(2)
جوع !
أحمد سيف حاشد
رغم وجود قسم داخلي في المدرسة، وعنابر سكن لجميع طلابها إلا إن الغذاء كان رديئا، ويفتقد للتحسين، بالإضافة إلى أنه كان قليلا، ولا يشبع بطوننا، وأعداد الطلاب بالمئات، وبعضهم لا يلحق وجبته المقررة، بسبب نفاذ كمية الغذاء المطبوخة قبل الانتهاء من توزيع الوجبة لآخر طالب فيهم..
كان طابور الحصول على الوجبة طويلا، ويشهد أحيانا عراكا بين بعض الطلبة بسبب الزحام أو محاولة بعضهم التقدم بتجاوز مواقعهم في طوابير الغذاء.. كنت في بعض الأحيان عندما لا ألحق وجبة العشاء أضطر للذهاب لأشجار (الديمن) المحيطة بالمدرسة لأسُّد بها رمقي من الجوع، وأحيانا كان معي صديقي الخلوق والمتصالح مع نفسه محمد عبد الملك حسين، الذي لدي معه ذكريات لا تُنسى، سأتطرق لبعضها لاحقا..
كنت أحيانا أذهب إلى مزرعة مجاورة تابعة للدولة، للمذاكرة تحت ظلال أشجارها الوارفة، وننتزع خلسة بعض حبات الليم لنستخدمها على الفاصوليا، وتعطينا شهية مضاعفة، فيما كان الأكل قليل، وكان القليل يصير بالليم لذيذ، نكمل الوجبة المقررة، ونجدها لا تسد نصف ما تحتاجه بطوننا..
في السنة الأولى جئنا في موسم زراعة أشجار الجلجل، وكنّا نجوع في الليل عندما تتطاول ساعاته الثقيلة علينا، وعلى بطوننا الخاوية التي يأكلها نهم الجوع المفترس.. كان ينفذ صبرنا ونحن لا نملك ما نخادع به بطوننا التي كانت تعرفنا جيداً، وتحتج علينا، وتصرخ في وجوهنا بصرخات ولسعات الجوع، فيما التصحّر كان يحيط بنا، إلا من مزرعة تقع على مدى عشرين دقيقة نقطعها سيرا على الأقدام..
كانت خيمات السمسم المجفف تمتد لمساحات لم نعتاد نحن الصغار رؤية مثلها، وكنا أشبه بالعصافير التي تشبع حواصلها الصغيرة من جنيها الكثير، أو نقلل من فاقة تشتد علينا، وتسرق نومنا في الليل، وترهقنا طول النهار..
لم تكن المزرعة مسيجة أو مشبكة، وحرزها مفتوح، وكان الأمان أمان، وما نجنيه نحن لا يستحق الذكر، بل لا يزيد عما يرمق جوعنا، ويخفف من رعشة اليدين، وتمنح أرجلنا المخذولة بالجوع بعض الصمود والمقاومة؛ فهل كنّا يومها لصوص؟! أم كان بعض من تمرد مشروع ؟! أم هي ضرورة الجوع الملجئة؟!
بين السوية والإجرام شعرة أحيانا تتماهى مع ما حولها، حتى نكاد لا نراها أو لا نميزها مع من حولها، وتلتبس علينا أحيانا كما التبست الجريمة مع غيرها لدى “راسكولينكوف” بطل رواية الجريمة والعقاب، للروائي الروسي ديستويفسكي، مع فارق أن دافعنا كان أشد، وجريمتنا أقل إن اعتبرناها جريمة.. ومع ذلك أسأل نفسي بعد عقود خلت: هل كنّا أسويا أم مجرمين؟!
ما كنّا نفعله يشبه في الطريقة ما يفعله اللصوص، ولكن ما كنّا لنفعل إلا بدافع نراه بحجم الضرورة.. ثم ألم يقولوا إن “الجوع كافر”.. ألم يقل بعضهم “لو كان الفقر رجلا لقتلته”، فماذا وقد اجتمعا علينا الاثنان..!!
الجوع أشد وطأة من الكفر.. وربما الكفر في الواقع غير ما يراه الكثيرون!! فقد أسمى بعضهم بعضه بـ”الكفر الحلو” وآخرين قالوا عن بعضه “كفر نعمة” و”النعمة” هنا لازال فيها نظر.. هناك تعدد في الكفر دون الكفر البواح، والكفر البواح له رب يعاقب صاحبه..
لماذا قضايا الجوع والفقر رغم طغيانها واتساعها المستمر لا تحتل في وعي الذين يصنعونها نفس القدر والمستوى والاتساع من الأهمية كما هي في الواقع فعلا؟! لماذا هذا الاختلال الذي يصيب الوعي، فيتم التصدّي لهذا الطغيان الجائح للجوع بمعونات قليلة ومهينة، يسترجع أصحابها ثمنها بأضعافها بألف وسيلة وطريق؟!
لماذا نُخب الدين والجماعات تزيّف الوعي والمفاهيم، وتحرف القضايا، وتنحرف هي عن مسارات العدالة، رغم أنها ترى بأم عينيها الفقر والجوع ومجاعات العالم، ومعه كل هذا الطغيان. والأكثر سوءا تريد أن تناهض وتكافح كل ذلك بما تسميه زكاة أو “صدقة”..
لماذا الجماعات الدينية والسياسية في اليمن تتخلى عن شعبها المنكوب بها وبالحرب؟! لماذا تتخلى عن مسؤولياتها الاخلاقية، والتزاماتها القانونية باعتبارها سلطات أمر واقع، والتي تملي عليها واجب المسؤولية كل بحسب ما تحت سلطتها من سكان ومجتمع؟!
من أوجب الواجب دفع رواتب العاملين والموظفين في الجهاز الإداري للدولة، والمتقاعدين أيضا، والمستفيدين من الضمان الاجتماعي، وكل من يطولهم الجوع وتفتك فيهم المجاعة في حرب أوغلت بشاعتها، ولا يريدون لها وضع أوزارها، بل يريدونها أن تستمر وتستديم..
الأكثر وقاحة أن تلك الجماعات كانت دينية أو سياسية أو كلاهما معا، باتت تتخلى عن كل وظائف الدولة تقريبا، وتتجه بعزم وإصرار إلى الإيغال المريع في سياسة النهب والفساد وصب جل الاهتمام نحو الجبايات والإتاوات ومضاعفة الضرائب وممارسة إذلال شعبها وهدر كل ما هو من صميم حقوقه وكرامته..
يتاجرون بالوطن والدم، ويوغلون في النهب والفساد ويتسولون الغذاء من دول العالم، ثم يحاولون التكسّب والتربُّح من هذا التسول دون خجل، وأكثر منه يتحدثون بعجرفة ووقاحة عن العزّة والكرامة والقيم والشّيم والأخلاق الحميدة..
***
يتبع..
صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك