ضد القات “الإسلامي”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
القات بالنسبة لي في المقام الأول لا يتعدّى جانبه الاجتماعي، حيث لا أجد فيه أكثر من كونه جامعاً للرفقة والصداقة، وكذا المجاملات، وما تفرضه بعض اللقاءات والمناسبات الاجتماعية، أو المقيل مع أشخاص أرتاح لهم، أو أعتدتُ المقيل معهم، أو أحبذ اللقاء بهم والخوض معهم في أمور شتَّى ونقاشات متعددة، أو آخرين أجد ما يدفعني للقاء بهم في مقيل بوقت يكفي أو يتسع.
ويأتي هذا منّي تماشياً مع البيئة والوسط الاجتماعي السائد، والأعراف والتقاليد التي يمكنها ـ إن قررتَ مصادمتها وحدك ـ أن تعزلك، وتبعدك عن واقع مجتمع يفرض عليك شروطه وعاداته وتقاليده التي بلغت من زمن عمقه وصميمه.
أشعر أن هذا الواقع المجتمعي يشبه فرض سلطة الأمر الواقع للواقع الذي تريده، والتي تفرض عليك فيه خياراتها، وتصادر أو تضيِّق حقك في اختيار ما تريد، طالما أنت محكوم بواقع يفرض عليك هكذا شروط وخيارات، في عهد نجد فيه ظروف التغيير ما زالت عصيّة أو غائبة.
ومع ذلك وعلى المستوى الشخصي استطيع التخلّص من عادة تعاطي القات في أي وقت بعد معاناة ربما لا تخلوا من صعوبة، ولكنها لن تطول، وقد جربتها مرّات عديدة، وسأكون مدعوماً بإرادة ووعي لازمين وكافيين إن جاء هذا المنع بقانون، للخلاص من هذه العادة التي أعتدتها في مجتمع لازال في عاداته وتقاليده الراسخة عصيَّاً على الزحزحة.
إنني مضطر ومرغمٌ للخضوع بنسبة ما لمجتمع ثقيل الوطأة وشديد المحافظة، وبطيئاً في حركته نحو المستقبل، بل وتشهد مساراته انكسارات مُرّة، وردّات حضارية صادمة، ومفاعيل رجعية نشطة مدعومة داخلياً وخارجياً تجعلني أحياناً مُذعناً ومُكرهاً فيه على قدر وإرغام.
ومع هذا ورغم ذاك سأكون إلى جانب أي حراك تغييري نحو المستقبل، وفي هذا الإطار سأكون أيضاً مع أي قرار أو قانون أو سلطة أو حراك يمنع أو يحد من تعاطي القات في اليمن، أو في أي جزء فيها. بل وسأكون سعيداً بتحقيق هكذا حلم أو هدف.
***
جل المجتمع مُدمن قات.. أكثر المجتمع مهوساً بالقات من قاع قدميه حتى شعر رأسه.. صار القات عند الغالبية الغالبة هو الهم اليومي الأول الذي تجاوز ما عداه.. كثيرون هم الذين يحرصون على أكل ما هو رديء وسيء من أجل توفير قيمة قات أفضل، أو أكثر جودة.
كثيرون هم من باعوا أصواتهم الانتخابية يوماً ما بحزمة قات صغيرة ليوم أو أسبوع، ليتلقّوا بعدها لكمات وصفعات عدد من السنين الطوال والعجاف.
كثيرون من يتم تحشيدهم وتسييرهم مسيِرات بعضها كبيرة أو لافتة؛ ينصبُ هدفها أو مبتغاها لتزييف الوعي، ومخادعة الرأي العام لصالح شرعيات زائفة، وسلطات مُغتصِبه بمقابل تخزينة قات ليوم واحد، تتكرر في مناسبة أخرى بحسب ما تحتاجه السلطة المأزومة بفقدان الشرعية، والرغبة الجامحة لصناعة الوهم المُستغفِل والمُستحمر لجماهيرها وأتباعها، والادعاء الكذوب والمكرّس من أنها تمثل شعبها.. إن مثابرة أي سلطة على هكذا تزييف وخداع ومبالغة، إنما تكشف مدى عريها، وعمق أزمتها، وفقدانها للشرعية الشعبية، لا إثباتها كما تزعم وتدّعي.
كثيرون هم من ذهبوا إلى محارق الحرب والموت بدوافع عديدة لا يغيب فيها دافع تعاطي القات وإدمانه، أو تلبية قليل أو كثير من الاحتياج إليه.. يجري توفير القات بكثير من الحرص والاهتمام من قبل كل سلطات الأمر الواقع وأمراء الحرب لدعم قتال كل طرف ضد خصمه، وجلّه يجري أو يتم بعيداً عن مصلحة الوطن، بل ويجري معها استغلال حاجات وعوز الناس وإدمانهم على القات لصالح قتال كل طرف ضد آخر بحثاً عن انتصار زائف، على حساب نزيف شعبنا ومستقبله.
وبالمناسبة وفي هذا السياق صديقي معاذ المقطري في تعليقه على ما أسميته “القات الإسلامي” يقول: “أتفق معك تماماً حول القات الإسلامي، وعندي نفس القناعات التي بلغت حد اليقين ومن واقع عشته وحللته، لدرجة أن القات لعب دور أساسي في احفاقات ثورة فبراير، واخفاقات جبهات القتال التي ذهبت نصف ميزانياتها القتالية لشراء القات، وكثير من القلاع والتحصينات سقطت أمام “الحوثي” لصعوبة امداد مقاتليها بالقات في الوقت المناسب فأضطروا يتركوا مواقعهم .. والقصص كثيرة”
لقد تم إفلاس وتفريغ الجيوب، وقطع المرتبات، وتوسيع رقعة البطالة، وإفقار المجتمع أو الجمهور العريض من أجل تحويله بسهولة ويسر وبدافع الحاجة إلى محاطب ومحارق حرب بحثاً عن غلبة، وادعاء انتصار لحق عريض، ثم يتضح لاحقاًَ أن ذلك كان مجرد خدعة أو محض وهم.
***
إننا نعيش في مجتمع فيه إدمان القات عادة متجذرة، وعند الصغار مدعاة إلى محاكات الرجولة حتّى وإن كانت كاذبة، فيما نجد الذي يقلع عنه عليه يعاني من عزلة المجتمع، والانطواء والتوحّد بعيداً عن الأصدقاء والرفقة والناس، وشعور ثقيل بالغربة في شعب مُستلب عقله ووعيه.
يجب التصدّي لظاهرة القات في المجتمع من خلال ثورة اجتماعية عريضة تبلغ مرادها ومداها، أو تكون أشبه بالثورة على الأفيون في الصين.. ويستمر الحال، ويبقى السؤال: من لنا وما للصين العظيم؟!
الحقيقة أننا صرنا في مسيس الحاجة وأكثر من أي وقت مضى لإعادة النظر والمراجعة لكثير من قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا التي ترسخت على مدىً طويل، وإعادة تقييمها بجُرأة، وهدم التالف منها، لاسيما تلك التي ألحقت بالمجتمع ظُلماً وضرراً وتشوهاً، واستبدالها بما هو حميد ومفيد إذا استطعنا أن نُوجد منتزهات ومتنفسات وحدائق ومسارح ومكتبات وصالات رياضية وإعادة الاعتبار لكل ما هو جيداً وجميلاً تم هدره أو تغافله.
وفي المقابل يجب إيجاد البدائل والتعويضات للمتضررين من إجراء منع زراعة وبيع القات، واستهداف مُزارعيه وبائعيه بما يوفر لهم الحياة المستقرة والعيش الكريم، وجعلهم أكثر شعوراً بالاطمئنان والارتياح لتلك البدائل التي ينبغي أن تكون عادلة ومرضية.
من المؤلم ما بلغه الوعي من تلف وانحدار يعكس وجهاً منه مأساته، فإن حضرتَ إلى مجلس مقيل وأنت لا تخزِّن، تشعر بالذنب لأنك تعكر مزاج من فيه، وتخدش ما يعيشوه من نشوة وسعادة زائفة، حتى تبدو في عيونهم ندبة شوها وبقعة سوداء في صفحة وجه “جميل”، وأكثر منها مغرداً وشارداً بمفردك كأنك تشق عصا الجماعة، وشاذاً لوحدك عن القاعدة التي تم اعتيادها، يخالطك إحساسك أنك تفسد مقيلهم، وتعكّر مزاجهم رغم ما لديك من حق فيما أنت فيه.
من المؤسف أن تجد نفسك في مجتمع ما زال يرى السوية على غير حقيقتها.. مجتمع يرى السوية تنطبق مع المثل الشعبي “مع أخوتك مخطئ ولا وحدك مصيب”.. مجتمع خرج يوماً وتظاهر وهو يدعو بموت من يطالب بمنع زراعة القات حالما هتف:
“عبدالفتاح يا كهنوت .. الغرسة تحيا وانت تموت”.
***
مجتمع كهذا يحتاج إلى ثورة حقيقية، وسلطة لديها إرادة تجعل من قرارها بمنع زراعة وتعاطي القات قدراً لا تنازل ولا نكوص عنه، ولا رجوع فيه.. يبدو هذا اليوم غير مُتَأتٍ وغير محتمل على الأقل في المدى المنظور، إن لم يكن على المدى البعيد.
لا يوجد في المشهد الراهن صاحب سلطة بإمكانه أن يحمل على عاتقه هكذا مهمة تتلخص في تحرير المجتمع من عادة مضغ القات، بل وقد فشل من حاول أن يفرض ذلك على اتباعه، فما البال إن ذهب إلى المجتمع المتجذر فيه عادة تعاطي القات وإدمانه.
غير أن الأهم من يتغافل عن محاولة التصدّي لإدمان المجتمع للقات، ويستحسن ضرائبه ويضاعفها بين حين وآخر.. كما أن برجماتية المتدينون إن وجدوا أنفسهم في السلطة، نجدهم يؤثرون الضرائب ويضاعفونها بتكرار، دون أن يذهبون إلى قرار منعه.. برجماتية بالغة حتى في وعي المتدينين إن وجدوا أنفسهم ذات يوم يحكُمون.
ربما اليأس من التغيير يجعل البعض يرى أن القيامة تبدو أقرب بكثير من أن يُمنع القات في اليمن، غير أني أستدرك هنا وأقول ما قاله أحد الأبطال لحظة احتشاد اليأس ضده: “لا يأس مع الحياه”.. الحياة اليائسة موت طويل، وهزيمة ساحقة، وبلا نهاية أو انفراجة.. الأمر يحتاج قراراً وإرادة.
علينا أن نغالب اليأس بالأمل الذي لا يموت.. لن نموت طالما لازال معقود فينا أمل لا يموت.. بقي لدى أمنية أن أتقدم مع آخرين بمشروع قانون إن التمَّ هذا البرلمان المنقسم، أو حتى سلطة دونه بما يؤدي أو ينتهي إلى تجريم بيع وتعاطي القات” الإسلامي” في اليمن من أقصاه إلى أدناه والمدعوم بالفتوى والمُفتى بطهارته، والمُجاز فيه بقائه بالفم طول صلواتنا وقراءة القرآن معه دون أن نخرجه من فاهنا.. ويظل احتمال تمريره ربما أكثر من مستحيل، ولكن لابد من المحاولة وتكرارها، وتحويل المستحيل إلى ممكن.. فإن فشل هذا الجيل المنهك والضعيف إرادة؛ سيأتي حتماً جيل أخر وسلطة أخرى بإرادة وقرار؛ ولو بعد حين وجيل.
***
وفي هذا السياق صديقي معاذ المقطري في تعليقه على ما أسميته “القات الإسلامي” يقول: “أتفق معك تماماً حول القات الإسلامي، وعندي نفس القناعات التي بلغت حد اليقين ومن واقع عشته وحللته، لدرجة أن القات لعب دور أساسي في اخفاقات ثورة فبراير، واخفاقات جبهات القتال التي ذهبت نصف ميزانياتها القتالية لشراء القات، وكثير من القلاع والتحصينات سقطت أمام “الحوثي” لصعوبة امداد مقاتليها بالقات في الوقت المناسب فأضطروا يتركوا مواقعهم .. والقصص كثيرة”.