(3)
احتجاج على الجوع
أحمد سيف حاشد
كثير ما يستفزني الفقر والجوع والظلم والفساد.. يستفزني الاستبداد بكل صنوفه حتى وإن لبس ثوب الأب أو المعلم أو القائد أو القديس أو الكاهن.. يستفزني أكثر غرور السلطة وعنادها وخواء التعالي والاستكبار في وجه الحق والعدالة التي أحلم بها وأهتم بأمرها.. لم اعتد الظلم لأهوّن منه أو أتصالح معه مهما طالت سنينه.. لا أتسامح مع الظلم وأنا المجبول على النسيان، حتى يتم كسره أو اسقاطه أو التحرر من ربقته..
روحي لا تهدأ ولا تستكين، وتظل دوما متحفزة للتململ والتمرد والثورة.. مسكونا على الدوام بالقلق وعدم الرضى، حتى وإن لذتُ بالصمتِ قليلا، أو شعرت بخذلان مُحبط إلى حين، أو تعاميتُ مرغما عن الحق لبعض الوقت، أو حتى تواطأت لأسباب تخصني، فإنني أعيش صراعاً داخلياً أقوى وأكثر احتداما مع ضميري، وتأنيب ضميري يظل يرفسني من الداخل كحمار وحشي، حتى أعود إلى الصواب أو الصحيح ما أمكن..
ربما هذه الروح الغير قطيعيه هي من كانت السبب في استبعادي من فرص متاحة أغتنمها غيري، وأهدرتها أنا بوعي وقناعة وزُهد، لأنني اعتبرتها في حقيقتها بل ولازلت، مجرد مصائدا ومكائدا ومعتقلا للاستعباد لا فكاك منه ولا مفر..
أشعر أحيانا بالتعب والضنك، ولكن ما أن أستريح قليلا أو استرجع الأنفاس حتى أعاود الكرّة مرتين وثلاث.. أعود إلى إعلان الرفض، وفعل التمرد، والمقاومة حتى تستقيم الأمور، أو تنتهي إلى زوال..
أخوض مع الواقع صراعا صبوراً كـ “سيزيف” رمز العذاب الأبدي مع الصخرة، أو كأبليس الذي شق عصا الجماعة، وعصي ربه منفردا وشاذا؛ لإنفاذ مشيئة الرب، مقدما إياها على أنانيته.. أحاول أن أوصل صوتي المضطهد إلى أقصى مدى ممكن، حتى وإن أكلته الدود، فأنني على الدوام أحاول أن أجد نفسي مصطفا مع المضطهدين في قضاياهم العادلة، وفي مقاومة من يصنع ذلك الظلم والاضطهاد، بل والاستعباد أي كان صاحبه..
ربما أبدو قلقا على الدوام، وغير راضي على سير الأمور والأحوال، بل وربما ساخطا على هذا العالم الدامي، ونظامه المرتكز على الظلم والاستغلال، وثائرا في وجه الأقدار التي أشعر إنها غير عادلة.. كل ذلك أدركته اليوم مليا، وما كنت أدركه فيما خلا، وكانت البداية في أول احتجاج أشارك فيه حالما كنت مراهقا، أو في مطلع الشباب الباكر..
***
في مدرسة “البروليتاريا” وبسبب الجوع، واحتجاجا على غياب التحسين في وجبات الغذاء، وانقطاع الكهرباء، أضرب عدد كبير من الطلاب عن الدراسة، وكنت واحدا منهم..
امتنعنا عن الدراسة، وخرجنا للرصيف نحتج على رداءة الغذاء والمطالبة بتحسينه.. قطعنا الطريق بين لحج وعدن بالحجارة ومنعنا عبور السيارات، وهو عمل جريء في ذلك العهد، بل وشديد الحساسية؛ لأن أي عمل أو احتجاج من هذا القبيل، كان يصنّف باعتباره ثورة مضادة، ويذهب بعض السياسيين إلى تفسيره بأكثر الاحتمالات سوء، وبأسباب يفترضوها فوق ما نطيق ونحتمل، غير أن وجود طلاب محتجين من الضالع وردفان والصبيحة درأ عنّا كثير من تلك الاحتمالات والافتراضات ومنعت عنّا عواقبه.
كثيرون هم الطلاب الذين التزموا الاحتجاج وامتنعوا عن الذهاب إلى الصفوف الدراسية، وبعضهم وهن بعد يوم أو بضع يوم، وبعضهم آثروا السلامة، وتحاشوا المشاركة في هذا العمل الاحتجاجي شديد الندرة والوقوع، إن لم يكن الغير مسبوق..
زميلي أحمد مسعد الشعيبي يصف ما حدث بأول انتفاضه طلابية عفوية ضد الحرمان من الحقوق الطبيعية المتمثلة بالمأكل والمسكن… وقد اطلق شررها انقطاع التيار الكهربائي بسبب عدم سداد إدارة التربية فاتورة استهلاك الكهرباء، وقد انطلق الطلاب إلى الخط العام قاطعين للطريق العام التي تربط محافظة لحج بمحافظة عدن..
كان الطلاب من أبناء الضالع في المدرسة هم طليعة المحتجين.. كنت معجباً بأولئك “المجانين” الذين رفضوا الظلام، ونازلوا الجوع، وتحدوا عواقبه..
كنت أنظر لغير المحتجين نظرة سخط وازدراء، وأسأل نفسي: لماذا هؤلاء يتلبسهم الخوف ويركبهم الخذلان، ولا يسخطون على الجوع والقائمين عليه؟!!
أعجبتُ بالطلاب الذين يجرؤون على الاحتجاج، ويحاولون أن يصلوا بصوت الجوع إلى أكبر مسؤول في البلاد..
كان المسؤولون في المحافظة ولاسيما في التربية والتعليم الذين تتبع المدرسة مسؤوليتهم هلعين من انعكاسات وتأثير تلك الاحتجاجات عليهم، وعلى مناصبهم ووظائفهم..
نزل المسؤولون عن التربية والتعليم في المحافظة ليجتمعوا بالطلاب ويسمعوا مطالب المحتجين ومناقشتهم فيها بعد فشلهم في إرعابهم وثنيهم عن مواصلة الاحتجاج، وإرجاعهم إلى فصولهم الدراسية.
لم نهدأ ولم نكف عن الاحتجاج الا بعد حضور علي عنتر والذي نجح في تهديتنا عندما قال: “تروحوا أسبوع وترجعوا على اكل حسين ونظيف” وأمر بتحضير ناقلات “بوابير” لنقل الراغبين من المحتجين والمتذمرين كلاً الى مديريته والعودة إلى أسرهم في إجازة قصيرة، ريثما يتم تدبّر الأمور، وتحقيق مطالب المحتجين..
العمل الاحتجاجي من هذا النوع وضد السلطة الثورية أو هكذا يفهم مثل هذا النوع من الاحتجاج وفي تلك الفترة شديدة الحساسية كان عمل جريء ومقدام بكل المقاييس..
أن يندلع عمل احتجاجي في مدرسة تحمل اسم عظيم في دولة تدّعي أنها تتبني نظرية الاشتراكية العلمية وتعمل من أجل إقامة دولة “البروليتاريا” عمل ربما يكشف هشاشة بعض من ذلك الادعاء.
أسفر هذا الاحتجاج عن نتائج تحسين ملحوظة في التغذية والنظافة والتنظيم واستعادة الكهرباء المقطوعة.. وكان هذا العمل هو أول احتجاجي أشارك فيه.
***
يتبع..
صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك