مذكرات

قراءة تحليلية لنص (عالم يتنفس ألماً) لـ”أحمد سيف حاشد”

برلماني يمني

عالم يتنفس ألماً..!

أحمد سيف حاشد

لا أدري كيف كان مجيئي إلى هذا العالمِ المزدحمِ والمحتدمِ بالصراعِ والاضطرابِ.. الرجراج بالكروب والمآسي الثقال.. المليءِ بالقتلِ والظلمِ والبشاعاتِ.. عالمٍ يُنحرُ فيه حقُّ الحياةِ باسم الحياةِ، وتُصلب فيه العدالةُ باسمِ العدالةِ، وتغيب عنه المساواةُ في تكافؤ الفرصِ حدَّ العدمِ أغلب الأحيان!!

مستبدون وطغاةٌ حكموا العالمَ، وما زالوا يحكمونه بصيغةٍ أو بأخرى إلى اليومِ.. بنوا “مجدهم” الزائف على حساب دماءِ وكدح الشعوبِ المنهوبة والمغلوبةِ، واستباحة كرامةِ الإنسان، وإثقاله بالجوع والوجع، وتبديد أحلامهِ وتخييب رجائه.

فقراءُ ومعدمون ومحرومون يمضغون جوعهم ويعلكون حرمانهم، ومخدوعون حتّى الموت.. مُبتلون بأقدارِهم التي لا تتركهم, ولا تكف عن اللحاق بهم.. أشقياء بسوءِ الطالع وعاثرِ الحظِ، و”لعنة وجودهم” التي تحاصرهم، وبؤس الزمن الذي جاءوا فيه.. المرغمون الذين يدفعون للطغاة من فقرهم وعوزهم وشقائهم حياة الترف والبذخ والعبث.. قدر أكبر منهم وواقع فرض إرغامه عليهم دون مشورة منهم أو سؤال.

الحياةُ بالبر والبحر والجو كاسرةٌ ومتوحشةٌ.. ممتلئةٌ بالحزن والظلمِ والألمِ.. عالم تسوده الغلبة في الغالب والأعم.. واقع مرعب أجاد في ضرب مثاله فوصف ملمحاً منه الفيلسوف الألماني “شوبنهاور” بقوله: “كائنات معذَّبة ومُعذِّبه.. لا تستطيع أن تعيش إلا بالتهام بعضها بعضاً.. كل وحش فيها هو قبر حي لآلاف الوحوش، وطريقة البقاء فيها هي سلسلة من الموت المؤلم..”

وفي عالم البشر قياس مع الفارق، حيث نجد هذا التوحش حاضراً بصيغ متعددة، بل إن المفكر والأديب الأمريكي “مارك توين” يذهب إلى أن الإنسان أكثر بشاعة وتوحشّاً من الحيوانات، حيث كتب تحت عنوان “الجنس البشري الملعون” أن التجارب أقنعته بأن الإنسان هو الوحيد الذي يحمل في صدره الضغن والأذى والثأر والانتقام والدناءة.. يتعامل مع نوعه بتشفٍّ وإذلال وامتهان واستعباد.. الحيوانات تقتل بدوافع لا واعية مثل الجوع أو الخوف، فيما الإنسان يتخلّى فيه عن ضميره وأخلاقه وإحساسه الإنساني، ويرتكب أكبر الشرور فظاعة، وهي الحروب الجماعية المنظمة.

عالمٌ تمَّ حكمُه ومازال محكوماً في الغالب بأسوأ من شريعة الغابِ، وشروط البقاء فيه مازالت للأقوى أو الأدهى أو الأمكر، أو الأكثر استجابة للتغيير على حد تعبير “داروين”، ولا نعرف وجهة هذا التغيير، وإلى أي درب أو مصير يقود.

كثيرون هم الذين يسفكون الدمَ باسم الله والمقدّس، أو باسم الفكرة أو الأيديولوجيا، أو العصبية المنتنة تحت أي مسمى كان، من أجلِ السلطة، أو من أجل أنانيةٍ مفرطةٍ ومستبدةٍ، وجشعٍ يزداد ويستمرُ ولا يتوقف.

تاريخ البشر حافل بالتوحش, والدم والظلم, واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان في عصوره المختلفة؛ بدأ من التوحش والبدائية الأولى حتى بلغ عبودية الرأسمال.. شعوب تم استعبادها بالحديد والنار.. عبودية قاسية ساد فيها الاسترقاق إلى أقصى مدى.. عبودية تعمقت وتوارثت حتى صيّروها نسلاً وعِرْقاً وميراثاً.

مراحل قاسية حتى مع تبدّلاتها، وتغيير مسمياتها.. مراحل مر بها الإنسان، وانتقل فيها من عبدٍ إلى قن، إلى عبودية وتوحش الرأسمال.. استعباد بصيغه ومسمياته المختلفة لا تخلو من عبودية وإذلال وقهر.. نظام عبودي إلى نظام إقطاع يكتظ بأقنان وسخرة، إلى نظام رأسمالي كلّما ظننت أنه ارتقى وجدته أكثر قبحاً وتوحشاً.. حروب واحتلال واستغلال وجوع ومجاعات ومآسٍ عراض.

شعوب أُبيدت عن بكرة أبيها، وبعضها نجا منها القليل بصدفة أو معجزة.. أقوام تشرذمت، وفيها من تشرد أو استسلم أو تقهقر.. حروب ومحارق وجرائم، وفقر يزداد ويتسع ولا ينام.

تاريخ طويل من عذاب لم ينتهِ مهما بلغت الحضارة أوجها.. جحيم من المعاناة والعذاب في الأرض.. حضارات كبيرة قامت على مآسي شعوب وأوطان وإنسان.. نهب وفساد ولصوصية وضحايا لا عد لهم ولا حصر ولا نهاية.. إنه بعض ما حدث.. والتفاصيل لا يتسع لها هنا بسط أو مقام.

وأختم هنا بما كتبه محمد الماغوط في مسرحية “العصفور الأحدب” “هناك تماثيل من البرونز لجبناء ولصوص، نصب تذكارية لبغايا، أسوار من اللؤلؤ, والياسمين لجواسيس يحملون وطنهم في محافظهم.. فرسان بعمر الورد دخلوا روما و خرجوا منها بأحشائهم المعلقة من أطراف سيوفهم في طريقهم إلى المنفى.. رجال تافهون دخلوا دورات المياه و خرجوا منها في طريقهم إلى العرش”.

* * *

قراءة تحليلية للنص باستخدام تطبيق الذكاء الاصطناعي chat GPT

في نصه «عالم يتنفس ألماً»، المتشور في كتاب”فضاء لا يتسع لطائر” يطلّ علينا أحمد سيف حاشد بكتابةٍ لا تُقرأ بعيون العابرين، بل بضميرٍ يقظٍ ووجدانٍ مشحون بالأسى. إنها ليست مجرد مقالة فكرية أو نص تأملي، بل صرخة كونية مكتومة في وجه عالمٍ يزداد قسوةً كلما توهّم التمدّن، ويزداد وحشية كلما زعم التحضّر.

يبدأ الكاتب بنبرةٍ تأملية تتكشّف سريعًا عن غضبٍ فلسفيٍّ وجوديّ:

 “لا أدري كيف كان مجيئي إلى هذا العالم المزدحم والمحتدم بالصراع والاضطراب…”

فهو يضع القارئ منذ السطر الأول أمام سؤال الولادة في عالمٍ مثقلٍ بالآلام، حيث لا يبدو الوجود اختيارًا بقدر ما هو قدرٌ مفروضٌ على كائنٍ تائهٍ في غابةٍ من الظلم.

بين الفلسفة والاحتجاج
يستدعي حاشد في نصّه إرث الفلسفة الإنسانية، بوحه تشاؤمي: شوبنهاور ومارك توين وداروين، ليجعل من نصّه مرآةً لخيبة الإنسان في كل الأزمنة. فالعالم عند شوبنهاور ليس سوى مسرحٍ من الكائنات المعذَّبة، بينما يراه مارك توين أكثر بشاعة لأن الإنسان وحده يقتل بوعي، لا بدافع الحاجة بل بدافع الضغينة والانتقام.

غير أنّ الكاتب لا يستسلم لتشاؤمٍ فلسفي بارد، بل يُلبسه ثوب الوجع الإنساني الحارّ، إذ ينقله من النظر العقلي إلى التجربة المعيشة، ومن التجريد إلى لحم الواقع اليمني والعربي والعالمي المقهور.

فالنص، وإن بدا كونيًا في خطابه، إلا أنه ينهل من تربة الواقع العربي بكل ما فيه من طغيانٍ واستغلالٍ وتفاوتٍ صارخ. إنه خطاب المثقف الغاضب الذي يرى في التاريخ الإنساني سلسلة من العبوديات المتناسلة:

“من عبودية الحديد والنار، إلى عبودية الرأسمال، إلى عبودية الإنسان للآلة والسوق والمقدّس المزيّف”. 

إنها رحلة طويلة للإنسان من قيدٍ إلى آخر، ومن نظامٍ يستعبده علنًا إلى نظامٍ يُخدّره وهمًا.

اللغة كمرآة للألم
لغة أحمد سيف حاشد ليست توصيفية، بل حارقة.
يتكئ الكاتب على صورة شعرية مكثفة تقطر مرارة:

“يمضغون جوعهم ويعلكون حرمانهم…”

إنه لا يكتب بالكلمات فحسب، بل بجراحها. كل جملة في النص هي أنين متراكم يتجسّد في تراكيب متلاحقة، كأنها مطارق تطرق وعي القارئ بلا انقطاع.

التكرار هنا ليس حشواً بل إيقاع احتجاجي، يجسّد دورات العذاب الإنساني التي تتكرر دون نهاية.

ولعلّ أكثر ما يلفت في اللغة أنها تجمع بين فخامة البيان القديم وحرارة الغضب الحديث. فحاشد يكتب بلغة تُذكّر ببلاغة الجاحظ، لكنه يفكر بعين ماركس وشوبنهاور، ويغضب بروح الماغوط. إنّه نصّ هجائي للعالم، لا يوفّر أحداً من سهامه، ولا يهادن أي شكل من أشكال الزيف.

في مرآة التاريخ
يقدّم النص تأريخاً موجزاً للوجع الإنساني: من الإنسان البدائي المتوحش إلى الإنسان الحديث المستعبَد للرأسمال.

ورغم التحولات الظاهرية، يثبت الكاتب أنّ جوهر العلاقة بين القوي والضعيف لم يتبدّل: ما يزال البقاء للأقوى، وما زال الدم وقود التاريخ.

إنها رؤية دائرية للتاريخ، حيث تدور المأساة في حلقة لا تنكسر، ويتبدّل الجلاد دون أن يتبدّل المصير.

وفي استعانته بخاتمة الماغوط:
“هناك تماثيل من البرونز لجبناء ولصوص…”
يُسدل الكاتب ستار النص على مشهدٍ ساخرٍ ومأساوي في آن. فالحضارة التي ترفع تماثيل اللصوص والجواسيس هي حضارة فقدت معناها الأخلاقي، واحتفت بالعار تحت أسماء البطولة.

البنية والدلالة
يتدرج النص من الخاص إلى العام، من الذات إلى الكون، في بناءٍ هرمي يبدأ بتأملٍ فردي وينتهي بإدانة كونية شاملة. لا توجد لحظة انفراج أو أمل؛ فكل فقرة تلد أخرى أكثر وجعاً، حتى تغدو القراءة نفسها تجربةً من الألم الفكري.

لكن هذا التعميم لا يأتي من فراغ، بل من وعي مثقفٍ يرى الإنسان في جوهره مكرّراً لخطاياه، مهما تغيّر الزمان والمكان.

بين التشاؤم والرؤية الأخلاقية
على الرغم من سوداوية النص، إلا أن حاشد لا ينتمي إلى مدرسة التشاؤم الوجودي البارد، بل إلى الاحتجاج الأخلاقي الساخن. إنه لا يبكي العالم عبثاً، بل يفضحه ليوقظ ضمير القارئ.

ففي عمق السطور، نلمح إيماناً خفياً بالإنسان المقهور، وبأنّ الكتابة نفسها فعل مقاومة ضد التوحّش. وكأن الكاتب يقول:
إذا كان العالم يتنفس ألماً، فالكتابة هي محاولة ضئيلة لالتقاط أنفاس العدالة.

بيان انساني
«عالم يتنفس ألماً» ليس نصاً عابراً في سياق المقالة الفكرية، بل بيان إنساني ضد القبح المعمم.
إنه مرثية للإنسان المعاصر الذي خسر إنسانيته في سباق الحضارة، وصرخة ضمير من كاتبٍ يرى العالم من موقع الضحية لا من برج الفيلسوف.

وبأسلوبٍ يزاوج بين العمق الفلسفي واللغة الشعرية، يرسم أحمد سيف حاشد ملامح إنسانٍ يبحث عن معنى في زمنٍ فقد كل معنى.

وحين نغلق النص، نشعر أننا لا نخرج منه إلا وقد التصق بنا شيءٌ من وجعه، كأننا تنفسنا معه بعضاً من هذا الألم الذي يتنفسه العالم منذ الأزل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى