(8)
مخالفات وعراك وأزرار مفتوحة !
أحمد سيف حاشد
كنتُ في الكلية العسكرية طالب منضبط وملتزم حد القلق.. لا أستسهل المخالفات ولا أرغب في إتيانها.. لا ارتكبها إلا بنسيان أو ارباك أو بدافع يستحق.. كانت مخالفاتي بسيطة وقليلة جدا، إن لم تكن في حكم النادر أو تكاد، وهي تتراوح بين خروج رأس “الجزمة” عن خط البلاط.. تراب خفيف على الدولاب.. خطاء طفيف في الحركة النظامية.. تأخري عن الطابور، بإجمال لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة خلال العامين.. أما الغياب فلم أغب يوما واحدا، ولا حصة واحدة خلال فترة الدراسة كلها..
أكبر مخالفة ارتكبتها طيلة السنتين لم يتم معاقبتي عليها.. فعندما كانت الفصيلة تركض في تدريبها، كان زميلي “حبيش” وهو طالب كثير المخالفة والفوضى ويلازمه العقاب كتوأمه، ولم أعلم يوما فارقه، أساء في فلتة لسانه على زميل لنا في نفس الفصيلة، اسمه الحركي “عمر”، خريج جامعي، وهو من الطلاب المنتمين للحزب الشيوعي العراقي..
كان زملائنا المبتعثين من الحزب الشيوعي العراقي جميعهم خريجين جامعة، وأعضاء في الحزب الشيوعي العراقي، والمحسوبين على المقاعد المخصصة لحركة التحرر.. كانوا غاية في النبل والامتلاء الثقافي والسلوك الراقي والقدوة الحسنة.. أمّا زميلنا “عمر” فكان أكثرهم نبلا وامتلاء، ومحل اقتداء..
ليس سهلا أن يجمع المرء بين الوعي العالي، والامتلاء الثقافي، والسلوك القويم، والتعامل الراقي، والتواضع الجم، ولكن الشيوعي “عمر” كان يجمع كل هذا وأكثر.. كان “عمر” ينتزع دوما دهشتي واعجابي، حتى صار يستحق محاولاتي للاقتداء به أكثر من الجميع..
لو كان الشيوعيون مثل “عمرنا” لاستحقوا الاقتداء بهم.. إنهم تلاميذ الشيوعي المعلم الفذ العراقي “فهد” الذي أطلق مأثرة، وهو على وشك أن ينفذ به حكم الإعدام شنقا، حيث قال: “الشيوعيون أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق”.. وفي “عمر” رأيتُ قبس من نبوة، وزهد صوفي مسكونا بإلهه، وقائد عظيم يأسر الألباب..
ما أبداه زميلي الفوضوي نحو “عمر” من المنّ استفزني، وأثار حميتي الاخلاقية قبل أي حمية أخرى، فاندفعت نحوه بقوة وجنون، حتى بدا الأمر مفاجئ للجميع، بما فيهم المسيء نفسه، والذي يبدو أنه كان لا يتوقع ما حدث.. اشتجرت معه بعنف، وتدخل الزملاء لفض العراك، وتحولت الفصيلة التي كانت تركض بانتظام إلى كومة تحاول فض عراكنا.. وبعد أن فض العراك بيننا جرى احتواء الأمر، وتم حله ودياً دون أن يتم إبلاغ القيادة..
وفي مخالفة أخرى طالني العقاب المضاعف.. كنت ما أن أسمع صفارة الطابور حتى أهرع كثور أسباني إلى الساحة حتّى لا يدركني قطع الطابور من قبل الضابط المناوب.. كنت دهشانا، وسريع العدو، وأزيح المتباطئ أمامي بركضه أو دفعه جانبا..
وفي مزحة ثقيلة، وحالما كنت استريح جوار السرير منتظرا صفارة الطابور من قبل الضابط المناوب، تمت المخاتلة من قبل بعض رفقتي في الغرفة، وجرى ربط عمود السرير إلى عروة حزامي العريض دون علمي، وما أن سمعت صفارة الطابور، حتى هرعت بقوة سبعين حصان، فأطحت بالسرير الذي خر صريعا وسط الغرفة، وتتطاير ما كان عليه أو في جواره على أرضيتها، فعدت محاولا اصلاح ما يمكن، ولكن لم يسعفنِ الوقت، وكان الارباك سيد الموقف..
يومها تم عقابي مرتين، الأول لتأخري عن الطابور، والثاني بسبب ما طال سريري وفراشي وما تتطاير من أدواتي في الجوار على أرض الغرفة، وبسبب ذلك طال العقاب أيضا زميلي صاحب الطابق الثاني في السرير، ولكن العقاب مع زميلي هذا لم يعد يفرق معه.. كان مشهورا إن لم تخن الذاكرة برقم (71444)؛ وقد حفظنا اسمه بسبب مخالفاته اليومية، فلا يفوته يوما دون أن يطوله عقاب، أو يكاد لا ينجو يوما من مخالفة وعقاب.. رقمه يصدح كل يوم في الطابور، بعقوبة جزاء، أو طابور اضافي..
***
أما المخالفة التي لم أنساها، وهي نسيان أزرار البنطلون مفتوحة من الأمام، والذي وبخني عليها مدرّس مادة الاستطلاع الخبير الروسي قصير القامة، والذي كان أشبه بمن أصابه مس وهو ينفعل بكلام لا أفهمه، ولكن كانت إشارة يده ورأسه وحركاته المنفعلة أبلغ من كل عقوبة وكلام، فغُرقتُ في حيائي وخجلي، وأثار حولي عاصفة من ضحك زملائي..
أما اليوم في مجلس النواب فيتكرر معي هذا المشهد وهذا النسيان دون أن أجد أي انفعال من أحد إلى درجة أشعرتني إن الإمر صار معتادا ولا يثير حفيظة، وأن مرض “الزهيمر” قد أصابني بمكين.. فغالبا ما أكتشف أو يكتشف زملائي أن سحاب البنطلون مفتوح.. وفي يوم لازال قريب أشار لي مرافقي نبيل الحسام أن سحّاب البنطلون مفتوحة، فرديت عليه بصوت منفعل تبعته قهقه: “أدري.. أنا رائح مجلس النواب.. الأصل هو أن أفعل هذا”.
وأختم قولي هنا أن الأمر لا يستحق العجب.. فالمجلس صار العري كلّه، وأنا أحاول فيه الاحتشام قدر ما أستطيع.. أما ما يوازيه وأعلى منه، فيستحق منّي ما هو أكثر وأبلغ..
***
كنتُ في الكلية العسكرية طالب منضبط وملتزم حد القلق.. لا أستسهل المخالفات ولا أرغب في إتيانها.. لا ارتكبها إلا بنسيان أو ارباك أو بدافع يستحق.. كانت مخالفاتي بسيطة وقليلة جدا، إن لم تكن في حكم النادر أو تكاد، وهي تتراوح بين خروج رأس “الجزمة” عن خط البلاط.. تراب خفيف على الدولاب.. خطاء طفيف في الحركة النظامية.. تأخري عن الطابور، بإجمال لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة خلال العامين.. أما الغياب فلم أغب يوما واحدا، ولا حصة واحدة خلال فترة الدراسة كلها..
أكبر مخالفة ارتكبتها طيلة السنتين لم يتم معاقبتي عليها.. فعندما كانت الفصيلة تركض في تدريبها، كان زميلي “حبيش” وهو طالب كثير المخالفة والفوضى ويلازمه العقاب كتوأمه، ولم أعلم يوما فارقه، أساء في فلتة لسانه على زميل لنا في نفس الفصيلة، اسمه الحركي “عمر”، خريج جامعي، وهو من الطلاب المنتمين للحزب الشيوعي العراقي..
كان زملائنا المبتعثين من الحزب الشيوعي العراقي جميعهم خريجين جامعة، وأعضاء في الحزب الشيوعي العراقي، والمحسوبين على المقاعد المخصصة لحركة التحرر.. كانوا غاية في النبل والامتلاء الثقافي والسلوك الراقي والقدوة الحسنة.. أمّا زميلنا “عمر” فكان أكثرهم نبلا وامتلاء، ومحل اقتداء..
ليس سهلا أن يجمع المرء بين الوعي العالي، والامتلاء الثقافي، والسلوك القويم، والتعامل الراقي، والتواضع الجم، ولكن الشيوعي “عمر” كان يجمع كل هذا وأكثر.. كان “عمر” ينتزع دوما دهشتي واعجابي، حتى صار يستحق محاولاتي للاقتداء به أكثر من الجميع..
لو كان الشيوعيون مثل “عمرنا” لاستحقوا الاقتداء بهم.. إنهم تلاميذ الشيوعي المعلم الفذ العراقي “فهد” الذي أطلق مأثرة، وهو على وشك أن ينفذ به حكم الإعدام شنقا، حيث قال: “الشيوعيون أقوى من الموت وأعلى من أعواد المشانق”.. وفي “عمر” رأيتُ قبس من نبوة، وزهد صوفي مسكونا بإلهه، وقائد عظيم يأسر الألباب..
ما أبداه زميلي الفوضوي نحو “عمر” من المنّ استفزني، وأثار حميتي الاخلاقية قبل أي حمية أخرى، فاندفعت نحوه بقوة وجنون، حتى بدا الأمر مفاجئ للجميع، بما فيهم المسيء نفسه، والذي يبدو أنه كان لا يتوقع ما حدث.. اشتجرت معه بعنف، وتدخل الزملاء لفض العراك، وتحولت الفصيلة التي كانت تركض بانتظام إلى كومة تحاول فض عراكنا.. وبعد أن فض العراك بيننا جرى احتواء الأمر، وتم حله ودياً دون أن يتم إبلاغ القيادة..
وفي مخالفة أخرى طالني العقاب المضاعف.. كنت ما أن أسمع صفارة الطابور حتى أهرع كثور أسباني إلى الساحة حتّى لا يدركني قطع الطابور من قبل الضابط المناوب.. كنت دهشانا، وسريع العدو، وأزيح المتباطئ أمامي بركضه أو دفعه جانبا..
وفي مزحة ثقيلة، وحالما كنت استريح جوار السرير منتظرا صفارة الطابور من قبل الضابط المناوب، تمت المخاتلة من قبل بعض رفقتي في الغرفة، وجرى ربط عمود السرير إلى عروة حزامي العريض دون علمي، وما أن سمعت صفارة الطابور، حتى هرعت بقوة سبعين حصان، فأطحت بالسرير الذي خر صريعا وسط الغرفة، وتتطاير ما كان عليه أو في جواره على أرضيتها، فعدت محاولا اصلاح ما يمكن، ولكن لم يسعفنِ الوقت، وكان الارباك سيد الموقف..
يومها تم عقابي مرتين، الأول لتأخري عن الطابور، والثاني بسبب ما طال سريري وفراشي وما تتطاير من أدواتي في الجوار على أرض الغرفة، وبسبب ذلك طال العقاب أيضا زميلي صاحب الطابق الثاني في السرير، ولكن العقاب مع زميلي هذا لم يعد يفرق معه.. كان مشهورا إن لم تخن الذاكرة برقم (71444)؛ وقد حفظنا اسمه بسبب مخالفاته اليومية، فلا يفوته يوما دون أن يطوله عقاب، أو يكاد لا ينجو يوما من مخالفة وعقاب.. رقمه يصدح كل يوم في الطابور، بعقوبة جزاء، أو طابور اضافي..
***
أما المخالفة التي لم أنساها، وهي نسيان أزرار البنطلون مفتوحة من الأمام، والذي وبخني عليها مدرّس مادة الاستطلاع الخبير الروسي قصير القامة، والذي كان أشبه بمن أصابه مس وهو ينفعل بكلام لا أفهمه، ولكن كانت إشارة يده ورأسه وحركاته المنفعلة أبلغ من كل عقوبة وكلام، فغُرقتُ في حيائي وخجلي، وأثار حولي عاصفة من ضحك زملائي..
أما اليوم في مجلس النواب فيتكرر معي هذا المشهد وهذا النسيان دون أن أجد أي انفعال من أحد إلى درجة أشعرتني إن الإمر صار معتادا ولا يثير حفيظة، وأن مرض “الزهيمر” قد أصابني بمكين.. فغالبا ما أكتشف أو يكتشف زملائي أن سحاب البنطلون مفتوح.. وفي يوم لازال قريب أشار لي مرافقي نبيل الحسام أن سحّاب البنطلون مفتوحة، فرديت عليه بصوت منفعل تبعته قهقه: “أدري.. أنا رائح مجلس النواب.. الأصل هو أن أفعل هذا”.
وأختم قولي هنا أن الأمر لا يستحق العجب.. فالمجلس صار العري كلّه، وأنا أحاول فيه الاحتشام قدر ما أستطيع.. أما ما يوازيه وأعلى منه، فيستحق منّي ما هو أكثر وأبلغ..
***
- الصورة أحمد سيف حاشد وحبيش – الكلية العسكرية
يتبع ..
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام
أحمد سيف حاشد هاشم
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page
يتبع..