مذكرات

قراءة تحليلية لنص “جنية تعشق أبي” لـ”أحمد سيف حاشد”

رحلة من الخوف الميتافيزيقي (الجن) إلى الخوف الواقعي (الحقيقة، الفقر، النظام)

برلماني يمني

الناس تلوذ “بالعتمة بحثاً عن أمان زائف” لأن المواجهة مع الحقيقة مؤلمة

بين المجتمعات التي ترفض الحقيقة وتقتل “مستنيريها” والطفل الذي يخاف من الظلام

الخوف الحقيقي لا يكمن في الكائنات الخفية، بل في عيوب المجتمع والهروب من المواجهة

 

“جنّية” تعشق أبي !!

أحمد سيف حاشد

عندما كنت صغيراً ـ لم أعد أتذكر بأي عمر ـ ربما في السادسة أو أقل أو أكثر منها بقليل، كنت أخاف، وأعيش رعب الجن والظلام.. أسمع أمي تتحدث عن جن “الداجنة” القريبة من بيت أهلها القديم، وعن نساء الجن اللاتي ضروعهن معطوفات ومسدولات على ظهرهن.. وعن أخيها الذي حاول بكتاب “شمس المعارف” أن يملك الجن، وكاد يجن وهو يسمع ركض الجن كخيول وأحصنة على سقف وحدته وعزلته في “جلب” بشعب “موجِر”.

كنت أيضاً أسمع أبي يتحدث عن الجن، ويروي بعض الحكايات عنهم.. الجنية الجميلة الممشوقة القوام التي توقف السيارات في وقت متأخر من الليل في “عقبة عدن”، ثم تركب مع السائق وهي تتضوع عطراً وسحراً، وفيها كلّما يجذب ويخدع، ليكتشف السائق في نهاية الأمر أنها برجلي حمار.. وأحيانا تختفي فجأة من السيارة، فينصدم السائق بهذا الاختفاء ويجن.. وحكاية النساء اللاتي على البئر يرشين بالدلاء لغرف الماء في حلكة الليل، وهو يسمع الرشاء ومعها شهيقهن وزفيرهن، وما إن يقترب حتى يختفين بغتة، فيصاب بالهلع الشديد.. هي حكايات كثيرة كنت أسمع بها كل ما لا يقوى على سماعه طفل بعمري الصغير.

كنت أرتعد من الخوف، وتُنفتح أنفاق موحشة في جدار صمتي.. أتخيل عالم الجن، وتنتابني المخاوف أن ينتزعوني من أمي إلى عالم من رعب ومجهول. كل مفردة في كل حكاية كانت سرعان ما تجد وقعها على وعيي وتحدث فيه أثراً بحجم زلزال.. ما يحكونه يرتسم في مخيلتي على نحو سريع ومذهل، وكأنني لاقط بث، أو رادار سريع الالتقاط لرعب مهول.

تلك الحكايات، كانت تسرح بي إلى البعيد.. تنقلني إلى مجهول وغربة عن عالمي الصغير.. كنت وأنا أسمع تلك الحكايات أعيش بذهن طفل، وقلبي الصغير يخفق داخلي حتى أكاد أتصدّع من الداخل.. أشهد انزياحات عارمة داخلي.. يحتشد في وعيي اللزج كالصمغ ما هو مرعب ومخيف.. ومع ذلك كنت أحاول كتمان ما يُعتمل داخلي، ومواراة ما أشهده من خوف يزلزلني من الداخل وأنا أطويه وأخفيه بصمت كتوم.

كنت أشعر بالوحشة والخوف والهلع وهم يتحدثون عن الجن والشياطين.. كان الظلام يخيفني، وكانت درج دارنا القديم مظلمة، وهي تتلوى على قطب الدار كثعبان أسود عريض، إلا من بصيص نور خافت يتسلل بوهن إلى سلّم الدّرج من كُوَّتّين صغيرتين في جدار الدار.

كنت عندما أصعد أو أنزل الدرج منفرداً، أركض مسرعاً كالريح، دون أن ألتفت إلى الوراء، حتى أنجو، والحيلولة دون أن تلحقني يد جني أو جنية أو مس شيطان، كنت أظن أن الجن تختبئ وتتربص بي في الزوايا المعتمة من درج الدار.. عشتُ وأنا في تلك السن الصغيرة معاناة يومية مع الجن والدرج والظلام.. كان صعود الدرج أو نزولها بمفردي إذا لزم الأمر يجعلني أشعر أنني نجوت من الجن حال تجاوزها.

* * *

لماذا كنت في بطن أمي لا أخشى الظلام، وعندما خرجتُ منه، وصرتُ طفلاً خفته وخشيته..؟! هل هو الوعي؟! لماذا عندما يصير المرء أكبر يخشى من النور الذي يظهر معايبه ويكشف خباياه وحقيقته..؟! لماذا الإغراق في النفاق مع أنفسنا، وأكثر منه مع الطغاة والظالمين والأدعياء؟؟

لماذا لا نتصالح مع أنفسنا ومع الحقيقة أياً كانت، بدلاً من أن نعيش زيفنا بسعادة كذوبة، ونتعاطى مع الزيف، وكأنه الحقيقة، ونتحاشى النور أو نعاديه إلا ما صار قدراً أو واقعاً نعيشه.. لماذا نلوذ بالعتمة بحثاً عن أمان زائف..؟!

مفارقات لافتة.. جنين لا يعي الظلام، وطفل خائف منه، ورجل خائف من النور، وفقير كبر وصار يخاف من مبالغ فواتير الكهرباء في عهد الحصار والجبايات وهوامير الفساد. وأكثر منه، شعوب تخاف النور والتنوير، وتجهز على مستنيريها خوفاً من المستقبل، ومن الحقيقة طالما هي صادمة لما تظن وتعتقد، وتتعلق بما هو زائف وخادع وكذوب.

شعوب تعيش ظلامها باستكانة، بل باطمئنان يستغرق وعيها بمداه، وتعشق اغترابها عن العصر بسعادة بالغة، وتستريح إلى ما هو زائف وخادع، طالما هذا يشعرها بالأمان الذي تستريح إليه حتى وإن كان وهماً على وهم..!
شعوب تعيش خوفها من الحقيقة حتى ترتطم بها، دون أن تدفع نفسها قبلاً للبحث عنها.. خوفها الذي يقتل وعيها، وتلوذ بأمان زائف وكذوب.. شعوب ترعبها الحقيقة، وجل شعوبنا هي تلك.

* * *

وعندما انتقلت إلى دارنا الجديد الذي بني على مراحل، وكان يومها دكاناً فوقه ديوان، مازال بابه مكشوفاً، أو من دون باب، غير حزمة من الزرب تُنحَى مع الفجر، وتعاد إليه قبل النوم أو بعد دخول الليل بقليل، وفي مدخله كان يوجد مطبخٌ صغير في الزاوية.

كنّا يومها ننام في الديوان ونترك الفانوس يضيء على نحو خافت أثناء النوم.. صحيت أنا وأبي مذعورين من الفراش على صوت أمي، وهي تهرع إلينا تستنجد وتستغيث وتقول بإرباك وعجل على عجل: “خربي خربي خربي.. البندق البندق”.

لقد رأت أمي يداً ترمينا بالحصى، من جانب قطب الدرج جوار مطبخنا الصغير.. كانت أمي قد لمحت وجهاً متخفياً باللثام كالشبح، ولكنه ليس بشبح.. قاربت في تخمينها الواقع، ولكنها لم تصبه.. جاءت إلينا مذعورة وعقلها كاد يطير فزعاً ورعباً.

قفز أبي من تحت لحافه كعفريت على وقع صوت أمي الهلع.. لا أدري كيف استطاع يجمع أشتات عقله في لحظة مربكة كتلك.. أما أنا فكنت مذهولاً ومملوءاً بالهلع وكأن نازلة جاءت علينا من السماء.. لم أستوعب ما حدث إلا بعد أن هدأ روع الجميع.

هرع أبي ببندقيته النصف آلية بالاتجاه الذي كانت تومي إليه أمي بكلتي يديها، أما كلام أمي فلم أعد أفهمه لما شابه من ارتباك كبير.. الغريب أن الشبح كان الوحيد الأكثر تماسكاً ورباطة جأش ومراس.

وضع أبي فوهة البندقية في خاصرة ما بدا لي أنه شبح بثياب رجل متلثم، فيما الشبح بصوت أنثى كان يتدفق حنيناً وأنوثة.. كان يحاول أن يهدئ من روعنا وإفهامنا أنه “فلانة” وتعريفنا بما تطمئن له قلوبنا.

اكتشفنا أنها امرأة تنضح أنوثة.. رشيقة وجميلة جداً ومغامرة.. تلبس في دجى الليل لبس الرجال.. ومع ذلك وإلى اليوم تستطيع ذاكرتي أن تستعيد وتستحضر صوتها الذي كان يتدفق عشقاً وشوقاً ولهفة.. طولها فارع ومخاتلتها مثل نسمة بحر، وفي صدرها حب وهمس وكلام كثير.

بعدها أمي أقامت الدنيا على أبي.. ربما أول مرة شهدتُ أبي ضعيفاً أمام أمي متضرعا ومستجدياً لها.. أقامت أمي لأبي محكمة بدأت صارمة، فيما أبي كان يدافع عن نفسه بصبر وتوسل وأيمانٍ غلاظ ليداري ما يمكن أن يتحول ليلتها إلى فضيحة مجلجلة.

كان أبي يدافع عن نفسه أنه بريء من التهمة، وإلا لكان هناك ميعاد يداري به ما يرغب ويريد بعيدا عن أعين أمي.. كان يعرف أن ما حدث يمكن أن يتحول إلى فضيحة بين الناس، ولذلك حشد الحجج والقرائن والأيمان المغلّظة لتبديد تهمة كادت أن تتحول إلى تلبس وجرم مشهود.

وفي المحاكمة سمعت أبي يتهم فلاناً من الناس أنه من دفعها لتفعل ما فعلته، وتطلب منه بجُرأة مما أعطاها في الأمس.. تقولها دون حياء وتطالب به وكأنه بعض من حقها.. كانت تلك المرأة آسرة الجمال، كان أبي أيضاً جميلاً وأجمل من صاحبه.

نال أبي ليلتها نصف براءة أو أكثر منها بقليل، فيما ظل الباقي غيرة وشكاًّ حيال أبي طال مداه.. الأهم أن أمي ليلتها لملمت الموضوع مع أبي إثر محاكمة مستعجلة حالت نتيجتها دون ترك أمي دارها، والهرب إلى بيت أهلها، وقد كان هذا في بداية الانكشاف وارداً ووشيكاً.

ولكن استمر تعلق العاشقة بأبي وعرض الزواج عليه، ومحاولة استرضاء أمي لمثل هذا الزواج والتعايش معه، ولكن لم تظفر بموافقة والدي، وبعد يأس ورفض أنشدت:
“صافي البدن يا عطر بالزجاجة *** شهويك هوى ما اشتى ولا زواجه

* * *

وبقي العجب.. يا لها من عاشقة شجاعة، وليل مسكون بالعشق المؤجج لواعجه.. رحلة عشق من هُلام وانفجار إلى انبثاق وجود يتحدّى العدم. كيف بمقدورنا أن نحتمل هذا الامتحان العسير والجمال باذخ يتحدّى موانعه.. أقام العشق وحل في أعماقنا حتى صارت أقداره أكبر من هذا الوجود ولّاد الخلائق.
جمال يعبُر حدود الموت للقاء بمن نحب ونعشقه.. غواية تستحق عبورنا، وخطيئة كالمعرفة تستحق التضحية.. نحن ضحايا وجودنا.. لا أجحد نعمته ولكني ألتمس للعاشقين حد الموت أعذارهم.. ما أصعب أن نرى من شرفة الكون هذا الجمال البهيج ولا نعشقه.. كيف لفراشة أن ترى كل هذا الضوء دون أن تطير إليه وتنتحر.

لطالما تمنيت أن تكون “الأشباح” كهذه الجميلة العاشقة.. يا ليتها تتربص لنا في كل ليل وعتمة.. تمنيت أن تزداد شوقا ولهفة، وتزورنا كل ليلة إلى مراقدنا بهيام ودهشة. ومن دون أبواب أو مواعيد.. وأكثر منه تمنيت أن تسكن دورنا طوال ليالينا المعتمات، ونحن نقيم في أفئدتها طوال ساعات النهار.
هذا العشق اللاعج والجمال الباذخ رونقه، يزيد الوجود ابتهالاً لرب هذه المعجزة.. نقولها بصوت محتج مختنق مهما ادعيتم ورميتم “الأشباح” بكل الجرائر والتهم، فهي في أسوأ حالها إن افترضنا صحيحها، أفضل ألف مرة مما يفعله بنا بعض أبناء البشر.

عشق وشوق تحدّى الموت، وما حاق وحف بالخطر.. مغامرة تنكرت في ليل مدلهم حلكته.. عبور مختنق للوصول إلى من نحب.. العشق المُخاطر بصاحبه.. عشق تحدّى لعلعة الفضيحة، والقتل رمياً بالرصاص، وعقوبة الموت رمياً بالحجارة.. طابت روح المسيح الذي قال: “من كان منكم بلا خطيئة.. فليرمها بحجر.”

سلام لأشباح تمارس وجودها ممالك عشقها من أول الليل إلى آخره.. سلام لها وهي تتسلل كالنسائم إلى تحت المعاطف والألحفة.. سلام عبق بعشق وزهر وعطر. والتنكر سلام للعبور في حقول ألغام العيون.. واللقاء بلا مواعيد أكثر مفاجأة ودهشة.

أهلا بأشباح العشق أول الليل أو في لجته.. تحت سترته أو في معطفه.. في صلاة الليل أو تهجده.. أنا لا أجحد نعمة الله، ولكني فقط أكره الحرب، وأقارن بين الجرائر.. الحرب جريمة كونية تقتل كل النعم..

تسفك الدم، وتقتل الحياة، وتصلب الحب، وتسيء إلى هذا الوجود العظيم. في هذه الأيام التي تأكل نفسها وتقتاتنا معها، صرنا نبحث عن العشق فلا نجده حتّى في أحلامنا وليالينا الداجيات.. أيامنا صارت تكتظ بالحروب والمقابر.. أنهاراً من الدم، والدموع الهواتن، وجوع ومجاعة بلغت بقلوبنا الحناجر.. نحن نذود عن الوجود، ونراكمه حياة وحباً وعمراناً، ونقاوم جوعنا وفناءنا وهذا الموت الجائحة.

نحن لا نجحد نعمة، ولكننا نحتج وندعو ونبتهل. نستغيث بحشرجة الموت وغصته، طالبين نجاة أولادنا من جهل عرمرم، واجتياح موت عريض يُهدد وجودهم، والنسل والضرع.. المجاعة كارثة تجتاحنا كل يوم بتكرار وقسوة، وحصار مميت من كل حدب وصوب تطبق يداه بقوة الحديد والموت على حناجرنا المتعبة، حتى لا يسمع العالم أنيننا وجوعنا ومآسينا العراض.

ونحن بصوت الصبر المراكم في وجه هذا العبث، وهذه الحرب الضروس، نطلقها بصوت يفتت الصخر: أوقفوا الحرب.. دعونا نعيش.. دعونا نحب ونعشق؛ فجريرة العشق مهما أوغلت في عشقها تظل دون الحرب بمليون ومليون ضعف.. المجرمون من يستسهلون القتل، ويسفكون الدم، ويستبيحون الحقوق، ويسوقون الموت تجارة لا تبور، وليس من احترق في مجمرة الحب والعشق اللذيذ.

“أوقفوا الحرب” صرخة نطلقها من أعماقنا ونحن نحمل نعوشنا على كواهلنا المتعبة.. نستغيث من وسط زحام الموت، وهذه الحرب الكارثة التي لا تريد أن تنتهي.. عالم متصحر وصخري الضمير، ولكن لعل رهاننا على بقايا ضمير ندي يفعل شيئاً في وجه الموت العريض وهذه الحرب، والدمار والخراب الكبير.
لم أكفر والجوع كافر، ولم أجحد نعمة في ليل أو نهار، والحرب تهرس المفاصل والعظام.. ولكني أحتج بمرارة من يحمل نعشه وتطلع روحه، على من يرى القذى في عين أخيه ولا يرى الخشب في عينه.. من يرى العشق جريمة بحجم السماء، ويرى الحرب جهاداً وغفراناً وعزّة وسؤددا.

* * *

قراءة تحليلية للنص باستخدام تطبيقا الذكاء الاصطناعي DeepSeek & chat GPT

نصّ “جنية تعشق أبي” لـ”أحمد سيف حاشد” المنشور في كتاب “فضاء لا يتسع لطائر” هو نص سردي غنيّ بالدلالات، يجمع بين السرد الحكائي والتأمل الفلسفي والنقد الاجتماعي.

وينتمي هذا النص إلى كتابة السيرة الأدبية ذات النزعة التأملية والفلسفية، حيث يمزج الكاتب بين الطفولة والسيرة الذاتية، والأسطورة الشعبية، والفكر النقدي للواقع الاجتماعي والسياسي.

والعنوان “جنية تعشق أبي” يحمل مفارقة رمزية تجمع بين العاطفة والخيال والخوف والفتنة، ويهيئ القارئ للدخول في عالم تتداخل فيه الواقعية بالأسطورة، والمادي بالروحي، والطفل بالإنسان الناضج.

وهنا يقدّم أحمد سيف حاشد نصاً مركّباً من السيرة والرمز، من الواقعي والأسطوري، من الحكاية الشعبية والاحتجاج السياسي والاجتماعي.

فالنص يبدأ من حكايات الطفولة عن “الجنّ” والخوف من الظلام، وينتهي بنداء إنساني ضد الحرب والقتل.

وهذه الرحلة من الظلام الأسطوري إلى ظلام الواقع تشكّل البنية الدلالية الكبرى للنص.

فـ”الجنّ” هنا ليست فقط كائنات غيبية تُروى عنها الأساطير، بل تتحول تدريجياً إلى رمز للإنسان المقموع، والعاشق، والمتمرد، والمختلف، وإلى استعارة لعالمٍ مقلوب يخاف فيه الناس من النور أكثر مما يخافون من العتمة.

المستوى السردي والحكائي

الطفولة والرهبة
يبدأ النص بالغوص في ذاكرة الطفولة، حيث يسيطر الخوف من المجهول (الجن والظلام) على وعي الطفل. هذا الخوف يتغذى من حكايات الأسرة المرعبة والمثيرة عن الجن، والتي تُروى دون مراعاة لعقلية الطفل الصغير.

مصادر الخوف
الأم (بحكايات “الداجنة” ونساء الجن) والأب (بحكايات الجنية في “عقبة عدن” والنساء على البئر).

تأثير الحكايات
تصبح هذه الحكايات مادة خصبة لخيال الطفل، فتتحول إلى كوابيس حية تنتزعه من عالمه الآمن إلى “عالم من رعب ومجهول”.

يصف الكاتب هذا التأثير بأوصاف قوية: “أثراً بحجم زلزال”، “رادار سريع الالتقاط لرعب مهول”.

مظاهر الخوف
يقدم الكاتب صوراً ملموسة لهذا الرعب اليومي:
درج الدار: تتحول “كثعبان أسود عريض”، مكان موحش تتربص فيه الجن.
السلوك: الركض بسرعة في الظلام دون الالتفات للخلف، وكأنه هروب من الموت.

ذروة الحكاية (حادثة “الجنية”): تأتي الحادثة التي أعطت النص عنوانه (“جنّية تعشق أبي!”) لتقلب كل التوقعات.

التحول من الخيالي إلى الواقعي: “الشبح” المرعب الذي كان يرمي الحصى يتحول إلى امرأة حقيقية “تنضح أنوثة”، رشيقة وجميلة.

المفارقة: مصدر الرعب (الشبح المتلثم) هو الأكثر هدوءاً ورباطة جأش، بينما أفراد الأسرة (الراشدون) هم المذعورون. صوتها “كان يتدفق عشقاً وشوقاً ولهفة” لأبي.

الكشف والصراع: الكشف عن هوية “الجنية” الحقيقية يفتح الباب لصراع جديد على الأرضية الواقعية، حيث تغضب الأم وتقيم الدنيا، ويظهر الأب “ضعيفاً متضرعاً” لأول مرة في عيني الطفل.

ثنائية الظلام والنور

يبني النص فلسفته على التحوّل التدريجي من خوف الطفولة من الظلام إلى خوف الكبار من النور.

في البداية، الطفل يخاف من “درج الدار” المظلم، من الجنّ، من الغموض. لكن الكاتب يُقلب المعادلة عندما يقول:

“لماذا كنت في بطن أمي لا أخشى الظلام، وعندما خرجتُ منه خفته؟!”

وهنا يطرح سؤال الوعي والبراءة. فالظلام الأول (رحم الأم) هو الأمان، أما الظلام الثاني (العالم الخارجي) فهو الخوف.

وبذلك يتحول الظلام إلى مجازٍ للجهل، واللاوعي، والواقع العربي الذي يختبئ من الحقيقة، بينما يصبح النور رمزاً للمعرفة والتنوير الذي يخشاه الناس لأنه يفضحهم.

مستويات سردية
كما يمكن القول أن النص بشكل عام يتوزع على ثلاث مستويات سردية متداخلة:

1- الطفولي – الواقعي الأسطوري:
يبدأ السرد بذكريات الطفولة، حيث يعيش الراوي في بيئة تكتظ بحكايات الجن والعالم الخفي.
وهنا يظهر الجن لا ككائن خارق فحسب، بل كـ”رمز للغموض واللاوعي”، وكخلاصة لمخاوف الطفولة التي تشكّل أول وعي بالعالم.

2- الفكري والفلسفي
وينتقل النص من السرد إلى التأمل، مثيراً أسئلة وجودية واجتماعية عميقة: 

“لماذا كنت في بطن أمي لا أخشى الظلام… وعندما خرجت منه خفته وخشيته؟”
هذه النقلة ليست اعتباطية؛ إنها تمثل لحظة وعي الكاتب بذاته، وتحوله من الخوف البدائي إلى الخوف العقلي، من “الجن والظلام” إلى “النور والحقيقة”.
وهنا يتحول النص إلى تأمل اجتماعي نقدي، حيث يُسقط الكاتب تجربة الطفل الخائف على مجتمع يخاف النور والتنوير، ويعشق الظلام لأنه يمنحه أماناً زائفاً.

3- الرمزي – الواقعي
في مشهد “الجنية التي تعشق الأب”، تتجلى ذروة الرمزية:
الجنية الأنثى ليست مجرد مخلوق غريب، بل تمثل الفتنة والمجهول والرغبة والتمرد على العرف والخوف.
أما الأب، فصيرورته من راوٍ للحكايات إلى “موضوع للحكاية” يكشف انقلاب الأدوار، وكأن الخرافة صارت واقعاً، أو أن الخيال اقتحم الحياة نفسها.

من الحكاية الشعبية إلى الرمز الفلسفي

في منتصف النص، ننتقل من سرد الطفولة إلى الحكاية التي تشكّل قلب النص:

امرأة – أو “جنّية” – تأتي في الليل، تثير الرعب أولاً، ثم تكشف عن وجهها العاشق.
هذه الجنية تمثل التحوّل من الخرافة إلى الإنسان، ومن الخوف إلى الشغف، ومن الأسطورة إلى الجمال.

تحول
تتحول الحكاية من حادثة بيتية صغيرة إلى تجربة وجودية:

المرأة الجنية ليست شريرة، بل عاشقة.

“العشق” هنا يغدو نقيض “الحرب”.

والأنثى الغامضة تصبح رمزاً للحياة نفسها، للحبّ المقموع والمُدان اجتماعياً.

إنّ الكاتب يبرّئ “الجنية” (الرمز الشعبي للشرّ) ويجرّم “الحرب” (الواقع الإنساني الحديث).
وفي هذا التحوّل تكمن المفارقة الكبرى للنص:

> ما نظنه شراً في الأسطورة، أنبل وأجمل مما نفعله نحن في الواقع.

“الجنية” كرمز للأنوثة والحرية

تتجلى “الجنية” في النص كرمز مزدوج:

1. أنثى مغامِرة متجاوزة للمحظور – تقتحم الليل، تتخفى بلباس الرجال، تواجه الخطر.

2. رمز للحرية والرغبة والجرأة في الحب – تعشق دون خوف، وتعبّر عن شوقها بوضوح.

يكتب الكاتب عن الجنية بولهٍ وافتتان، وكأنها صورة للحرية التي يعشقها ويخافها معاً.
ومن خلالها، يعيد الاعتبار للأنثى في مجتمعٍ يقدّس العيب ويجلّع الخطيئة، فيقول ضمنياً:

> “إن خطيئة الحب أقل جرماً من خطيئة الحرب.”

وانتقال النص من السرد إلى التأمل، يمكن ايجازه في مفارقة الخوف، وانقلاب المفارقة، وتعميمه الاجتماعي. 

1. مفارقة الخوف
ويتمثل في طرح الكاتب سؤالاً مركزياً: لماذا يخاف الطفل من الظلام بينما لا يخاف منه الجنين؟ والإجابة الضمنية هي الوعي. لأن الظلام يخفي عالم الجن المتخيل، والوعي يبني هذا الخيال المرعب.

2. انقلاب المفارقة: مع تقدم العمر، ينقلب الخوف من الظلام إلى النور.

والنور هنا رمز للحقيقة والوضوح والكشف. ويخشى الإنسان الراشد من أن يضيء النور على عيوبه ونقائصه وحقيقته الهشة.

كما يربط الكاتب بين خوف الإنسان من الحقيقة وبين إغراقه في النفاق، ليس فقط مع نفسه بل أيضاً مع “الطغاة والظالمين والأدعياء”. وكثير من الناس تلوذ “بالعتمة بحثاً عن أمان زائف” لأن المواجهة مع الحقيقة مؤلمة.

3. التعميم على مستوى المجتمع: يتسع أفق النص ليشمل نقداً لاذعاً للشعوب:

وهنا يشبه الكاتب المجتمعات التي ترفض الحقيقة وتقتل “مستنيريها” بالطفل الذي يخاف من الظلام. وكانها تفضل العيش في “ظلامها باستكانة” والاغتراب عن العصر “بسعادة بالغة”، لكن هذه الشعوب ترتطم بالحقيقة في النهاية دون استعداد، لأن خوفها منعها من البحث عنها مبكراً.

تساؤلات وتأملات
كما أن اثارة الكاتب للتساؤل: “لماذا كنت في بطن أمي لا أخشى الظلام… وعندما خرجت منه خفته وخشيته؟”
هذه النقلة ليست اعتباطية؛ إنها تمثل لحظة وعي الكاتب بذاته، وتحوله من الخوف البدائي إلى الخوف العقلي، من “الجن والظلام” إلى “النور والحقيقة”.

وهنا يتحول النص إلى تأمل اجتماعي نقدي، حيث يُسقط الكاتب تجربة الطفل الخائف على مجتمع يخاف النور والتنوير، ويعشق الظلام لأنه يمنحه أماناً زائفاً.

المستوى الجمالي والأسلوبي

1. اللغة: لغة شاعرية موحية، تجمع بين البساطة في السرد وقوة التصوير. استخدام التشبيهات الاستعارية القوية (الدرج كثعبان، الوعي كلزج كالصمغ، المرأة كنسمة بحر).

2. البناء: النص مقسم إلى مقاطع واضحة:

المقطع الأول: استدعاء ذاكرة الخوف.
المقطع الثاني: انتقالة تأملية فلسفية.
المقطع الثالث: العودة إلى سرد حادثة “الجنية” التي تجسد المفارقة بين الوهم والحقيقة.

3. التناص: الإشارة إلى كتاب “شمس المعارف” الشهير في علم السحر والجن يعطي النص مصداقية ويربطه بالتراث الشعبي.

الشمول
والنص هو رحلة من الخوف الميتافيزيقي (الجن) إلى الخوف الواقعي (الحقيقة، الفقر، النظام).

والحكاية الشخصية عن “الجنية” هي مجرد مدخل لقراءة حالة إنسانية واجتماعية أوسع.

اللغة والأسلوب
الكاتب يستخدم لغة ذات كثافة شعرية وثراء بصري، حيث تمتزج الواقعية بالحلمية.

الجمل الأولى تعتمد على الوصف الحسي والذاكرة الطفولية (“درج كالحيّة السوداء”، “كوّتين صغيرتين”)، ما يمنح النص صدقاً عاطفياً.

أما المقطع الأوسط، فيتخذ نبرة فلسفية ومجازية، أقرب إلى الخطاب الفكري منه إلى السرد، وكأنه مناجاة داخلية.

ثم يعود في الختام إلى الدراما الواقعية المكثفة (مشهد الجنية)، لتتجسد الفكرة الكبرى في حدث بسيط لكنه رمزي بامتياز.

الخرافة حين تصير واقعا
وفي مشهد “الجنية التي تعشق الأب”، تتجلى ذروة الرمزية:
الجنية الأنثى ليست مجرد مخلوق غريب، بل تمثل الفتنة والمجهول والرغبة والتمرد على العرف والخوف.
أما الأب، فصيرورته من راوٍ للحكايات إلى “موضوع للحكاية” يكشف انقلاب الأدوار، وكأن الخرافة صارت واقعاً، أو أن الخيال اقتحم الحياة نفسها.

المستوى الفردي:
يحكي النص عن صراع الإنسان مع مخاوفه، التي تبدأ خيالية ثم تتحول إلى مخاوف وجودية واجتماعية مع تقدم العمر.

البعد الاجتماعي والسياسي

بعد الحكاية، ينفجر النص في وجه الواقع:

من خوف الطفولة إلى خوف الشعوب من الحقيقة.

من “الجنّ” الذين يختبئون في الظلام إلى الطغاة والفساد الذين يعيشون في النور المزيف.

من “عشق الجنية” إلى كراهية الحرب.

يتحوّل السرد فجأة إلى نبرة احتجاج:

> “نحن لا نجحد نعمة، ولكننا نحتج بمرارة من يحمل نعشه وتطلع روحه…”

هذا الانتقال من الحكاية إلى الخطاب الإنساني والسياسي يوسّع دلالة النص:
فالكاتب يرى أن العشق فعل مقاومة للحرب، وأن الإنسان الذي يحبّ هو إنسان لا يمكن أن يقتل.
بهذا المعنى، يصبح النص بياناً ضد الحرب باسم الحب، وصرخة ضد واقعٍ عربي يغتال الحياة باسم المقدّس.

الرموز والدلالات
الجن / الجنية تجسيد للخوف، وللقوة الغامضة التي تحكم وعي المجتمع؛ كما تمثل الأنثى المجهولة والمحرّمة.
الظلام الجهل، الخرافة، الاستكانة، والماضي المتجذر في اللاوعي الجمعي.

النور الحقيقة، الوعي، التنوير، هو ما يُخيف المجتمع لأنه يفضح العيوب.

الأب السلطة الأبوية / السياسية / الرمزية التي تتحول من الحامي إلى الضعيف أمام المجهول (الجنية / الأنثى / الحقيقة).

الدرج الطريق بين العتمة والنور، بين الأعلى والأسفل، وهو مجاز لمسار الوعي ذاته.

القراءة الفكرية
النص في عمقه نقد ثقافي للمجتمع العربي واليمني تحديداً:
فالخوف من الجن ليس سوى صورة مكثفة للخوف من التغيير والوعي والنور.
والاطمئنان إلى “الظلام” هو سلوك جمعي يُنتج الاستبداد ويغذي الجهل.

أما “الجنية” فهي رمز لكل ما يُخفيه المجتمع تحت عباءة العيب والمحرم، من الأنوثة والرغبة والحرية والفكر.
هكذا يتجاوز النص طفولة الكاتب ليكشف طفولة الوعي الجمعي الذي ما زال يعيش في ظلال الأسطورة.

البنية النفسية:
النص يعبّر عن رحلة تطور الوعي من اللاوعي الطفولي (الخوف من الجن)، إلى الوعي الاجتماعي (الخوف من النور، وكذلك إلى الوعي النقدي (مواجهة الذات والمجتمع)

إن هذه الرحلة النفسية تذكّرنا بنظريات فرويد حول تكوين الرعب كجزء من تشكيل الذات، إذ يصبح “الجن” هنا رمزاً للمكبوت والمقموع داخل النفس والمجتمع.

خلاص إنساني

في خاتمة النص، يعلن الكاتب بوضوح فلسفته:

> “أوقفوا الحرب.. دعونا نعيش.. دعونا نحب ونعشق؛ فجريرة العشق مهما أوغلت تظل دون الحرب بمليون ضعف.”

العشق هنا ليس مجرد عاطفة، بل فعل خلاص ومقاومة ضد القبح والدمار.
هو النور الذي يجب أن نجرؤ على النظر إليه، حتى لو أحرقنا.
أما الحرب فهي العتمة الكبرى التي تبتلع كل شيء، وتحوّل الإنسان إلى “شبح بلا حبّ”.

المفارقة الكبرى
والعنوان “جنّية تعشق أبي!!” يلخص المفارقة الكبرى في النص، وهي أن مصدر الرعب الأكبر في طفولة الكاتب لم يكن سوى تعبير عن مشاعر إنسانية بحتة (الحب والعشق)، وأن الخوف الحقيقي لا يكمن في الكائنات الخفية، بل في عيوبنا المجتمعية وفي هروبنا الدائم من مواجهة أنفسنا وحقيقتنا.

وفي المجمل فإن نص “جنية تعشق أبي” ليست حكاية عن الجن، بل عن الإنسان الذي يخاف من ذاته، والمجتمع الذي يخاف من الحقيقة.
وهو مؤشر عن التحوّل من الخرافة إلى الوعي، من الطفولة إلى النضج، ومن الظلام إلى النور — وإن كان هذا النور نفسه مرعباً لمن ألفوا العتمة.

مزج الحس الجمالي بالتفكير النقدي
ويمكن القول إن النص يمثل مختبراً صغيراً لفكر أحمد سيف حاشد الإنساني والسياسي، حيث يمتزج الحس الجمالي بالتفكير النقدي، ويصبح الأدب وسيلة لمساءلة الذات والمجتمع معا.

المعنى والدلالة

الظلام والجنّ رموز للجهل والخوف الطفولي والواقعي
والجنية العاشقة رمز للحرية والأنوثة والعشق النقي المتحدي
اما الطفل والرجل والعاشق والاحتجاج فهي مراحل تطوّر الوعي الإنساني. 

والنص في لغته وصوره مشبع بالدهشة، التي تجمع الواقعي بالأسطوري. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى