مذكرات
(5) من أين ولدتُّ يا “أمّاه”؟!! أحمد سيف حاشد
مذكراتي.. من تفاصيل حياتي قسوة.. طفولة بطعم التمرد..
(5)
من أين ولدتُّ يا “أمّاه”؟!!
أحمد سيف حاشد
كنت أتساءل في المفارقات بتلقائية، وأحيانا أسأل بدافع فضول المعرفة، بصدد عالم لازال بالنسبة لي مجهولا تماما، أو غارقا في غموض شديد، ومُستصعب فهم أبجدياته وبديهياته، لطفل حديث السن مثلي، لازال يحاول تلمّس أعتاب المعرفة الأولى، وطرق أبوابها المغلقة بما أمكن من الأسئلة الباحثة عن إجابات، رغم موانع العيب والحرام التي تتصدى للأسئلة الوجودية القلقة، وفي مناطق لازالت محظورة أو ملغومة أو غير مسموحا بها.
اسئلة صارت الإجابة عليها، مُحفّزا لمزيد من الأسئلة المتوالدة أو المتكاثرة، والتي تكشف مزيد من المعرفة المستعصية لمثلي، وأحيانا أجد نفسي غارقا في حيرة ربما تنام أو تستكين لحين ثم تعاود طرح نفسها من جديد في أول حدث أو مناسبة مشابهة، بسبب عدم رضائي واقتناعي بالإجابات التي تبدو جاهزة، أو مغلوطة، أو تساورني الشكوك حيالها، أو حيال ما هو سائد من مفاهيم أظنها خاطئة أو كاذبة..
ربما تتذاكى أمي وابدو مقتنعا بعض الوقت بالإجابة، ولكن ما أن تتكرر الواقعة حتى يعود السؤال اكثر إلحاحا من سابقة، وتبدو الاجابة السابقة قد باتت في وعيي هشة أو اكثر واهنا مما كانت عليه..
كنت أحيانا أتمرد بالسؤال عمّا هو معتاد ومألوف، وأطرق باب المسكوت عنه، وأجتاز ما هو محظور، في واقع ثقيل بركام الماضي، وأثقال العيب، وسطوة الخوف، والزجر المعلن لمن يتعدّى على ما هو ممنوع..
كنت أسأل أمي أسئلة دون أن أعلم إنها ستضطر إلى الكذب في الإجابة عليها بمسمّى ومبرر العيب؟! كنت أسأل أمّي عن وجودي، وكيف خرجت من بطنها إلى واجهة الدنيا، ومن أي منفذ خرجت بالتحديد؟! وعندما تولد أمي وأرى أخي أو أختي الوليدة؛ أكرر السؤال اللحوح ذاته.. فيما كانت أمي في البداية تجيبني وهي تضحك أو تبتسم أننا خرجنا من ركبتها.. ثم تثير فضولي أكثر وأسألها كيف؟! والمولود أكبر من ركبتها؛ فربما أحتار وأتسأل أكثر!!
ربما تبدو إجابة أمي على السؤال غير مقنعة أو لم تمنحني الرضى، ولم تبدد حيرتي، بل وجدتُها تكبر وتتسع، ويظل السؤال عالقا في الذهن، وظل عقلي الصغير متحفزا لمعرفة الإجابة، بل وجدتُ إلتماع أسئلة أخرى، تتناسل كالضوء من إجابة أمي المعتمة..
ركبة أمي لا يوجد فيها منفذ يخرج منه أي شيء!! ولا أثر فيها يمكنه أن يكشف عن أمر أو مستجد منها خرج، فضلا أن ركبة أمي ليس فيها رضّ أو سحن أو جرح يدعم مزعمها.. لا أثر في ركبة أمي المتعافية لأي شيء يدعم جوابها المضحوك به على سؤالي!! ثم كيف يخرج ما هو أكبر من منفذ دونه، لا يتسع لخروج رأس المولود، فكيف بالمولود كله؟!!
كثير من الأسئلة لم تجب عليها أمي، أو اجابت عليها ولكن على نحو مغلوط أو متعمدة الكذب فيها، وظلّت معها الأسئلة من الداخل ترفسني بين حين وأخر، دون أن أجد إجابة تشفى سؤالي، وتبدد حيرتي التي تتسع..
كانت أمي تصر على إجابتها، ولا تتنازل عنها إلا بعد حين، وإلى ذلك الحين كان علي أن أستمر مركوض بذلك السؤال أو بتلك الأسئلة، التي ولدتها إجابات أمي، ولم يعقلها عقلي الصغير!! فيما اليوم بات كثيرا من الكبار تنطلي عليهم مغالطة حكامهم، بسهولة ويسر أكثر من أجوبة أمي التي لم تنطلِ على طفولتي.. والفارق شتّان..
كنت أسمع ولولة أمي وعذابها وهي تلد، ولكن كانوا يمنعوني من الدخول إليها، أو إلى المكان الذي تلد فيه، بل ويتم إبعادي قسرا من المكان القريب ويخالط هذا الإبعاد استرجاء وتفدّي من قبل بعض النسوة الحضور، للحيلولة دون أن يصل إلى مسمعي صوتها المعذّب بالولادة، ويتم منعي من معرفة أي شيء، أكثر من أن أمي تلد الآن، وسيتم ابلاغي بعد الولادة؛ هل المولود أخا أم أختا!!
كانوا لا يسمحوا لي بالدخول للمكان إلا بعد أن ينتهى كل شيء.. وعند الدخول أستطيع أن أرى الحبل المعلق إلى خشبة السقف، ويستطيع خيشومي استقبال ما ينفذ من روائح البخور، والحلتيت والمر، وغيرها من لوازم الولادة التي تحترق، أو تشربها أمي لتخفيف وجع وآثار الولادة، ولكن تلك الأشياء كانت غير قادرة أن تكشف أو تجيب على سؤالي: من أين خرج أخي أو أختي المولودة؟!! الحقيقة أن الأسئلة كانت تتكاثر، دون أن أجد لها جواب يشفي فضولي، أو حتى تلقائيتي البريئة..
وتتكرر الأسئلة اللحوحة وإجاباتها التي ربما لا تفعل لدي أكثر من ولادة أسئلة أخرى وإن كان بعد حين.. حاولت أمي اقناعي بأنّي وأخواني خرجنا من سُرّتها، وهي إجابة ربما رفستني أكثر من السؤال! وفجرت فيني حيرة وعدم اقتناع بالجواب.. بل وزادت شكوكي بعد أن ايقنت إنها كذبت في إجابتها السابقة، وتراجعت لدي مصداقيتها.. وتسألت كيف يمكن لسرّتها التي لا تزيد فتحتها عن عقلة أصبعها، أن تقبل بمرور مولود أكبر من ركبة أمي وسرتها مجتمعين..
وبعد حين من إلحاحي بالأسئلة عليها، وشعورها إنني بت أتشكك أكثر بجوابها، أطلقت أمي كذبتها الثالثة، حيث زعمت أنني خرجت أنا وإخوتي من فمها.. ولكن كيف يمكن لفم مهما أتسع أن يخرج مولود أكبر منه!! لماذا لم تختنق به؟! كيف لمولود بحجم أكبر أن يخرج من فاه دونه، أو أصغر منه بكثير؟!!
ربما أثقلت رأسي تلك الأسئلة، وحيرتني أكثر إجابات أمي المغلوطة المتعمدة من خلالها إخفاء الحقيقة عنّي، وتجاهلها لأسئلتي في بعض الأحيان، والضحك من أسئلتي، أو إجابتها المصحوبة بالابتسامة أحيانا، وإصرارها على إجابة تشعرني بعدم الرضى، أو عدم الاقتناع بما تجيب..
عرفت الحقيقة، ولكن بعد فترة لم أراها في عمري باكرة، على غير هذه الأيام الذي يدرك فيها أطفالنا أشياء لم نكن ندركها في أعمارنا تلك الأيام.. واكتشفت إننا نهدر سنوات من المعرفة بسبب العيب الذي يكبح عقولنا المتحفزة للطيران، وعرفت إن العيب يؤخر علينا كثير من الحقائق التي يفترض أن تكون قد صارت بديهيات معرفية في سن الطفولة، ووجدت أن من المهم أن نفعل كلما في الوسع لنتحرر من العيب الذي يثقل كواهلنا، عندما نجد هذا العيب يتحول إلى معيق للمعرفة، وبحد يجب أن لا نستسهله..
كانت إجابة أمي في تلك الأيام، وقياسا مع الفارق، تشبه إجابات من يحكموننا اليوم هنا وهناك، وردودهم على أسئلتنا، بيد أن إجابة أمي المغلوطة كانت بدافع درئ العيب، وحفاظا على ماء الحياء، ودواعي الاحتشام في ذلك الزمان.. أما حكام اليوم فدوافعهم هو الدفاع عن أنفسهم المريضة، وخياناتهم وفسادهم ونهبهم، وارتكابهم كل الجرائم المرعبة من إفقار وفساد وقتل المواطن، إلى إفقار وقتل الوطن..
***
يتبع..
بارك الله فيك يا رفيق القاضي أحمد سيف حاشد .
انت تاج على راسي من فوق