مذكرات

(3) في وجه العنصرية أعتز بعمل أبي! أحمد سيف حاشد

مذكراتي.. بعض من تفاصيل حياتي.. في وجه العنصرية

(3)

في وجه العنصرية

أحمد سيف حاشد

  بعد انقطاعٍ طال بين أبي ومهنته السابقة، عاد إليها مرة أخرى مضطرا، بعد أن ألجأته إليها مسيس الحاجة والعوَز، وبعد أن نفذ ما يملك ويدّخر من مال، وتشرُّدٍ طال لسنوات، على إثر مقتل أخي علي سيف حاشد في القرية، ومُلاحقة والدي من قِبَلِ سلطة صنعاء في ذلك الحين، والّتي كانت تسعى لاعتقاله دون أن يقترف أيّ جريمة، وأكثر من هذا أنّه لم يمارس السياسة بأيِّ وجه، ولا يوجد لديه أيُّ انتماءٍ سياسي، غير أنّه أب لأخي علي، وحمله لحزن ثقيل أناخ على كاهله إثر مقتله.

 

استمرّ أبي بهذا العملِ للمرّة الثانيةِ “تفنيد الجلود” قُرابةَ السنتين أو أكثر، في بخَّارٍ كائنٍ في حيّ “الخساف” بـ”كريتر” وذلك في ثمانينات القرن المنصرم، لدى صديقه الودود عبد الحميد، رغم استمرار معاناة والدي من نوبات السُّعال الليلي، الناتجةِ عن عمله السابقِ بنفس المهنةِ في شركة “البس”..

 

وعن مهنة والدي الّذي عاد إليها مرةً أخرى، يقولُ “عامر علي سلام فوز” الذي زامل والدي لفترة في العمل: ((كان سيف حاشد رجلا عصاميا، ولي الشُّرفُ في العملِ معه، في بخّار عبد الحميد في “الخساف”.. حيث كان والدي “علي سلام “يعمل سائقا عند عبد الحميد، فيما كنت أنا واخي في إجازة الصيف المدرسية نعمل أيضا في تفنيد الجلود.. كان يتمُّ جلبُ كلّ أنواع الجلود المملحة والجافة من الشيخ عثمان والشيخ الدويل الى البخّار، ونحن نستلمها في المستودع، حيث يقوم عمي سيف بتفنيدها (وهي عملية فرز مهمه جدا، وتحتاج لدراية وحنكة في تصنيف الجلود، وليس أيُّ كائن يستطيع أن يتعلمها، حيث تُقسّم الجلود الى نوعين، جلود الماعز (التِّيُوس)، وجلود الخرفان.. وبالتالي يعتمد المُفنِّد على فحصه لكل جلد إن كان درجة أولى او ثانية، او ثالثة، او رابعة.. ولكلّ درجةٍ لها تسميتُها.. صافي درجة أولى.. كشر درجة ثانية.. وأقلُّ من ذلك ثالثة ورابعة.. وبعد الفرز والعدِّ أيضا نقوم بإضافة السم مع المِلح المخلوط الى كل جلد، وعمل رصَّات خاصة لكل نوع في البخَّار الّذي كان يتسع لكميات كبيرة من الجلود.. وفي أثناء الطلب الخارجي نقوم بوزن الجلود على شكل بُنَدٍ كبيرةٍ، ندخلها في مكينة ضغط خاصّة برُزمِ الجلود، وربطها بإحكام، ونأتي بالجواني (تغليف كلّ بُندةٍ على حده) ووزنها ثانية للاطمئنان، ونكتب عليها بفرمات محددة اسم الدولة الّتي نصدّر الجلود إليها، او اسم الميناء..!! ومن ثَمّ تُحملُ الى الميناء، وتُشحن في السُّفن الى أوربا  (إيطاليا/ فرنسا/ وغيرها) ويتم مراسلة الشركات عبر مكتبٍ خاص، وكان التاجر عبد الحميد يتعامل معه)).

كان عملُ أبي في تفنيد الجلود هذه المرة مضطرا أكثر من المرة السابقة، وآثر والدي العمل في هذه المهنة التي يجيدها، أو كانت متأتية للعمل فيها، رغم تأثيرِها على مستوى صحته، أو بالأحرى على ما بقي لديه من صحة.. وبين العمل في بداية العمر وغاربه، عمر مديد وعمل كديد، وصحة تذوي، ولكنها تقاوم بعناد وصبر لا ينفذ..

  هكذا هم الفقراء يؤثرون العمل على الصحة، مهما كان الخطر عليها أو مهددا لها.. إنَّهم يؤثرون العمل على ما عداه، وإن كان فيه تراجعٌ أو تلاشٍ أكبر أو محتمل للصحة.. يموتون وهم يعملون بمثابرة من أجل أن يُعيلوا أسرهم بالرِّزق الحلال المندّى بعرق الجبين، ولو بما يفي بالحدِّ الأدنى من كرامتهم، وكرامة أسرهم المحرومة من الكثير، ودون أن يخطُر لهم بال، أو هاجس شيطان عابر، أو شيطان يجوس في الحِمى، ليمارس النَّهبَ أو القتل، أو حصد الغنيمة من تحت ظلال السيوف، أو يجني المال الوفير من مصدر مشبوه، أو عمل غير مشروع.. إنني أعترف لآبائنا.. لقد كان آباؤنا كبارا بحقّ وجدارة..

  عرفتُ أبي خلالَ مسيرةٍ حياته أنّه يقدِّس العمل، ويقدِّس مواعيده بدقَّةٍ حدَّ القلق، ويعمل بمثابرةٍ دون توانٍ أو كسل، ويبذل جُلَّ اهتمامه وعنايته في العمل، ويسعى بمثابرةٍ لتحقيقِ أكبر قدرٍ مُمكنٍ من الإنجاز.. وينام مُرهقا ولكنّه مستريح الضمير، ويقوم باكرا من فراشه، وبنشاط متجدِّد، ويقظةٍ وجذوة، تستمر معه طوال ساعات العمل..

في صنعاء خلال سنوات الحرب كتبت عن أبي الدبّاغ منشورا على صفحتي في “الفيسبوك” معتزا بمهنته، ولأول مرة عرفت من صديقي ورفيقي القاضي عبدالوهاب قطران أنّ مهنة دباغة الجلود لدى بعص مناطق وقبائل الشمال مهنة محتقرة، ويعتبرون أصحابها ناقصي أصل، مثلهم مثل المزاينة والحلاقين والجزارين، ومن في مستواهم، أو دونهم.. وزاد من الشعر بيتا كان منتشرا بين القبائل:

تجنَّبْ صحبةَ الأنذالِ تسلمْ                

مُزيِّن ثُمَّ حجَّام وجزَّار

وقشّامٌ ودوشانٌ ودبَّاغٌ وحائكْ

ومهنة “تفنيد الجلود” هي امتدادٌ لمهنة الدِّباغة، أو ذات صلة بها، كما تمّ إلحاق فئة الدبّاغين بفئة الجزارين استنادا إلى الصلة في المهنة، في إطار نظرة تراتبية اجتماعية تنضح بالعنصرية الفجة وعيا وممارسة.

عرفتُ شيئا آخر في أثناء حديثي مع زميلي ورفيقي في الكلية العسكرية “حسين” من الجوف، الَّذي ألتقيت به خلال فترة الحرب.. عرفت منه أنَّ البيع والشِّراء إلى تاريخ غير بعيد، كانت لدى بعض قبائل الجوف معيبة على من يمتهنها، وإنها – من وجهة نظر هؤلاء- مهنة غير مرغوبة، وغير محترمة، ويلحق العيبُ بمن يمارسها، وقد عمل أبي أيضا في هذه المهنة فترة طويلة..

هكذا يتم قلب المفاهيم والقيم رأسا على عقب، أو أنَّ منتجي تلك القيم هم المقلوبون على رؤوسهم، وبالتالي ينتجون مفاهيما وقيما خاطئة، وبعضها مقلوبة كوضعهم المقلوب، معتقدين سويِّتها واستقامتها، ليتحوَّل في نظرهم من يمارس العمل الشريف، ومن يأكل من عرق الجبين، مقذوفا بالعيب، ولعنات تلاحقه كقدر لا مفرَّ منه، هو وبنيه ومن تناسل منهم.. تدركهم اللعنة لتدمغهم بالعيب والانتقاص والاحتقار والازدراء العنصري الناتج في حقيقته عن تشوّه أو خواء عميق في الوعي، ومنطق سطحي رجعي متخلّف..

ويظل اعتزازي الكبير بعمل والدي، وبكل المهن الذي مارسها طيلة حياته، دون أن انتقص يوما من إنسانية أي فئة اجتماعية، بل أمقت التصنيف العنصري، وتراتبية الأصول التي تؤدي لحصر الأصول الناقصة واحتقارها، وأزدري الاصطفاء، وأرفض التفكير النمطي التقليدي القائم على تراتبية فيها احتقار الإنسان لأخيه الإنسان..

زدت اعتزازا بمهن والدي، ونظرت إليها من بُعدٍ آخر غير البعد الذي ينظر إليها بعض من يعانون عُقد النقص وخللا في الدماغ، وتشوّها في التربية والتنشئة الخاطئة.. في واقعٍ كهذا، أميل إلى تقدير أكثر نحو من ينبت في الصخر كشجرة التين الشوكي أو الصبّار أو شجرة السدر، وقد تحّدت كل الظروف الطاردة للحياة، وعاشت رغم قسوة الطبيعة، وشمخت متحديةً وباسقةٌ، بل وزادت تُزهرُ وتُثمر، في أعز الفصول ضيقا، وكأنِّ وجودَها المعاند، فيه حكمةٌ ومقاومةٌ، وتحدّي لوجع الطبيعة، وتشمخُ برأسها علوا، وتزهر أطرافها بألوان زاهية، وتعطي النحل والناس رحيق العسل..

أعتز أنَّني ابن هذا الأب المكافح، الَّذي أنتمي إليه، وصار ولده نائبا للشعب، ويمثله بما يليق به، وقد حرِصتُ وأنا أختار أنْ أكون لا منتمي، أو أكون نائبا برلمانيا مستقلا بحق وحقيقة.. صاحب رأي وموقف حر ومستقل، وأن يكون “الشَّريم شعاري” وأن يتكثف إعلاني ووعدي الانتخابي بعبارة “انتخبوا من يمثلكم لا من يمثّل بكم”.

أغلبُ الظنِّ أو كما أتخيل نفسي أنني لازلت حريصا ووفيَّا لهذا الشعب المنكوب بمن قادوه وتسلطوا عليه من أعالي القوم وأشرافه.. لازلت وفيا للعهد والوعد الذي قطعته يوما للوطن، وقد خان أسياد القوم شعبهم، وسقطت المنازل الرفيعة في القيعان السحيقة، وسيكنس التاريخ – يوما – أصحاب المراتب العالية إلى مزابله المنتنة، وكلَّ من جلبوا لهذا الشعب الكوارث العظام، ومارسوا بحقه الخيانات الكبار بتمادٍ بالغ، ومجاهرةٍ فجَّة وصارخة، وأتوا بالعار الذي لا يُمحى ولا يزول إلى اليمن بطولها وعرضها!!.. ليس حديث الأنا ولكنْ هو الاعتزاز، إنْ لم أعتز بهذا فما الذي بقي لأعتز به؟..

والخلاصةُ أنّني أمقتُ التّفكيرَ النّمطي، في التراتبيات الاجتماعية المتخلفة، أو القائمة على الأصل، أو الحسب والنسب، أو التفكير العنصري بكل مسمياته، وأرفض العصبيات المنتنة، وضخ الكراهية التي تستهدف الوطن في عُمقه ووحدته ومستقبله.. ولا بأسَ أنْ أقولَ هنا وفاءً لأبي: “كم أنت عظيما يا أبي!” .

 

يتبع..

***

القصة باللغة الانجليزية
The story is in English

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة احمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة احمد سيف حاشد على التليجرام

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى