تجاوز الخمسين أو الستين ويحمل أوزار حياة كاملة، ولذلك تأتي اللحظة البسيطة (طلب رقصة) بمثابة زلزال داخلي.

في كل سطر من النص يطلُّ رجلٌ عاش أكثر مما ينبغي من التعب، وأقل مما ينبغي من الطفولة.

رجل قضى حياته في المواجهة، والكتابة، والتشريع، والاحتجاج، والسجون، والتهديد، والدفاع عن الآخرين، لكنه لم يدافع يوماً عن حقه الشخصي في لحظة خفيفة، لحظة رقص.

يخرج الكاتب هنا من عباءته العامة ليرتدي جلد الإنسان العاري، فيكتب بصوتٍ لم نعتده منه دائماً:

صوت هشّ، شفّاف، ينضح بوجع خافت، وجوع عاطفي عظيم.

إنّه رجل لم يتصالح يوماً مع جسده، لأن الجسد في بيئته كان شبهة، وكان الفرح خطيئة، وكان الرقص علامةً على نزوة آثمة، وكان الغناء باباً إلى “الانحراف”.

ويظهر الكاتب في النص محمولاً على أكتاف ثقيلة:

خجل الطفولة، خشية المجتمع، رقابة الشيوخ، وسياط الموروث، ثم قيود المسؤولية العامة.

ومن هنا نفهم لماذا يكتب عن رغبته في الرقص وكأنه يكتب عن استعادة روحه من تحت الركام.

حين يتحدث الكاتب هنا إلى نفسه كمن يخاطب غريبًا يسكنه

النص كله محمول على خطاب داخلي، نداءات تتوالى:

– يا لعمري الذي ضاع.

– يا لروحي المكبّلة.

– يا لحسرة من لا يرقص.

إنه خطاب لذاتٍ كأنها تقف أمام نفسها لأول مرة بلا قناع.

ما يلفت في النص أن حاشد لا يكتب هنا بصفته “نائبًا”، أو “مناضلًا”، أو “حقوقيًا” بل يكتب كإنسانًا جريح، حُرم كثيرًا من الفرح… من الرقص… من الطيش.. الكاتب هنا كطفلٍ  يبحث عن يد تمسكه..

تصنيف النص

النص يتراوح بين أدب الاعتراف والسيرة الذاتية الوجدانية والنثر الشاعري وأدب الرحلة الداخلي.

الرحلة ليست جغرافية بقدر ما هي نحو الذات.

إنه نصّ يكشف الداخل أكثر مما يصف الخارج؛ 

“المرقص” مجرد مسرح خارجي لانكشاف داخلي.

إيقاع البوح

– النص مكتوب بجرأة ومكاشفة كاملة، تصل أحياناً إلى حدود “تعري النفس”.

– لغة النص الشعرية أقرب إلى قصيدة مكتوبة بالنثر.

– العاطفة كثيفة والجمل مفعمة بشحنة وجدانية عالية، وفي بعض المقاطع تتجاوز حدود “ضبط السرد” لصالح الانغمار الكامل في الشعور. وهو ما يُعد قوة جمالية.

– النص قائم على جمل طويلة متموجة، تشبه نفسها إيقاع الرقص الذي يسعى إليه الكاتب ولا يصل.

مكامن القوة والضعف في النص

– القدرة على تحويل لحظة بسيطة إلى حدث وجودي عميق، وشفافية وصدق، وقدرة على تصوير الخجل والقلق والحرمان والصراع الثقافي الداخلي والهشاشة الإنسانية.

– أما قوته الفكرية هي في دعم النص باقتباسات نيتشه وجلال الدين الرومي لمنح النص خلفية فلسفية وروحية وربطه بتجارب إنسانية كبرى.

– أما نقاط الضعف المحتملة في النص والتي لا تمس قيمة التجربة فهي الاستطراد الوجداني والإطناب في الوصف والجمل الطويلة جداً وإن كانت جميلة، لكنها قد تربك قارئاً يبحث عن سرد أكثر اقتصاداً.

وفي التقييم الشامل يمكن القول:

نص قوي جداً في عناصره الجمالية والنفسية والاعترافية.

أهم ميزاته

 • الصدق

 • النبرة الإنسانية

 • الشعرية العالية

 • كشف الذات دون تجميل

ونقطة ضعفه هي التمدد العاطفي، لكنه جزء من روحه وأصالته.

المرقص كنافذة وجودية

المرقص ليس مرقصاً فقط، بل فضاء اختبار الحرية.

الطابق الأعلى يرمز للعقل والرسميات والقيود والسلطة والوقار المفروض.

الطابق الأسفل يرمز إلى الجسد والرغبة والحياة والجنون الجميل.

المرقص هنا يتخذ شكلاً برزخياً بين الحياة التي عاشها الكاتب، والحياة التي كان يمكن أن يعيشها.. بين الذات المقيّدة، والذات التي لا تعرف القيود.. بين “حاشد” الرجل العام، و”حاشد” الطفل الذي لم يكبر في مملكة الفرح.

الفتاة الروسية التي أراد أن يرقص معها ليست امرأة بقدر ما هي رمزٌ لشيء مفقود: الحنان.. الاعتراف.. المؤازرة.. الشعور بأن شخصًا ما قد يقوده للحظة نحو الضوء.

هذه ليست رغبة جسدية، بل رغبة وجودية وهي أن يشعر للحظة واحدة أن الحياة لا تزال تحتمل الدفء.

لغة تقطر بالألم والحلم

النص مكتوب بلغة تتقدم على الخطاب، وتتجاوز الحكاية إلى الموسيقى.. أستخدم فيها الكاتب استعارات كونية: فراغ كوني، مجرّة، ثقب أسود، نجوم، مدار، وهذا الارتكاز على الصور الكونية يشي برغبة في قول شيء أكبر من “لم أرقص مع فتاة”،

إنه يريد القول: لم أعش كما يجب لإنسان أن يعيش.

الشعرية في النص ليست زينة بل هي أداة تفكيك تُظهر هشاشة الداخل، وتعرّي الندم، وتكشف مدى اتساع الخيبة بحيث أصبحت “كوناً”.

يكتب حاشد بلغة رجلٍ أحسّ ذات لحظة أن الزمن أفلت من بين أصابعه، فأمسك بالقلم كما يمسك الغريق بخشبة نجاة،

وترك الكلمات تتدفق بمرارة طفل يكتشف أن عمره سُرق منه وهو يرسم على جدار المدرسة كلمة “ممنوع”.

الفلسفة المتخفية

يستدعي النص صوتين من أكبر أصوات الحرية:

– نيتشه الذي رأى أن الأخلاق القمعية ليست فضيلة، بل مرض،

وأن الحياة يجب أن تُعاش بكل ما فيها من خفة ورقص.

عندما يصف حاشد مجتمعه بأنه “ينظر بخبث إلى الحياة”، فهو يترجم نيتشه إلى واقعه. وهو بذلك يعلن، وإن بشكل غير مباشر، أنّ الحرمان ليس قدراً إلهياً، بل نتاج ثقافة تكره الجسد وتنفر من الفرح.

– الرومي وهو الصوت الداخلي الذي يمنح الرقص معنى روحياً،

الذي يرى في الموسيقى باباً للسماء، وفي الحركة نشوةً لا يدركها إلا من ذاق الحب.

الرومي ونيتشه، رغم تناقضهما ظاهرياً، يجتمعان في النص داخل ذات الكاتب:

الرغبة والعشق، الجسد والروح، الحياة والسمو.

غربة المكان وغربة الداخل

لم يشعر حاشد بالغربة لأنه في روسيا، بل لأنه في “مكان يمنح ما حرمه الزمن”.

غربة الداخل أشد فتكاً من غربة المكان.

هو في وسط مرقص مليء بالضوء، لكنه يشعر أنه “يتيم الأبوين”،

مطوّق بعمر كامل من الحرمان..

هكذا يصبح المرقص مختبراً قاسياً، يكشف هشاشة الروح أمام ما تظنه بسيطاً، تماماً كما تكشف لحظة ضوءٍ صغيرة هشاشة الظلام الذي طال.

السخرية باعتبارها خلاصاً: 

النهاية الساخرة، حين يكتشف الكاتب أنه قال للفتاة:

“تعالي اركبي السيارة” بدلا من “هل ترقصين معي؟”

هي لحظة بعينها تصلح لأن تُلخّص حياة كاملة.

أحياناً يكون الإنسان على حافة الوصول إلى حلمه، لكن كلمةً واحدة تفلت من فمه، فتقلب الحلم إلى نكتة.

السخرية هنا ليست فكاهية، بل دفاع نفسي.. إنها محاولة لتقليل حجم الألم.. ضحك الكاتب على نفسه هو وسيلته الأخيرة لحماية قلبه من الانهيار.

الكاتب بين السياسة والإنسان

من يتابع سيرة أحمد سيف حاشد يدرك أنه رجل عاش نصف عمره على ضفاف الخطر:

السجون، التهديد، التحقيق، المواقف، المقاومة، الشارع، القضاء، الصحافة، النضال، المطاردة، الاعتداء، الصمود.

لكن ما بين كل هذه الجبهات، ظل هناك جرح صغير،

جرح لم ينتبه إليه أحد، وربما لم ينتبه إليه هو نفسه:

وهذا النص يُظهر وجه الإنسان الذي يدرك متأخراً أن “الواجبات الكثيرة” قد أكلت حياته، وأن “المسؤولية” حين لا تتوازن مع حق الإنسان في المتعة تتحول إلى قسوة.

إنه نص اعتذار من الذات لنفسها،

اعتذار من الطفل الذي وُلِد في القبيطة،

ولم يمنحه الزمن سوى أدوارٍ أكبر من حجمه،

فكبر قبل أن يلعب،

وحارب قبل أن يرقص،

وناضل قبل أن يحب.

ماذا يفعل بنا النص..؟

النص يترك في القارئ أثراً غريباً:

ليس تعاطفاً فقط، ولا حزناً فقط، بل رغبة في إعادة التفكير في حياته الشخصية.

يصبح القارئ نفسه هو الذي يسأل:

ما الذي ضاع مني؟

ما الذي لم أفعله؟

أين الطابق الأسفل الذي لم أنزل إليه؟

وأي فتاةٍ طلبت منها الرقص فسخرت من جهلي باللغة؟

وأي لحظة حلمٍ أخطأتها كلمةٌ طائشة؟

وبهذا المعنى، لا يعود النص مجرد تجربة فردية، بل يتحول إلى مرآة جماعية، تعكس وجه مجتمع كامل حُرم من الفرح، حتى صار يعتذر من نفسه حين يريد أن يرقص.

حين يفتّش القلب عمّا فاته :

ليس النص عن المرقص. وليس عن الفتاة. ولا عن روسيا. ولا عن الضحكة.

النص عن العمر الذي مضى في الواجب والجدّ والموقف والعمل والصلابة.. العمر الذي لم يمضِ في الفرح والرقص والحب واللذة والدهشة.

إنه نص يكتب سيرة داخلية لرجل اكتشف، متأخراً، أن الحياة ليست فقط ما ندافع عنه، بل أيضاً ما نعيشه.

والكاتب يكتب هنا نصاً لا يكتبه إلا شاعر،

ولا يعترف به إلا إنسانٌ صادق،

ولا يلامسه إلا من عاش صراع الروح مع القيود.

النص كوثيقة إنسانية

في نهاية هذا التحليل الطويل الممتد، يمكن القول:

هذا النص واحد من أصدق نصوص الاعتراف اليمنية والعربية المعاصرة.

لا لأنه يعترف بخطيئة، بل لأنه يعترف بحرمان، وهذا أصعب.

لا لأنه يحكي عن رغبة، بل لأنه يحكي عن عمر. وهذا أثمن.

هو لا يصف مرقصاً، بل لأنه يصف حياة كاملة فُتحت فجأة في مرآة مرقص. 

الخجل

هناك نوع من الكتابات التي لا تُكتب لتُقرأ فحسب، بل تُكتب لتُشفى. ونص “في المرقص” ينتمي إلى هذا النوع.

الخجل… حجر الرحى الذي دارت عليه حياته.. الخجل هو البطل الحقيقي للنص.

خجل ثقيل، متوارث، محمول منذ الطفولة:

خجل من الجسد.. خجل من الرغبة.. خجل من الحياة نفسها، وخجل من مجتمعٍ يحوّل الفرح إلى خطيئة

وهذا الخجل هو الذي جعله يشعر أن الدقيقة في المرقص تعادل سنوات من عمره السجين.

البعد الفلسفي في النص

النص، وإن بدا بسيط الظاهر، إلا أنه مبني على فكرة فلسفية عميقة:

أن الإنسان يُقاس بما لم يعشه أكثر مما يُقاس بما عاشه.

يتكرر في النص إحساس الكاتب بأن العمر فلت من يده.

لا يقول ذلك مباشرة، لكنه يسكبه بين الأسطر:

“يا لعمري المأسوف عليه”

هذا يشبه صدى “هايدغر” حين يتحدث عن الإنسان الذي “وُجد ليُنفق وجوده”، ويشبه “كامو” وهو يحدّق في العدم الماثل خلف لحظات الفرح.

يظهر البعد الفلسفي في النيتشوية عند الحديث عن “النوع البائس المريض”، وعن الحياة المكبوتة، والصوفية العشقية لدى جلال الدين الرومي في الموسيقى والحب كخلاص فيما تظهر الوجودية في الحديث عن العمر المهدور، الفراغ الكوني، الندم، العبث.

هذه المزاوجة نادرة في نص واحد، وهي ما تعكس تكويناً ثقافياً غنياً ومتنوعا.

الجسد كمنفى

الكاتب يتعامل مع جسده كخصم لا كرفيق:

جسد لم يتعلّم الرقص

لم يسمح له المجتمع أن ينطلق

ظلّ محاصرًا، مكبّلًا، مراقَبًا

هذا يعيدنا إلى مقولات “نيتشه” التي اقتبسها الكاتب:

المجتمعات التي تكره الجسد، تكره الحياة.

الرقص كخلاص

الرقص، في الفلسفة الصوفية، ليس حركة، بل خروجٌ من الجاذبية.

الرومي قال: “من دون الحب تصبح الموسيقى ضجيجًا”.

والكاتب هنا يبحث عن لحظة حب، لحظة صوفية، لحظة خلاصٍ من ثقل العالم.

هو لا يريد أن يرقص فحسب؛ يريد أن يرتفع.

أن يتحرّر

أن يخرج من قشرته

أن يلحق بنفسه التي تأخّرت عنه.

مقاربات 

مع أعمال الاعتراف والأدب الإنساني

يمكن قراءة نص “في المرقص” في ضوء تجارب أدبية عالمية تنتمي إلى جنس الاعتراف والبوح الداخلي، حيث تصبح اللحظة الصغيرة مرآة لعمرٍ كامل، ويغدو المشهد البسيط فضاءً لتعرية الذات.

– يلتقي النص، مع عالم دوستويفسكي؛ ليس في البناء أو اللغة، بل في تلك الرهبة المغروسة أمام امرأة، وفي العجز الذي يتحول إلى جلدٍ للذات، وفي الشعور بأن العالم كله يقف متفرجًا على لحظة سقوطك الصغير.

هنا يلتقي النص بروح دوستويفسكي في هشاشة الإنسان حين يُختبر في أكثر لحظاته بساطة.

– ومع جان جاك روسو، يلتقي النص في جرأة المكاشفة؛ ليس اعترافًا بالخطيئة، بل اعترافًا بالحرمان، كأنّ الكاتب يقول:

“لم تخذلني الحياة بقدر ما خذلتُ نفسي حين تركتها تتسرب من بين يدي.”

– وتبدو صلة خفية بين النص وبين باولو كويلو في رواية أحد عشر دقيقة؛ حيث يتحول الرقص من حركة جسدية إلى وسيلة لكشف الروح، ولحظة يختبر فيها الإنسان صدقه مع نفسه لا مع الآخرين.

– ومع جبران خليل جبران، يتقاطع النص في لغته الحزينة الموشّاة بالحنين، وفي ذلك الصوت الداخلي المتعب الذي يحاول أن يتذكر أن الإنسان خُلِق للفرح، وأن الحزن ليس قدرًا دائمًا، بل طبقة من طبقات الروح.

ثم يمتدّ الخيط ليصل إلى ياسوناري كواباتا؛ حيث الرهافة، ورقّة الالتقاط، ومحاولة الإمساك بالجمال الهارب من اللحظة، كأن الكاتب يقبض على لحظة المرقص كما يقبض كواباتا على لحظة الثلج الأولى في رواياته: هشة، عابرة، لكنها تكشف كل شيء.

وكل هذه المقارنات لا تضع النص في خانة واحدة، بل تجعله أقرب إلى ما يمكن تسميته بـ “الأدب الإنساني الكوني”؛

الأدب الذي لا ينتمي لبلدٍ أو زمن، بل ينبع من جرحٍ بشري واحد.

مقاربات مع نصوص الاعتراف تحديدًا

إذا انتقلنا إلى جنس الاعتراف بشكل خاص، بدا النص جزءًا من تراث طويلٍ كتبه كتّاب العالم وهم يواجهون أنفسهم بلا قناع.

– يذكّرنا النص أولاً بـ اعترافات تولستوي، لكن مع فارق جوهري:

تولستوي يعترف بخطاياه الأخلاقية، أما الكاتب هنا فيعترف بخسارة نفسه؛ بأنّ حياته مضت في الواجب لا في الفرح.

الاعتراف عند تولستوي أخلاقي، بينما الاعتراف هنا وجودي خالص.

– ومع فرناندو بيسوا في كتاب اللاطمأنينة، تتجاور الروحان في التعب والبحث عن شيءٍ لا اسم له. غير أن بيسوا يكتب تيهًا كاملًا، بينما يكتب الكاتب تيهًا مُركّزًا في مشهدٍ واحد.

بيسوا متشائم حتى العظم، أما الكاتب فحزينٌ من غير يأس،

متألم من غير استسلام.

– ومع غابرييل غارسيا ماركيز، تبدو الطفولة مادة للكتابة؛

غير أن ماركيز يستعيدها كطاقة، بينما يستعيد الكاتب “حاشد” طفولته كجرحٍ قديم.. هو الذي جعله يقف في ذلك المرقص وحيدًا داخل زحامٍ صاخب لا يسمع صوته.

– ويعود النص ليستعيد ظلّ دوستويفسكي من جديد، لكن هنا على مستوى أعمق:

دوستويفسكي يصف السقوط الداخلي وتشرذم الذات، والكاتب هنا يصف سقوطًا لطيفًا.. سقوطًا بلا ضجيج، كأن الحياة تحاصره وتهمس له بهدوء قاسٍ:

“تأخرت كثيرًا.

مسك الختام تحويل الفشل إلى لحظة ولادة

النص كله مبني على “فشل” صغير:

فشل في طلب الرقص.

فشل لغوي.

فشل في مواجهة الضحك.

لكن هذا الفشل يتحوّل إلى مرآة كبرى يرى فيها الكاتب كل شيء: حياته، خساراته، خجله، أحلامه المؤجلة.

إنه ليس فشلًا… إنه اعترافٌ متأخر بأن الإنسان لا يعيش إلا مرة واحدة، وأن ما ننجزه في السياسة والنضال لا يعوّض تلك اللحظات الصغيرة التي تُبقي الروح طرية، قابلة للحلم.

ولعل أجمل ما في النص أنه لا يطلب شفقة، ولا يصرخ، بل يبتسم في النهاية:

ضحك على نفسه حين عرف أنه بدلًا من قول “هل ترقصين معي؟”، قال للفتاة:

“هل تركبين معي السيارة؟”

وهذا الضحك الأخير ليس سخرية، بل غفرانٌ للذات، لحظة نادرة يقف فيها الكاتب أمام نفسه ويقول:

لقد حاولت…

ولو تأخرت كثيرًا…

ولو خانتني اللغة…

ولو ضحكن الفتيات…

فقد حاولت.

وهذا وحده يكفي لتبدأ حياة جديدة.

وختاما يمكن القول: هذا النص هو جزء من أدب الاعتراف العربي النادر، وهو وثيقة إنسانية أكثر منه جزءاً من أدب الرحلات. 

نص “في المرقص..!” 

أحمد سيف حاشد

في “فولجا جراد” ارتدنا المرقص أيضاً، نحن وسعادة الجنرال الروسي المكلف بمرافقتنا.. فسحة ترفيه ربما جاءت خارج برنامج الزيارة المقرر.. المرقص مكون من طابقين.. الأعلى هو الأغلى سعراً والأكثر اهتماماً وخدمة، والزبائن فيه أكثر وقاراً ورُقياً، فيما الطابق الأسفل يرتاده المراهقون والشباب ومن في حكمهم.

بعد أن أمضيت قليلاً من الوقت في الطابق الأعلى، شعرت أنني مكبل ومغلول إلى عنقي.. أحسست أن حريتي تختنق.. الرسمية التي أتصنعها هي الأخرى كانت تفرض ثقلها على كاهلي بما لا يروقني.. أحسست ببعض الملل والرتابة.. لا أريد أن أبقى مشاهداً كصنم أو رجل محنط على المقعد.. لا أريد أن تفلت منّي تلك اللحظات الجميلة بدعوى الوقار، والتصنّع بما أعافه.

طلبت من الجنرال السماح لي بالنزول إلى الطابق الأسفل.. هناك صخب مكتظ بالحياة.. هناك رقص مثير للدهشة.. تم السماح لي بالنزول بعد تردد، وربما امتعاض مسؤول، ولم ينسِ تحذيري وأن أدير بالي على نفسي، وانتبه لنقودي؛ لأن هناك يحدث بعض نشل وسرقة.. ثم استدرك وطلب مني أن لا أتأخر.

*​*​*

نزلت إلى الطابق الأسفل.. أريد أن أرقص مع فتاة.. شعرت أن ما كان حلماً بعيد المنال، قد صار في متناول الإمكان.. في “فولجا جراد” النساء جميلات، والفتيات أجمل.. أريد أن اختلس نصف ساعة زمن أو حتى دقائق منها.. أشعر أن الدقيقة هنا كثيفة تعادل ما فات وضاع من فرص عمري المهدور.. يا لعمري المأسوف عليه.. أريد هنا أن أقول: قف لحظة يا زمن.. أريد أن أرقص مع فتاة حتى أثمل.. الرقص يمنح الروح مملكة من البهجة والفرح.. يا لحسرة من لا يرقص.. ويا لحسرتي.. هكذا كنت أحدث نفسي.

لأول مرة أشعر أن في داخلي فراغاً كونياً أكبر من المجرّة.. أريد أن أفرغ أحمال فراغي وأرقص حتى أحلّق عالياً بين النجوم البعيدة.. أريد أن أرقص حتى أدوخ لأعوّض عوالم كانت عصيّة على الحلم والبوح.. رغبة جامحة في أن تتحرر روحي المكبلة مما هو أشد من أصفاد الحديد.. إنني أرغب بإطلاق العنان لروحي، ولو لبرهة زمن؛ لأحلّق في رحاب المدى، وفضاءات السماء الواسعة.. كانت السماء يومها صافية.

عشت معاناة كبيرة.. عشتُ كثيراً من الحرمان الذي لازم حياتي المتعبة والمثقلة بكل ما هو مؤلم وثقيل.. أنا القادم من بلاد مازال جل شيوخها يحرّمون الغناء والرقص، ويمنعون عنّا الفرح والطرب.. متزمتون حد الإعتام، ينطبق عليهم وصف “نيتشه” وسؤاله بقوله: “إنهم نوع بائس ومريض.. جنس رعاع.. ينظرون بخبث إلى هذه الحياة.. وعينهم عين سوء على هذه الأرض… أقدامهم ثقيلة، وقلوبهم تختنق رطوبة… كيف للأرض أن تكون خفيفة بالنسبة لهذا النوع إذًا؟!”

كنتُ أحدث نفسي وأنا أشاهد ما أشاهده: أنا المدفون بالحياء.. يجب أن لا أمضي في إهدار هذه اللحظات التي ربما لا تعود.. العمر قصير جداً، ولا أريد أن أندم على عمر الصبا الذي ضاع، وأهدر مثل هذه اللحظات المشبعة بالحياة.. العالم هنا يغنّي ويرقص ويعيش حياته بالطول والعرض وبكل المقاييس.. لحظات جميلة بكل الأبعاد.. أنا المكبل بالحديد والنار، وأعز سنيني هُدرت سدىً، ويذهب ما بقي منها إلى بدد.

*​*​*

أحسست بوحشة ووحدة وغربة على الطاولة.. كنت مثل يتيم الأبوين أفتقد كل الحنان.. فراغ داخلي بلا حدود، فيما كان حولي ودوني يكتظ بالفرح.. أحسست أن ندماً يستوطنني على ما مضى.. ندم يحتل ردهاتي ومنافسي وزواياى.. شعرت أن خيبتي فيما مضى ثقب أسود تتسع لكل خيبات العالم.. أحسست أن آمالي العراض تتصحر وتجدب كل يوم، وعمري يذوي ويمضي دون أن يدرك ما تواضع من مناه.

ثقوب سوداء تبتلع رجائي وأرجائي.. عمر ينتحب كشبيبة فنان مكلوم وحزين.. مضى العمر وأنا لم أرقص مع فتاة.. ملتاع أمارس جنون الرقص على إيقاع عشق ملتاع.. لم أشتم أنفاس فتاة راقصة في ذروة الجنون الحلو.. أنا القادم من بلاد مثقلة بالحلكة والسواد، والعيب فيها بأثقال الجبال.. من هذا الذي يزحزح من صدري ثقل وموروث القرون الطوال؟! أنا من بلاد فيها الدعوة للغناء والرقص والدندنة حضاً على الفسق والفجور.. قسوة القمع هنا هي الأولى بالعقاب.

ولكن يا أسفاه.. أنا لا أجيد الرقص، بل لم أتعلمه.. أنا لا أجيد إلا مضغ ضياعي، وأيامي المأسوف عليها.. في طور الباحة كان صديقي فيصل الخديري ملهماً بالرقص، وكانوا رفقته يجيدون أنواعه وتفاصيله.. اللحجي والزبيري والدلالي والعسكرية، وغيرها من ألوان الرقص اليمني وفنونه.. أما أنا فكان خجلي أكثر ما يمنعني، وكانت محاولاتي النادرة مؤكدات لفشلي الوخيم، رغم ما أحمله داخلي من حب وعشق وشجون وإنسان.

جلال الدين الرومي يقول: “من دون الحب.. كُل المُوسيقى ضجيج … كل العبادات عبء.” الموسيقى موجودة هنا.. والرقص متوفر وموجود.. بقي الناقص ما يعدل الروح، ولحظة تستغرق كل الذاكرة.

فتيات “فولجا جراد” جميلات، وفيهن شيء مختلف.. جاذبية ورشاقة أكثر.. فيض من السحر والجمال.. وحياة تتدفق من الوجوه.. ألق ورونق وامتشاق قوام.. وأنا على الطاولة وحدي مسكون بالغربة والحرمان.. كنت خلف الطاولة أعصر حزني، وأتلوّى صبراً وخجلاً وحرمانا، وحيلولة لدون ما أريد.

*​*​*

ليست مشكلتي فقط بحيائي وثقل الحرج الذي ينوءُ بثقله على كاهلي، ولكن أيضاً في اللغة الروسية التي لا أفقه فيها حرفاً لا في وسط ولا في طرف.. أحدث نفسي في غياب جميع أصدقائي هنا: سأحاول إطلاق جرأتي، وأحشد شجاعتي لأحدث فتاة ترقص معي، ولكن اللغة كانت عقبة كأداء تمنعني من أن أصل بمشاعري ورغبتي إلى من أريد.

أريد أن أرقص مع تلك الحسناء الفاتنة حتى أبلغ نوبات الجنون.. ولأنني لم أتعلم الرقص، سأدع إيقاع الموسيقى يضبط وقع أقدامي قدر ما في المتسع.. أريد أن أضم تلك الجميلة إلى صدري الملتاع، وشجوني المحبوسة داخلي؛ لتحريرها من جدرانها الصدئة.

أرغب بتلك الفتاة لتهدهد ما يتبركن تحت ضلوعي من حمم وثورة.. تطفئ نارا تتأجج بالعشق المحبوس في شرايين دمي.. يد فتاة تضمني برفق وحنين.. يداً حانية تشجعني على الإقدام، وتربت على كتفي الذي أثقل كاهلي.. فتاة أسبح في مداراتها حتى أدوخ وأهوى في أحضانها كنيزك محترق.

حاولت أن أحشد شجاعتي لأطلب من فتاة الرقص معي.. حاولت أن أستعيد بعض المفردات الروسية القليلة كنت قد جمعتها من زملائي سابقاً.. كلمة روسية من هنا وكلمة من هناك.. حاولت أن أنظمها في جملة أو عبارة فيها رجاء وطلب: “لو سمحتي.. هل ممكن أن ترقصين معي؟! يا له من رجاء عظيم.. دعوت السماء أن تستجيب له، ولكنها لم تستجب..!

عزمتُ أن أرقص مع إحداهن.. لمست منكبها بأصابعي المرتعشة لألفت انتباهها ولتلتفت لي حتّى بنصف استدارة.. استدارت نحوي باستغراب ودهشة.. تحدثت هي معي بكلمات لم أفهمها.. تحديت خجلي، وبدأت أبلغها بالروسية على ما عزمت عليه: “لو سمحتي.. هل ممكن أن ترقصين معي؟!

لا أدري ماذا حدث؟! ما إن قلت لها جملتي المتضمنة رجاء واستسماحاً بالرقص معي.. حتى انفجرت هي وصديقاتها ضحكاً.. لا أدري ماذا صنعت! لا أعلم ماذا الذي يحدث! لماذا يضحكن؟! طلبي يفترض أن يكون مألوفاً وبإمكانها أن تعتذر وسأفهم اعتذارها وأقدره.. سأفهمه حتى من طريقة أدائها إن لم أفهم كلامها.. أمّا أن تضحك وتشرك صديقاتها بالضحك فهذا ما لم أتوقعه.

وعندما كنت أحاول أن أعيد طلبي، لم أستطيع أن أعيد ما طلبت، كنت أشبه بمن يتسلق جبلاً شاهقاً شديد الانحدار غير معتاد النظر من علوه إلى أسفله، فكيف لي أن أتسلقه؟! شعرت بالدوار وأنا أحاول أن أعيد ما قلته، وكانت مفردة تشرد مني وأخرى تطير، وتتحول الثالثة إلى موضع آخر، ولساني تلتُ في الرابعة على غير ما كان يفترض أن تؤديه من معنى منضبط، ولم أعد أدري ماذا أهذي، وماذا أقول!!

تحدثن مع بعض، وتحدثن معي وبعضهن يضحكن وأخريات يتبسمنّ، وقد أدركن أنني من بلاد بعيدة وغريب، كست صفحة وجهي طبقات سوداء من الخجل المدجّى، ولم أفهم شيئا من الكلام.. ولا دريت كيف أداري فعلتي! وكيف أنجو من الفخ الذي كنتُ صانعه، فأنجدتني وكانت قارب نجاة، كلمة (sorry) الإنجليزية التي تعني (آسف) والتي أطلقتها وأنا أعود ألعن نفسي وأندب حظي وفشل غزوتي، وأجر ذيول خيبتي إلى خلف الطاولة.

وبعد برهة نزل أحد الزملاء من الطابق الأعلى، وأبلغني أن الجنرال الروسي يسأل عني ويريدني على الفور.. فكان في اللحظة نجدتي ونجاتي من إحراج ربما يستمر، وخصوصاً أن الابتسامات ورمق العيون لم تتوقف فيما أنا في الإحراج أغرق.

عدت إلى مقعدي في الطابق الأعلى وأنا أجر خيبتي وهزيمتي.. سألني أحدهم ماذا صنعت؟! نقلت له ما حدث؛ فقال أنت لم تطلب منها الرقص، أنت طلبت منها أن تركب معك في السيارة. فضحكت على نفسي وحالي وغربتي حتى ثملت.

*​*​*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى