(4)
خارج المقرر المدرسي
أحمد سيف حاشد
في الصف الثاني ثانوي تم تخصيص عشرة دينار شهريا مساعدة لأبناء الشمال (الجبهة الوطنية).. كنت انتظرها بفارغ الصبر نهاية كل شهر، وأشتري بعض الكتيبات، وكان الكتاب يومها مدعوما من الدولة، نشتريه بأسعار زهيدة ورخيصة.. كما كنتُ أصرف بعض منها عندما أجوع كل ليلة بشراء البسكويت والشاي من محمد حيدرة الذي كان لديه حانوت صغير في بوابة المدرسة من الداخل..
كانت وجبة الشاي والبسكويت وجبة لذيذة وشهية تخفف من وطأة الجوع، حتى صرنا رفقة في غلس الليل نواجه فيه الجوع.. لازلتُ إلى اليوم أشتهيها في بعض الأحيان، وأتذكر من خلالها أيام خلت وانقضت، ويفعلها اليوم رفيقي نبيل الحسام حين يجوع أو يدعم معدته على الصمود في وجه الجوع أو يخفف من وطأته عليه، ويعزمني على بعض منها وأنا أكابر، وحنيني إليها متوثب وجارف..
حبة السمسم باتت تحن علينا من جوع يحمل أصحابها أنفس هنيئة مهما كان العبء كبيرا والأحمال ثقال.. ما أجمل الفقراء الذين عرفتهم، وما أغناهم وأنبلهم وأهناهم على بعضهم.. ما أجمل صحبتهم ورفقتهم وهم يشمخون برؤوسهم في العنان رافضين الاستكانة والخضوع.. ينازلون الجوع بالكبرياء المعهود، وبعزة نفس تبلغ السماء طولا.. يقاومون الإذلال والتفاهة والانحطاط، بتفان فذ، واستبسال المنتحر..
***
في مدرسة “البروليتاريا” كانت لدي إذاعة صغيرة أتابع من خلالها الأخبار ليلا وفيه السماع أقل وشيشا.. كنت حريصا على سماع نشرة وتقارير إذاعة “مونتي كارلو” الساعة الثامنة مساء، والتي تستمر نصف ساعة، ثم اتابع ما يليها حتى إذا جاءت الساعة التاسعة، انتقل إلى متابعة نشرة إذاعة bbc من لندن، ثم برنامج مقتطفات من أقوال الصحف، ولا أنتهي حتى أسمع برنامج “السياسية بين السائل والمجيب” الذي ينتهي في تمام الساعة العاشرة ليلا..
ساعتان يوميا دون انقطاع كنت أقضيها في ردهات الأخبار والتقارير وأقوال الصحف، والسياسية عموما، فإن حدث مستجد مهم قضيت وقت أطول في المتابعة، وسماع محطات أخرى متنوعة مهتمة بذلك الشأن أو الحدث.. لا أذكر إن ليلة فاتتني دون أن أقضي أقل من ساعتين في سماع الإذاعة باشتياق وشغف سياسي ومعرفي..
لقد كان هذا جزء من برنامجي اليومي المعتاد، والحريص عليه أثناء دراستي الثانوية، في مدرسة “البروليتاريا”.. كانت تلك المتابعة تشعرني بزخم الحياة، وتطورات الأحداث، وما للشأن العام من أهمية في حياتنا وتوجهات دول العالم دون أن أغفل محذور ما هو كاذب ومظلل، وكان تنوع المصادر والمقارنات فيما بينها يساعدنا إلى حد ما في معرفة الحق من الباطل والمُظلل..
***
كنت أتطلّع للمعرفة وأشغف بها، وأقرأ الصحف عندما أجدها، وكذا بعض الكُتب، حتى ما كان منها عصيا على الفهم بالنسبة لمستواي المعرفي المتواضع، ولكنني كنت أحاول فهمها، وكأنها جزء من المقرر الدراسي.
اذكر أنني في صف الثاني ثانوي فاجئني وثار في وجهي أحد اساتذة دار المعلمين لمجرد أنه شاهدني قرب بوابة المدرسة وأنا أقرأ كتاب لإنجلس (أصل العائلة)، وعنَّفني كون هذا يصعب فهمه حتى على خريجي الجامعة، وأن مطالعتي لهذا يأتي على حساب مذاكرة دروسي..
كان واضحا أن هذا الاستاذ متخفف إلى حد بعيد من الايديولوجيا ومحدداتها الصارمة، وأظن ان اصوله كانت هندية أو باكستانية، وهو ما قدّرته من خلال سحنته وملامحه.. أما أنا فكنت أحترم المعرفة من أي باب أو مصدر تأتي.
هذا الزجر لم يمنعنِ من القراءة خارج المقرر الدراسي، بل جعلني اقرأ أكثر خارج المناهج والمساقات الدراسية، دون أن يؤثر ذلك سلبيا على الاهتمام بدروسي التي كنتُ اعطيها القدر الأوفر من الوقت والاهتمام، ولكن أحيانا كانت معاناتي وشغف المعرفة يحملاني على القراءة خارج المقرر الدراسي، كما كان لأستاذنا السوري الجليل والضليع في الأدب واللغة العربية حسن بشماف الذي يتحدث العربية الفصحى في الدرس وخارجه وتمكنه من اساليب التدريس في مادته جعل الأدب العربي في عيوننا جميلا ويستحق مزيدا من الإيغال في القراءة والمعرفة خارج المقرر المدرسي، ولا أنسى بعض تمرد وتجاوز على ما هو مقرر ومعتاد ..
أذكر أنني كنت أقرأ وأطالع في الشعر القديم من ديوان عنتره، وكذا شعر المعلقات، والشعراء الصعاليك، وكتب الأدب في العصر الوسيطـ وفيها بعض القصائد والشروحات الممتعة، وكنت أمعن في قراءة الكلمة ومعناها في الحاشية أسفل الصفحة لأتمكن من فهم القصيدة أو أبيات الشعر المستعصي علي ّفهمها..
إجمالا كانت القراءة خارج المناهج الدراسية الأساس لتوسيع مداركي المعرفية، بل والتفوق لاحقا في الدراسة، ومغادرة دائرة ومواطن بعض الضعف المدرسي الذي ربما أحسستُ أو عشت بعض منه..
***
وفي الفن الغنائي كان يعجبني الاستماع إلى بعض أغاني طه فارع وحسن عطا وكان هذا الأخير يعمل عميدا لدار المعلمين في نفس المدرسة التي أدرس فيها، كما كانت تعجبني بعض أغاني الفنانين عبدالباسط وأيوب طارش عبسي.. غير أن زميلي عبدالحكيم من منطقة “معبق” على الأرجح كان يعجبه عبدالحليم حافظ وأم كلثوم حد الإدمان والذوبان..
كنت أستغرب لذوقه لأنني لا أفهم كلمات الأغاني ولا استسيغ لحنها، ولا يطربني إيقاعها، بل كنت أشعر بالإنزعاج والضيق منها.. ولطالما أستغربتُ من أذواق بعض الناس الذي يعجبهم ذلك الفن الذي أستصعب سماعه، ومنهم عمي فريد الذي كانت تعجبه أغاني أم كلثوم..
ولكن بعد فترة وجدتُ نفسي أميل إلى بعض أغاني عبدالحليم وأم كلثوم، وقد أعجبتني أغنية “لا تكذبي” التي غناها الفنان عبد الحليم حافظ ورددتها كثيرا مع صوته بإنسجام وإدنماج وبمحاكاة لتجربة حب فاشلة عشتها يوما، وكان زميلي عبدالحكيم قد شرح لي نص وكلمات القصيدة ورردها على مسامعي حتى حفظتُها، ومن كلماتها التي أستحوذت على وجداني:
لا تكذبي إني رأيتكما معا.. ودع البكاء فلقد كرهت الادمعي
ما أهون الدمع الجسور إذا جرى.. من عين كاذبة فأنكر وأدعى
إني رأيتكما.. إني سمعتكما.. عيناك فى عينيه.. فى شفتيه.. فى كفيه.. فى قدميه
إلى أن يقول:
ماذا أقول لأدمع سفحتها أشواقي إليك.. ماذا أقول لأضلع مزقتها خوفا عليك
أأقول هانت؟.. أأقول خانت.. أأقولها؟.. لو قلتها أشفي غليلي.. يا ويلتي..
لا، لن أقول أنا، فقولي ..
لا تخجلي.. لاتفزعي مني فلست بثائر.. أنقذتني من زيف أحلامي وغدر مشاعري
فرأيت أنك كنتِ لي قيدا حرصت العمر الا أكسره.. فكسرته
ورأيت أنك كنت لي ذنبا سألت الله الا يغفره.. فغفرته
***
يتبع..
صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك