مذكرات

قراءة تحليلية لنصّ “خطوبة وخيبة” لـ”أحمد سيف حاشد

برلماني يمني

هذه القراءة التحليلية، تم انجازها بواسطة تقنيات  الذكاء الصناعي.

قراءة أدبية

مقدّمة:
يكتب أحمد سيف حاشد نصّه «خطوبة وخيبة» كما يكتب الإنسان وصيّته الأخيرة بعد معركة طويلة مع الحياة.

هو ليس مجرّد حكاية حبّ فاشلة، بل سيرة روحية لرجلٍ يواجه العالم بالخسارة والأمل معًا.

هو لا يروي حكاية حبّ فاشلة، بل يسرد خيبة كونية في وجه مجتمعٍ متكلّسٍ ومتعصّب، خيبة من العالم ومن الإنسان ومن القداسة الزائفة التي تسحق الحلم باسم الفضيلة.

يكتب حاشد نصّه كمن يكتب سيرته في مرآة من صدقٍ ودمعٍ وتمرّد. لا يكتب ليرثي نفسه، بل ليتطهّر.
يواجه الفشل كما يواجه الحكيمُ العاصفة بإيمانٍ صلب وحكمة تقول «دوام الحال من المحال».

كل سقوط عند حاشد يحمل في جوفه بذرة نهوض،

وكل وجعٍ عنده يشتعل حكمة.. إنه نصّ عن الخذلان الذي لا يقتل، بل يعلّمنا أن نخلق الفهم والمعنى من ركام الرماد.

ويرى ان كل خيبة عنده لا تنتهي بالانكسار، بل تتحوّل إلى نافذة تأمل، وكأنّ الكاتب يهمس لنا من بين سطور الوجع:

“ما زلتُ أؤمن بالحبّ، وما زلتُ أقاوم لأبقى حيّاً.

الإنسان في مواجهة اليأس

حاشد يقاوم الانطفاء بالكتابة، ويحوّل الهزيمة إلى معرفة.

وهنا تكمن إحدى نقاط القوة في النص:

أنه ينهض من داخل ذاته، لا من تنظيرٍ خارجي.

لا فلسفة معلّبة، بل تجربة حيّة تنزف وتضيء في آن. 

من الألم إلى الفلسفة

 منذ الأسطر الأولى نسمع نغمة الانكسار الهادئ:

“أصابتني خيبات متلاحقة بعضها يفوق الاحتمال…”

في كل فقرة، يتجلّى وعي الكاتب كمن يمسك بخيوط الجرح ليفكّ بها لغز الوجود.. لا يغرق في الشكوى، بل يحوّل اعترافه إلى طقس تأملٍ وجودي؛ حيث يقول: 

“أتأمل في التأريخ والفلسفة؛ فأستوعب ما حدث وأتعظ…”

وهنا يظهر حاشد بوصفه كاتباً يعيش التجربة لا لينكسر، بل ليتأمّل.

في كل جرحٍ يلمح درساً، وفي كل خيبةٍ يبحث عن حكمةٍ تبرّر له الاستمرار.

يكتب حاشد بفكر فيلسوفٍ وقلب شاعر.

الألم عنده ليس هزيمة، بل معمل للوعي، ومحرّض على الفهم.

ولذلك يعلن بعزيمة وجودية نادرة:

“أرفض أن أموت وأنا ما زلت حياً.”
 
الفتاة الفقيرة… الحلم النقيّ في عالمٍ ملوّث

 ورد على لسان الكاتب في النص:

“أريد أن أتزوج فتاة فقيرة لا تملك قيمة حذاء…”

 هذا البوح يذكّرنا بـ جبران خليل جبران في الأجنحة المتكسّرة،

حين أحبّ “سلمى كرامة” لا كامرأة، بل كرمزٍ لحريةٍ مسلوبة.

كذلك نجد أثرًا من لوركا حين كان يرى في الفلاحات والبسطاء جمالًا يخلّص الشعر من الزيف والترف.

لكن أحمد سيف حاشد لا يصف جمال الفتاة فحسب، بل يصف عجز اللغة أمام الجمال:

“يا لفقر الكلمات وفراغها، ويا لوصف ينتحر خجلاً على أعتابها…”

 هذا المشهد هو ذروة النص الجمالية،

لحظة انخطافٍ لغويٍّ يذكّر بانبهار ابن عربي حين قال:

“أدين بدين الحبّ أنّى توجّهت ركائبه، فالحبّ ديني وإيماني.”

 إنه انخطاف لغويّ أقرب إلى التجربة الصوفية التي تعجز فيها اللغة عن احتواء الجمال.

وهو جمالٌ يفيض حتى يهدّد المعنى بالانفجار.

وهنا تكمن نقطة ضعفٍ جمالية صغيرة:

الإفراط في الصور يجعل أحياناً المشهد يطفح على ذاته،

فتتقدّم البلاغة على الدلالة، ويغيب شيء من البساطة الأولى التي منحت النصّ صدقه.

 لكنّ هذا الاندفاع اللغوي نفسه يعبّر عن صدقٍ عارٍ لا يصطنع الاتزان حين يكتب بقلبٍ جريح.

فهو لا يكتب ليتقن الصنعة، بل ليقول كلّ ما في القلب دفعة واحدة، كما يصرخ العاشق لا الشاعر.

 حين يُغتال الحلم باسم العقيدة

 يبلغ النصّ ذروته الدرامية حين يُعلن انهيار الحلم بخبرٍ صاعق:

“قالوا إنني شيوعي وملحد.”

 في لحظة واحدة يتحوّل الحب إلى محاكمة عقائدية،

وتنقلب الخطوبة إلى ساحةٍ من التكفير والظلام.

هنا يعرّي الكاتب وجه المجتمع القاسي حين يتحوّل الدين إلى سلاحٍ ضدّ الإنسان.

 هذه العبارة تختصر مأساة المثقف العربي الذي يُعاقَب لأنه مختلف،

وتعيد إلى الذاكرة مصائر طه حسين وفرج فودة ونصر حامد أبو زيد،

 قال أحدهم: “من يملك الكلمة يُخيف من يملك السيف.”

وهنا يملك أحمد سيف حاشد الكلمة، فيُدان بها.

 هذه النهاية لا تخصّ تجربة شخصية فحسب،

بل تختصر مأساة المثقف العربي الذي يُدان لأنه يفكّر، ويُنفى لأنه يختلف.

 كما يذكّرنا بصرخة غسان كنفاني في رجال في الشمس:

الخيبة الكبرى ليست في الموت، بل في الصمت أمام الظلم.

 النهاية عند حاشد تختصر هذا كلّه بجملة واحدة موجعة:

 “قتلني المتطرفون من كهنة الدين، وحماة العقيدة.”

 إنها صرخة المثقف اليمني والعربي والإنساني في وجه آلة الكراهية،

 صرخة تُحوّل الألم إلى موقف، والخذلان إلى معنى.

مقاربات وتأملات

 – يلتقي أحمد سيف حاشد في هذا النص مع ألبير كامو في روح التمرد على العبث،

لكن تمرّده ليس وجوديًا خالصًا كما عند كامو، بل هو تمرّد إنسانيّ واقعيّ، ينهض من رماد الهزيمة ليصنع للإنسان معنى في وجه القهر والمقدّر.
حيث يقول حاشد، بلهجة أكثر دفئًا وتجذّرًا في الأرض: 

“أرفض أن أموت وأنا ما زلت حيًا.”

– أما من حيث الحسّ الجمالي والانخطاف الوجداني، فيقترب حاشد من أنسي الحاج في انفعالاته وتأملاته العارية، غير أن لغته أكثر التحامًا بالتراب واليومي، وأقل تجريدًا وأكثر صلابة، كأنها تصدر من جسدٍ يكتب بدمه لا بقلمه.

 – كما أن نص حاشد قريب من النفَس الجبراني في النبي، غير أنّ جبران جعل من الجمال خلاصًا، أما حاشد فيجعل منه مقاومة، سلاحًا يواجه به العدم والخسارات المتلاحقة.

– وفي نظرته إلى التاريخ، يلتقي مع هيغل في إيمانه بأن التاريخ لا يتوقف، بل يمضي في صيرورته مهما اشتدّ العتم. لكنّه يهب هذا القانون دفء التجربة الشخصية، إذ لا يتأمل من وراء نظريات كبرى، بل من ميدان الحياة نفسه، حيث تُختبر الفلسفة في الدم والعرق والخذلان.

– نصّ حاشد لا يكتب ليهرب من الواقع كما فعل بعض المتصوفة، ولا ليتصالح مع عبث الوجود كما عند الوجوديين،

بل ليؤكد أن الكتابة فعل بقاء ومقاومة، وأن الجمال عند حاشد ليس زينةً للوجع، بل طريقة لتجاوزه.. 

– وما يميّز حاشد عن الجميع هو أنه يضف إلى نصه بعدًا احتجاجيًا سياسيًا صريحًا. وتجذّره في تربة واقعه اليمني والعربي؛ فهو لا يكتب من برجٍ فلسفي، بل من قلب المعركة، حيث الخيبة ليست فكرة، بل تجربة يومية تُعاش وتُدفع أثمانها.

 من رماد الخيبة يولد الضوء

 «خطوبة وخيبة» ليست قصة عاطفية بل بيان إنساني ضد الانكسار.

يكتب أحمد سيف حاشد من ضفة الوجع، لكنّه لا يغرق فيها؛

فكل جملة عنده تومض بما يشبه إرادة الحياة التي لا تستسلم.

إنه نصّ يمزج بين الفلسفة والاعتراف، بين الحب والخذلان، بين الجمال والاحتجاج.

قوّته في صدقه، في لغته التي تفيض ولا تحسب،

وفي قدرته على تحويل التجربة الشخصية إلى مرآة كونية يرى القارئ نفسه فيها.

 أما ضعفه، فهو في اندفاعه الشعري الذي يترك أحيانًا المعنى يتيه بين كثافة الصورة وحرارة الانفعال،

لكنه ضعف المحبّ لا ضعف الكاتب.

 في النهاية، لا يمكن قراءة هذا النص إلا كرسالة من إنسانٍ يؤمن أن الحياة، مهما أظلمت، تظلّ قادرة على إنجاب ضوءٍ جديد.

ففي عمق الخيبة عند أحمد سيف حاشد، ينبت الأمل كزهرةٍ تشقّ الخراب وتقول للعالم:

 «ما زلتُ أؤمن بالحبّ، وما زلتُ أقاوم لأبقى حيّاً.»

 وفي النهاية، يخرج القارئ من النصّ كما يخرج من عاصفةٍ مضيئة:

مبلّلًا بالألم، وموقنًا أن الأمل لا يموت.

نص “خطوبة وخيبة” 

أحمد سيف حاشد

أصابتني خيبات متلاحقة بعضها يفوق الاحتمال.. داهمني الفشل الذريع مرات عديدة.. رافقني الخذلان كثيراً.. مررت بانكسارات غير قليلة.. نزلت على رأسي ضربات موجعة.. جيوش من المخاوف ظلت تلاحقني.. مررتُ بلحظات ضعف، وأسئتُ التقدير في أحايين كثيرة.. لازمت حياتي نقاط ضعف اعتدتها، بل وجدتها بعض منّي وجزء من تكويني.. عشتُ هزائمي في الواقع، وتجرعتُ معها مرارات الحقيقة.

وفي المقابل أظن أني احتفظتُ داخلي بما هو أهم.. لا أيأس، فإن حل اليأس في وجداني، ودب دبيبا في شراييني لحظة انكسار أو هزيمة، فإنه لا يطول، وإن طال أتأمل في التأريخ والفلسفة؛ فأستوعب ما حدث وأتعظ؛ فيتجدد الأمل، وتعود الحياة نابضة، وتتوطد ثقتي أن يأسي لن يدوم، حتى وإن طال به المقام، وأعلم بيقين أن “دوام الحال من المحال”.

ومهما كان الحدث صادماً وجسيماً؛ فأنني أعلم أن الحياة ولادة دون انقطاع، ولن تتوقف عند زيد أو عمر من الناس، وأن القوانين الفلسفية ستظل تفعل فعلها في الوعي والمجتمع، وأن ما حدث ليس نهاية التاريخ ولا هي ختامه، بل سيسمر التاريخ في صيرورته وجريانه، رغماً عن الجميع، وعلينا الفهم والاتعاظ.

وعلى المستوى الشخصي أجد نفسي أرفض أن أموت وأنا ما زلت حياً.. لا أكف عن المحاولة.. أثابر من أجل الوصول.. أنهض واستمر بالسير عقب كل كبوة أو وقوع.. استعيد توازني عقب كل صدمة.. أغالب مخاوفي وأنانيتي.. أتجاوز نقاط ضعفي بتعويضها بنقاط قوة موازية، وفي وجه الهزيمة أمارس وجودي رفضاً وصموداً ومقاومة، أو على حد تعبير أحد المفكرين: “لستَ مهزومًا ما دُمْتَ تقاوِم”.

أستريح عندما أتعب.. أرمم روحي عقب كل تهالك أو تهشم أو انكسار.. استعيد نفسي دفعة واحدة، أو على مراحل إن أقتضى الحال.. أتعافى.. أعود وافر الروح، وبمعنوية دافقة.. أراجع بشجاعة.. أعيد النظر والتقييم بجُرأة.. أنتقل للبدائل والخيارات الأخرى كلما وجدت ذلك مناسباً، أو ضرورياً وممكناً.

كنت أحدث نفسي: يجب أن أتعافي مما أنا فيه، وأن لا يدركني اليأس.. ألم يقل أحدهم: “لا يأس مع الحياة”.. الأمل وحده هو من يبقينا أحياء ولا يجعلنا نستسلم لموت مغلّظ وساحق.. فقدان فتاة أو أكثر ليست آخر العالم.. الفتيات كثار والأرض واسعة.. يجب أن لا أكف عن المحاولة.. يجب أن لا تنطفئ فيَّ جذوة الأمل وانتاج الحلم.. لزم عليّ السعي والمثابرة.. سأجد أبواب مشرعة، وشرفات مفتوحة، وربما قلوب تنتظر مجيئي على أحر من الجمر.

الحياة خلاقة مهما أجهمت.. الأمل يتجدد.. تحويل الفشل إلى نجاح في متناول الإمكان.. تجربة الفشل تضيف لصاحبها معرفة جديدة، بل قال بعضهم: هي أول خطوة في طريق النجاح، وقال آخرون: تمنح الخبرة الواعية على هذه الطريق.

ربما أيضاً يبتسم الحظ في يوم قائظ، وتمطر السماء بمزنها.. ربما هناك صدفة تتحين اللقاء، أو بشارة لطالما تم انتظارها.. مازال في الآتي ما هو أجمل.. ألم يقل أحد الشعراء “أجمل الأيام تلك التي لم تأتِ بعد”.. هكذا كنت أحدث نفسي وأعينها في مواجهة انكساراتها وما أصابها من نيل وخذلان.

*​*​*

أريد أن أتزوج فتاة فقيرة لا تملك قيمة حذاء.. فتاة عنيدة في وجه مصاعب الحياة وتقلباتها.. تكون مستعدّة أن تعبر معي وادي الجحيم الذي ربما أُرغم على عبوره ذات يوم.. لا تتركني وحدي وسط الطريق إن أظلمت أو أدلهمَّت.. لا تتخلَّ عنّي حتى وإن صبت السماء وجومها ناراً على أم رأسي.

أبحث عن فتاة لا تخذلني في شدّة أو ملمّة أو ضيق.. تبحث عنّي إن أطبق الحزن قدره، وضرب البين جفوته.. تلاحقني بوفائها وغفرانها وطيبة نفسها، ولا تتخلّى عنّي إن بئس حالي، وتوحشت أقداري، وخانتني الآمال، وتخلّت عنّي الحظوظ، وصار حظي في الدنيا ألماً وحسرة.

ثم أسأل نفسي: هل أجد زوجة كتلك؟!

أريد فتاة أستطيع أن أساعدها.. أعيد صياغتها وأرتقي بها.. نرتقي معاً إلى سماء نبحث عنها، وفيها ما هو أسمى وأجمل.. أريد فتاة جميلة.. أليست أحياء الفقراء مسكونة بالجمال؟ أليس في الغجر أجمل الفواتن؟ أليس الفقراء حباهم الله بجمال آسر وأخاذ؟ ألم يقل أحد الشعراء لربه: “انت جميل تحب الجمال”.

*​*​*

وجدتها في “ريف الجبل”.. أمعنتُ في قولي: “وجدتها بعد إعياء وبحث”.. العجز شل لساني!! “جميلة جدا”.. هذا وصف وضرب من الهذيان الذي لم يعد بمقدوره أن يطول مقامها.. إنها أكبر وأكثر من الجمال كله.

“جميلة جدا” جملة وصفية تقف دونها وصفاً وخيالاً.. جملة لا تليق بما أشاهده أمامي بأبعاده وآماده وكثافته.. كل الكلمات حاسرة، وكل المحاولات خاسرة، مهما تناهت في الجمال.. كلها باتت دونها ولا تليق بمقامها.

يا لفقر الكلمات وفراغها، ويا لوصف ينتحر خجلاً على أعتابها.. أي لغة تملك الجرأة أن تدق بابها.. لم أكن أعلم أن العربية بجلها وجليلها.. قضها وقضيضها، عاجزة أمام مهابة هذا الجمال الذي لا تغادره دهشة من يراها.. لغة البلاغة والفصاحة والخطابة تصحرت في حضرة جمالها الباذخ!!

كأنها لؤلؤة جاءتني من قاع المحيط!! “لؤلؤة”؟!! هذا أيضاً تشبيه لا يليق بوصفها.. هي هبة السماء.. درة كونية جاءتني من فضاء بعيد وعالم آخر.. ألف معجزة.. من غير العدل أن ينتعل كل هذا الإبهار والجمال حذاء مهتري!!

إشراقات الكون تجتاحني.. ما أراه فاق تصوّري وخيالي.. السماء تمطر فِيَّ فرحة وبهجة.. تتلألأ في عيوني.. تشتعل في وجداني.. إيقاعات صوتها تجرفني إلى دلتا خصيبة.. نهداها أرجوحة سماوية.. حلمي يتمرجح بين المشارق والمغارب.. تناديني مفاتنها: هنا وطنك الذي لطالما بحثت عنه في المتاهات البعيدة، فيما كانت هي ودارها على مرمى حجر.. غشيت الأبصار وتاهت الأفئدة.

احتشدت فِيَّ ألف دهشة.. غمرتني بشلالات ضوئها حتى غبت عن وعيي انبهاراً ودهشة.. الألوان ترسل ضوئها فتخطفني وتأسرني في فتونها.. قوس قزح يكلل وجودنا بتيجان المحبة والفرح.. فيضها بات أكبر من عالمي.. يتمدد في مدى لا ينتهي.

أحببتها من النظرة الأولى.. من الوهلة الأولى.. أصابتني بكل سهام العذارى.. اصطادتني بكل شباك الفاتنات الحسان.. أوقعتني “المجنونة” في حب مجنون مختلف.. أوقعتني من نظرة أولى.. من وهلة أولى.. من لحظة أولى.. تملكتني من أول مشهد وأول مشاهدة.

هنا حط رحالي، بعد فراغ أتسع، وشعور بتيه وفقدان.. هنا وجدت كل المواسم والفصول.. الأعياد والهدايا.. الصوت والصدى.. الفطرة والنقاء.. الحقول والأغنيات.. هنا ملاذ ومستقر لمن أحب، بعد بحث وترحال وسفر.. هكذا حدثتُ نفسي حالما وجدتها، بعد تعب وعي..

فُرطُ جمالها وبذخه.. تعدّى الكمال!! جلّت قدرة من خلق.. كيف لألف معجزة أن تتكثف في واحدة؟!! أسرتني.. تملكتني.. خطفت قلبي من منبته.. قلعتني من الجذور.. صادرتني دون محضر أو استلام.. انتزعتني من وجودي.. ضمتني إلى وجودها دون سؤال أو خيار.

كان رضاها بي تاجاً وعرشاً ومملكة.. خطبتها في لجة الليل.. كتمت سري حتى لا يفتك به حسد ولا تصيبه عين.. كان هذا عيدنا.. عيد مكلل بالرضى.. مغمور بالسعادة والفرح.. ولكن كانت عيون الليل متربصة، وكان للجدران آذان، وكان السر قد تسرب من أهلها، حتى فشا وأنتشر.

بعد أيام أنقلب الحال إلى محال.. صدمني خبر بالغ السوء.. قطعوا أملي بصاعقة.. متطرفو حماة العقيدة وحراس معبدها أطاحوا بفرحي.. ضغطوا على الأسرة البسيطة لتغيّر رأيها.. كلحت السماء في وجهي واسودت.. هبط الليل ثقيلا في عز النهار.. وكان العذر أقبح من كل ذنب.. قالوا إنني “شوعي وملحد”.

عدتُ أدراجي كسيراً ومتعباً ومثقلاً بخيبة لا تقوى على جرّها خيولي المنهكة.. عدت وقد كسروا ظهري وهدوا كاهلي.. عدتُ وأنا أغالب الكآبة والكمد.. عدت ألملم حطامي.. أشلائي المبعثرة وروحي الممزقة.. حلمي المبدد بعاصفة.. قتلني المتطرفون من كهنة الدين، وحماة العقيدة.

*​*​*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى