مذكرات

أكْل التراب .. أحمد سيف حاشد

مذكراتي.. أكْل التراب.. أحمد سيف حاشد

(8)

أكْل التراب

أحمد سيف حاشد

كان يشاركني بأكلَ التراب في صِغَري ابن عمّي (سالم أحمد محمد هاشم)، والذي يكبرُني بعشرة أشهر تقريبا.. شهيتنا لأكل التراب تعود إلى سوء تّغذية عشناهُ معاً.. التغذية السيئة كانت بعض منّا.. رافقت طفولتنا البائسة يوما بيوم، وأدركت بعض من مراهقتي وشبابي الأول.. لطالما أعيتني، وأثقلت كاهلي، ولازمتني حتى بداية التحاقي في الكلية العسكرية..

مرت عقود طوال دون أن أعلم حقيقة دافعي لأكل التراب في طفولتي الباكرة تلك، غير طعمه المستساغ واللذيذ، واستمتاعي به حال تعاطيه.. ربما أرجعت تلك الحالة أو بعضها إلى صغر السن وإنعدام فهم الضرر، أو عدم القدرة على التمييز.. وربما أرجعت بعضها إلى عناد الصبية وردود أفعالهم حيال العقاب، أو بدافع الجهل والفضول الذي حوله المنع إلى اجترار واعتياد لا يخلو من لذة ومتعة..

لقد كانت خلوتي مع التراب ممتعة جدا، ولكنها لا تخلوا من عقاب أكيد حتى وإن تأخر أحيانا.. كان بقايا التراب المعجون بلعابي  في فمي ومحيطه يفضح فعلتي دون مواربة.. وبعد أكثر من خمسين عام قرأت أن سبب أكل الطفل للتراب يرجع إلى نقصِ مادةِ الحديد في جسمه..

تأكل التُّراب بسبب سوءِ التّغذية، ونقصِ عُنصرِ الحديد الّذي يحتاج له بدنُك، ثم تُعاقَبُ بالضرب لسببٍ خارجٍ عن إرادتك، وربّما تُضربُ بالحديد لأنّ جسمك ينقصه عنصرُ الحديد، ويلحقك مزيدا من العذاب، وتسكنك العُقد، وتظل تكبر داخلك وأعماق نفسك في الوعي واللاوعي، وربما تشهد اضطرابات وانحرافات سلوكية لاحقة تضر بك وبغيرك، وتغيب عدالة الأرض عنك، وتتأخر عدالة السماء إلى “يوم الحساب”.

لقد أكلتُ التراب في عمر الطفولة الأولى.. كنتُ ضحيةً لظروفي منذ نعومة أظافري.. ضحية للسلطة، والجهل، والقمع، والتنشئة الخاطئة.. ضحية الفقر والحاجة والعوز.. ضحية الواقع الذي تشاركت كثير من العوامل في إنتاجه وصناعته..

غير أن ما يؤسف له اليوم، وأنا أعيش عقدي الخامس أو أرحل منه نحو الستين أن هناك من يريد بل ويصرُّ أن يُبقيني أسير عوزي وحاجتي.. من يريدني أن أكلُ التراب بقية حياتي.. من يريد أن أعيش ضحيةً إلى آخر العمر، مهموما بنفسي، وغارقا في تفاصيل حياتي اليوميَّة، ومثقلا بمعاناتي الثقيلة..

هنا من يريدني أنا وغيري أن نظل مشغولين عن فساد السُّلطة وانتهاكاتها، والحيلولة دون الدفاع عن حقوق وحريات النَّاس، بل وأيضا يحاول قلع الأظافر الدامية التي تحاول الحفر في الصخر، وأكثر منه الذي يتمنَّى أن لا نستطيع حتى التنفُّس الذي يحسدونا وينفسونا عليه.. إنه عهد وحشي ما كان بحسبان..

***

في طفولتي الأولى كانت أمّي في الوقت الذي تضربني لأكلي التراب، أجدها في مناسبة أخرى تدعيني وعلى نحو لحوح لأكل التراب.. عجب ومفارقة وحيرة، وبينهن طفولة معذبة وبائسة، ومثقلة بالجهل والحرمان الأشد..

كانت أمّي تصحبُني معها في بعضِ الأيَّام، وهي تزور قبر جَدِّها “الشيخ حيى”، وكان يشمل المكان مقامه وغرفته، وقبتيه، وبعض الملاحق.. كانت أمي تحمل الشَّمع الّذي شرطته وأنذرته من أجلنا لجَدِّها، وتسرِّج بها ظلمته، فيما تضع بعض رُزَم الشّمع الغير مستخدم في كوّةِ الغرفةِ أو على حافةِ القبر؛ لمن يأتي في يوم آخر ليضيء ظلمة جدنا “الشيخ حي” وتفعل أمي مثل هذا أيضا، مع قبر ومقام جَدِّنا الشيخ أحمد القريب منه والذي كان قبره ربما بارتفاع ذراع في حجرة متواضعة، وسقف مستوي غير متوّج بقبة..

رأيت أمي تُسرِّج مقام جدنا “الشيخ حي” بالشَّمع والضَّوء، وهي تشعر بفرحة غامرة، وسعادة كبيرة لا تتسع لها.. ثمّ تمُدُّ يدها في كوَّةٍ موجودة على جدار القبر إلى الداخل، وتُخرجُ بعض فُتات التراب، وتأكلُ منه قليلا، وتعطيني قليلا منه لآكله.. كانت تحثُّني وتشجِّعُني على التهامه، لأنه – كما تعتقد- مكنوز بسرِّ جدّها الّذي جاء من حضرموت ليحطَّ به الرِّحال والأجل هنا، ربّما فقيها وعالما وصاحب “كرامات”..

ما زلت أذكر أمي وهي تشجعني وتحثني على أكل التراب، بل وتبدأ هي بالتهام بعضه.. تُلحُّ بإصرار أن ألتهم حصتي منه.. تحاكيني وهي تفعل لأفعل مثلها.. تطلب مني أن أفعل ما تفعله.. تفعل معي كما تفعل الأم مع طفلها وهي تُطعِمه بعد الفطام.. كانت تحاول إفهامي جاهدة – وأنا ألفَحُ التراب – أنني سأخرج من المكان وقد تزودتُ بشيء لم يكن موجودا حال الدخول إليه..

ورغم فقداني للذَّة التراب الذي كنت معتادا عليه، وأعاني من عقوبة التهامه، ورغم فقدان هذا التراب لنعومته، إلا أنّ روحانيّة المكان، وهيبته، وجلال المقام، و”كرامات” صاحبه بحسب روايات أمي، وما تفيده من محامد ومكارم جدها، وما يحمله من سرٍ جديرٍ بالاهتمام، أو هذا ما كانت أمي تلقّنني إياه حين ذاك، وترويه لي بثقة عالية ويقين لا يتزحزح..

كنت إذا تعرضت لمرضٍ أو مكروهٍ تدعو جدها “الشيخ حيى” وجدتها “جنوب” من جهة أمها، ومعهما جد أبي “الشيخ أحمد”، وتزيد أحيانا “أحمد ابن علوان” و”شاغث” أن يشفوني ويحيوني ويجنّبوني كل شر، ويزيلون عني كل مكروه..

كنت أظنُّ وأنا طفل أنّ هذا التراب الذي ألتهمه هو من بقايا عظام ورفات جد أمي، ولكن في مرحلة متأخرة أدركت أنه من فوق القبر، لا من جوفه، وأن رفاة جد أمي وبقاياه مازال مدفونا بعمق القبر والمكان.. ورغم اعتقاد أمي بالمفعول السحري لتراب جدها، إلا أنني لم أجد طعمه بلذاذة التراب الذي اعتدت أكله أو تعوّدت عليه، وكنت ألتهمه سرا وخِفَيةً عن أعين أمي..

ومثلما تُلحُّ أمي على أكل تراب جدها، كانت تفعل معي أيضا مع شرب الحليب.. ما أن أنتهي من شرب كمية منه، ترجوني بإلحاح وصوت خفيض على أن أزيد ” اشرب.. زيد اشرب.. زيد اشرب.. اشرب مليح .. اشرب يصح بدنك”.. وصوتها الخفيض كان كمن لا تريد أن يسمع أحد ما بيننا، وتظل تحاول وتحاول أن أشرب المزيد حتى تيأس من أن أعيد.. كانت تحبني أكثر من أبي، وتؤثرن عليه في كل شيء، حتى في الحليب الذي كان يتناوله كل مساء..

كانت أمي تمارس إلحاحها، وتحملني على شرب المزيد من حليب البقرة، فأشعر أنها تريدني أكبر وأقوى بسرعة.. تريدني أكبر وأشب قبل الأوان.. وربما شعرتُ وهي تُلحُّ إنها تريدني أن أكبر في الحال.. أمّا أكل التراب من على القبر، فكانت تعتقد أنها تودعني سرَّ جدها، وتقيني من كل مرض وشر ومكروه..

لم يكُنْ يُغريني حليبُ البقرة، بل كان حليب “النيدو” هو الذي أروقه ويروقني؛ ربما لأنه كان بعضا مني، وكان يسُدُّ حاجتي، عندما كان لا يكفيني ضرع أمي التي تعاني، وأنا ما زلت دون عمر السنتين.. وما زلت إلى اليوم أشتهي أن أكرعه في فمي بكميات كبيرة، كما كنت أفعل هذا في سنِّ الطفولةِ وسنِّ المدرسة، بل والمراهقة أيضا، حتى أبدو أمام نفسي شخصا غير طبيعي، وأنا العط فيه بنهم شره..

حالما كنت طفلا في السنة الأولى مدرسة على الأرجح، رأيت رؤيا، وفيها أنني أمَمْت النّاس بالصلاة في المقام، ورأيت “الشيخ حي” وأشياء أخرى، نسيت تفاصيلها، رغم أنّ الرُّؤيا كانت – يومها- كفَلقِ الصُّبح من حيث الوضوح والتفاصيل، بل كأنّها كانت حقيقة لا رؤيا..

أمي وأبي كانا مهتمَينِ على غير العادة بهذه الرّؤيا، ويطلبان أن أُعيدَ روايتها على مسامعهما، وأشاهد سرورا دافقا واهتماما لافتا منهما بما أرويه.. ربما فهموا من الرؤيا أنّها تتعلق بمستقبلي البعيد، غير مدركين أنّ المستقبل في اليمن سيكون للفساد والقتلة والمستبدين، بل والمعاتيه أيضا.. والأهم أنني طيلة هذا العمر المديد ظللت متماسكا أحذر السُّقوط، وأحذر من السُّقوط المُريع مرتين وألف..

              ***

 يتبع..

 

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة احمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة احمد سيف حاشد على التليجرام

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى