مذكرات

طيران بلا اجنحة .. قطتنا تأكل أولادها “محدث”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

كانت لدينا قطة صغيرة سوداء يخالط لونها بعض من بياض، وعلى نحو ملائم جعلها تبدو جميلة وآسرة.. فروها لامع وناعم كالحرير.. أرجلها تبدو وكأنها محجّلة.. البياض في ناصيتها يعطيها مهابة خيل وشموخ فارس، وفي نحرها يمنحها زهواً وهيبة.. عيونها فسفورية صفراء مدورة وزاهية كقمرين في موعد اكتمال ونور، والسواد منحها إشراقاً وجاذبية.. وأكثر من هذا وذاك لديها لطف غامر وحنان يجيش.

تلاطفني، وتمزح معي، وتخربش يديّ.. فإن غادرتها تحاول بلطف أن تستعيدني إليها بتوسل جم، ورجاء يسترحم الحجر.. وعندما آتي إليها من خارج الدار تستقبلني بحرارة وترحاب مترعان بشوق ولهفة.. تراها تدور على ساقيّ.. تتمسح بكعب قدميّ.. تُسمعني موائها الشجي، وتستثير فيني سيل من حنان شغوف، لأنادمها بحميمية، تريد أن تؤكدها بتكرار.

أحببتها وأحبتني وصار جسراً من الود بيننا.. كبرتَ لدينا وأشتد عودها، وكان غرض الأسرة منها أن تمنع الفئران الذين يتسللوا إلى دارنا من خارجه.

***

وفي يومٍ بعد ولادة رأيت ما رأيت، ولم أستطع تصديق ما رأيته.. وجدت ما لا أظنه، وما لم يكن بحسبان.. قطتنا تأكل أولادها!! أنكرتُ على نفسي ما رأيت!! كيف لقطة أن تأكل أولادها، فيما الأكيد ومن الوجوب أن تفتديهم من أي تهديد أو افتراس.

الأمومة غريزة قوية وعاطفة مكتنزه، عندما تستثار نجدها أشد من عاصفة.. عامرة بالفداء والتضحية.. لطالما شاهدتُ غرائز أمهات تموت دفاعاً عن أولادها في وجه أي تهديد أو خطر.

مشاهد كثيرة تؤكدها غريزة الأمومة.. شاهدت غزالة تقطع طريق تمساح لتنقذ ولدها وتفتديه بنفسها.. شاهدت دجاجة تصارع ثعبان كوبرا دفاعاً عن فراخها، وأخرى تفتدي بيضها بحياتها..

الأمومة غريزة قوية في مواجهة المخاطر التي تتهدد أولادها. تموت الأم بشراسة فذة، واندفاع شجاع، وحميّة مستميته تفدي فيها الأم أبناءها.. فماذا الذي حدث لتأكل قطتنا أولادها؟!! هي لم تجع ولم تعرف للجوع طريق؛ فهل هو حد من الحب الذي تبلغه الأم نحو أولادها، فيكون “من الحب ما قتل”.. الحقيقة لا أدري سبباً وجيهاً لما حدث.

***

خلسة وراء خلسة تأكدتُ أن قطتنا تأكل أبناءها، وتترك الفئران الذي أردنا بها أن تمنعهم من دخول دارنا.. حقيقة مرعبة تلطّخ تاريخ القطط.. لقد تم ضبطها متلبِّسة بأكل أولادها.. فبدلاً من أن تستأسد في الدفاع عنهم، وتذود عليهم، وجدناها تفضّل أكلهم، أو هذا  للأسف الأشد هو ما حدث.

حنانها جف، وحبّها أعتمى، والأمر أنقلّب رأساً على عقبٍ.. كيف لقطّة أن تأكل أولادها، وتلعب وتمزح مع الفئران، وتحفظ لهم كل ود وعشرة.

ما اختلسته عيوني تركت في نفسي ما يثير فيني حزناً وغصة وسؤال..!!

كنتُ أسأل أمّي: لماذا قطتنا المسكينة تأكل صغارها، وما ذنب الصغار ليتم أكلهم؟!

فتجيب أمي: إنها حكمة الله في خلقه.

وعندما كبرتُ أتذكّر أنني قرأت لأحدهم يستقصي الحكمة بالتبرير حيث يقول: القطط خلقت لتأكل الفئران وخلقت الفئران لتأكلها القطط.

وأجيبُ هنا: أي حكمة هذه، وأي تبرير، وأي منطق بإمكانه أن ينقذ هذا الحكمة التي يتم ادعاءها؟! ثم أن قطتنا لا تأكل الفئران، بل تأكل أولادها، وفي المقابل هي تحب الفئران، وتفتتن بهم.

ثوراتنا أيضاً تشبه قططنا..!! وتشبه النيران وهي تأكل نفسها.

كم من ثورة أكلت أبناءها حتى تلاشت وانتهت إلى رماد، وما زلنا ننتظر عنقاء تأتي من تحت أكوام الرماد.. فهل ستأتي؟!!

***

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى