مذكرات

طيران بلا اجنحة .. رحلة عناد وسلطة “محدث”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

(1)

منشأ العناد ووجهته
إنّ العناد الّذي نكتسبه، أو الذي نتطبًّعُ عليه، في أحدى وجوهه ربما يعود في منشأه إلى طفولة مقهورة وقاسية، ويمكن أن يتحوّل هذا العناد إذا ما أمتلك صاحبه السلطة إلى قوَّةٍ تدميريَّةٍ يمكنها أن تُهلك المُعاند نفسَه، ومن حوله، بل وربّما تمتدُّ أضراره وآثاره إلى المجتمع الذي يعيش فيه.

لا يتوقف ذلك القهر وتلك القسوة على البيت، بل وتمتد إلى المدرسة، وتتمدد إلى المجتمع الذي يعيش الموت أكثر مما يعيش الحياة.

الاعتماد على سياسة القمع، والإيغال في العناد لغير ما هو إنساني لا يأتي إلّا بكلِّ ما هو تدميري مكرر، وفي أفضل الأحوال يأتي بما هو بائتٌ ومشوّهٌ وغيرُ سوي.

العناد في استخدام السلطة يدفعك إلى الانحراف إلى ما هو في غير موجب.. يدمِّر الآخر ويدمِّر الذَّات.. يدمِّرُ المجتمع ويدمِّر صاحبَه.. يجرفك إلى الاستبداد والطغيان بالسلطة التي تعترشها.

***

في صغري كنت مُغرماً بأكل التُّراب. يا إلهي كم كان التراب شهيّا ولذيذَ المَذاق!! والأكثر لذاذةً أنْ أفعلَ هذا في السِّر والخفية، بعيداً عن أعين أمّي. كانت أمّي ما إن تكتشف الأمر، فتسارع إلى ضربي حتى قبل أن تُخرِجَ التراب من فمي، وأحيانا يتأخر العقاب إلى لحظة انكشافي بعد حين لا يطول. ومع ذلك وما إن أجد الفرصة ثانية حتى أكرر الفعل المشبوب بالعناد.. ويتكرر الضرب، ويتكرر العناد ولا أتوب.

ومثل هذا حدث أيضا بل ومرارا مع أبي الذي كان يميل إلى القسوة في تفاصيل سآتي على ذكرها لاحقا في مواضع شتى ومواقف متعددة.. وبعد البيت أخذت المدرسة دورها، ثم يمارس المجتمع والواقع بقية الدور حتى الرحيل.

***

إن أخطأتَ في البيت تُضرب، وإن أخطأتَ في المدرسةِ تُضرب، بل إنَّ الضربَ هو إحدى العقوبات المهمة حتى في تشريعاتنا، وأكثرُ من هذا أنّ السّياسةَ العقابيَّةَ في تشريعاتِنا المثقلةِ بالوَجعِ والرُّكام، لا تقوم على أساس إصلاح الجاني، وإعادة تأهيله؛ ليندمج في المجتمع، رغم ما يعانيه المجتمع نفسه من الانحراف، بل تقوم في الغالب على أساس الانتقام بالعقوبة من الجاني.

من الأجدى والأنفع أن نحوِّل عنادَنا إلى تحدٍ يُنتجُ طاقةً خلّاقةً كبيرة ومبدعة، تخدم حقوق الناس وتُثري العلم والمعرفة، وبما يفيد الناس والعالم خيراً وفضيلةً ورخاء.

كثيرٌ من العلماء المخترعين والمكتشفين، وعظماء التاريخ عملوا على تطويع عنادهم وتوجيهه على نحوٍ خلّاقٍ في خدمة الناس والبشريَّة؛ فاكتسبوا العظمة والخلود، فيما هناك كثيرٌ من مجرمي التاريخ وسفاحيه – بسبب عنادهم وتصلب رأيهم – أهلكوا النَّسلَ والضِّرعَ، وبحروبهم أهلكوا أنفسَهم وشعوبَهم.

أما أنا فأحاول أن أحوّل الابتلاء بالعناد الذي يسجِّل لديَّ بعضَ حضوره، إلى طاقة خلَّاقة وموقف مساندٍ للمظلومين، والدِّفاعِ عن حقوقهم المنتهكة، والتّصدِّي للسُّلطةِ الَّتي تعمَدُ إلى قهرهم وإذلالهم، وتدجينهم، وإخضاعهم لها ولجبروتها. أو هكذا أظن وأزعم.

***

(2)

بين السلطة السياسية وأمي

“السُّلطة السياسية” لا تشبه أمّي بكلِّ تأكيد.. فما فعلَتْه أمي كان دون شكٍ بدافعِ الحبِّ الجَمْ لضناها الذي تحبه أكثر من نفسها، وبدافع الخوف والهلع على صحته التي تُؤثِرُها قطعاً على صحتها. أمّا ما تفعله “السُّلطة السياسية” فلا علاقةَ له بأيِّ حب، ولا صلةَ له بالصحة، أو ربما بما هو حميد، بل يتم بدوافع الإخضاع والتَّدجين، وربما الاستعباد.

إنّ المقارنة أحياناً تكون ظالمة، وربّما تبدو في عَتهِها إهداراً للعقل، ولاسيّما عندما يكون فارق المقارنة بينهما خُرافياً أو مهولاً.

ربما يبدو المتشابه هنا بين أمّي و”السلطة السياسية”، في استخدام القمع. ولكن الحق يمنع حتى التأفف من الأم، مهما بلغت بها الكهولة، ومهما بلغنا من سلطان، بل والواجب علينا احترامها وإكرامها بالخٌلق العظيم. فيما “السلطة” تقمع الشعب وتستبدُّه.

صحيح أن كلا منهما تقمع في إطار ولايتها، ولكن “السلطة السياسية” التي بدون مشروعية قد جاءت عن طريق الغلبة والاغتصاب، أو بالمخاتلة والتحايل. أما أمّي فمشروعيتها من مشروعية وجودي في المقام الأول. غير أنّ السؤال الأهم: لماذا نتمرّد على الأم، وهي الأحق بالطاعة والإذعان، ولا نتمرد على “السلطة” ـ أي “سلطة” ـ طالما هي ظالمة ومستبدة؟!!

صحيح أنّ أمّي و”السلطة” تشتركان في وجه من الجهل، وهو قياس مع الفارق، ولكن جهل أمّي له ما يبرره، وهو جزء من واقع، تقع مسؤولية تغييره على “السلطة” أولاً؛ والتي يجب عليها أن تناهض الجهل وتقوضه، فما البال و”السلطة” تعمد إلى تكريسه، ليس في الحضانة والتنشئة الأولى فحسب، ولكن أيضاً في المدارس والجامعات، وتعوِّل عليه في سياساتها إلى حدٍّ بعيد.

“السُّلطة” تعتقد أنّ القمعَ هو الخّيار الوحيد، أو الخيار الأول، للحصول على نتائجَ فوريّة، ولكنّ كثيراً ما تأتي النتائج صادمة، أو مخيّبة للآمال، والأسوأ أنّ “السلطة” تُعاند وتُوغِل في عنادها حيال شعبها، ولا تعترف ولا تقرُّ بما تقترفه من أخطاء، إلّا بعد أن تكون قد دفعت كلفةً أكبرَ من الخطأ بفعل عنادها، ويكون قد أوقع الفادح ما هو أفدح منه.

فيما أمي تشعر بالندم بمجرد أن ينتهي غضبها الذي لا يطول.. تستعيد زمامها أو ما فلت منه، إن كان في الأمر إفلات دون شك لا يخلو من نبل وحرص وحسن مقصد.. تستعيدني دفعة واحدة وتستعيد شلال حنانها الدافق، وتحيطني بحب وفير، ورعاية لا نظير لها بنكران ذات، وعناية بالغة تفوق عنايتها بنفسها..

إنه لفادح أن تقارن بين سلطة مثقلة بالجور والجرائم، وبين أم مستعدة أن تفديك حباً في كل ساعة.

***

(3)

سلطة الجماعة في الحكم

تبالغ “السُّلطة السياسية” وجماعتها الدينيَّة الموغِل ذهنها في الماضي بتعصبها لصالح المجتمع المغلق الصارم في عاداته وتقاليده وثقافته، بل وتستعرض اعتزازها بهذا الانغلاق، وتعمَد إلى فرضه وتكريسه، تحت عنوان العيب والشرف، والحفاظ على عادات وتقاليد المجتمع.

وترى هذه السلطة إن المجتمع الذي يقاوم ابتلاعه هو مجتمع جاهلي يجب أخذه بالرضى أو بالتدرج أو حتى أخذه كرهاً إلى مسلماتها، و”إسلامها” الذي ترى فيه أنه يملك الحق، ويمتلك الحقيقة كلها دون نقصان، لاسيما في القضايا التي تتعلق بأخلاق المجتمع، الذي تعتبر نفسها وصية عليه حد الثبات والغيرة الجموحة.

وتسخِّر سلطة الجماعة كثير مما يفترض أن يوجه للتنمية أو للتعليم والصحة وتحسين معيشة المواطن لصالحها ولصالح إعادة صياغة وعي المجتمع، وفق أيديولوجيتها، ودأبها المستمر لتكريس العادات والتقاليد التي تؤمن بها لخدمة أجندتها في مواجهة المستقبل، وفي هذا الاتجاه تحشد كل ممكن لديها للمساندة والتأييد والشد من أزر الماضي، وإعادة إنتاج ما هو بائد ومتخلّف ومُهترئ، وفرضه على حاضر ومستقبل شعبنا بالسلطة والغلبة.

تعيش سلطة الجماعة الدينية أثناء حكمها حالة تناقض وانفصام تام، وعدم تصالح فجٍ مع ذاتها، حيث تتزمّت في أخلاقها، وتُمارسُ عُقَدها على المجتمع، وتتشدّد حيالَ التفاصيل الصغيرة، وتترك ما هو جسيم وملح في الشأن الاقتصادي، دون حل أو حتى مجرد التفكير بالحل، وإن فعلت لضرورة ملحة، فهي تنتهي إلى إخفاق مدوٍ وفشل أشد.

إن سلطة الجماعة الدينية تتهرب من مواجهة القضايا والمعضلات الاقتصادية الكبرى الى ملاذها المعتاد في قضايا الآداب والأخلاق، فتضيف إلى المعضلات القائمة، معضلات جديدة، فيتضاعف فشلها وإخفاقاتها، و”تزيد الطين بله”.

سلطة الجماعة الدينية في الحكم تترك القضايا الاقتصادية الكبرى للشعب، مثل التنمية وتحسين المعيشة والنهوض بالتعليم والصحة وغيرها من الخدمات، وتذهب حد الغرق في تفاصيل صغيره، ترى فيها رسالتها الأولى في الحياة، فتقمع المرأة الّتي لا ترتدي حجاباً، وتتعامل بصرامة حيال من ترتدي حزام الخصر، وتعتدي على إعلانات الكوافير الذي تعتبره انفلاتاً سحيقاً، وسقوطاً أخلاقياً مريعاً، وبالتالي تتحول السلطة من سلطة حكم يفترض أن تدير الملفات والقضايا الكبرى للشعب إلى شرطة آداب حازمة حيال قضايا وتفاصيل صغيره يتبناها تزمتها، وخطابها الغارق في الرجعية.

سلطة الجماعة الدينية تبذل قضها وقضيضها في النيل البالغ من حقوق المرأة، وحريّاتها، وتكرس انتهاكاتها الواقعة على تلك الحقوق، إلى الحد الذي يهدر معه كرامة المرأة وإنسانيتها، وتخوض تلك السلطة المعارك الضارية حيال الاختلاط، والموضة، وملابس الشباب، وحلاقة الرؤوس، وتضيف إلى ذلك ما هو فضفاض، مثل “الحرب الناعمة” التي تُدرج فيها كلَّ ما يروق لها، وتريد قمعَه وتحريمَه وتجريمَه تحتَ ذلك العنوان غير المُنضبط.

وبالمقابل تتخلَّى تلك “السلطة” وعلى نحوٍ صارخ، عن مسؤوليَّاتِها حيالَ مواطنيها فيما هو أهم، مثل تحسين المستوى المعيشي للشعب، بل وتتخلي أيضا عن مسؤولية دفع رواتب الموظفين، وعدم تأمين الصِّحةِ لمواطنيها، والَّتخلِّي عن التزاماتِها حيالَ مُعظمِ الخدمات والحقوق، ومنها التعليم فضلاً عن الرُّقي به، بعد أن تكون قد أفسدت معظمه، وأكثر من هذا تحويل الوزارات الخدمية إلى مصادر إيراد وجبايات وتربّح لصالحها وصالح جماعتها التي تحكم، وتتسلط بالحكم على شعبها.

الاحتشام لدى سُلطةِ الجماعة الدينيَّةِ ليس صناعةَ وعي راقي ومتين، ولكنَّها شكليات تكرِّسُها وتتعاطى معها بصرامة.. خيمةٌ سوداء، ثقيلةٌ وعمياء، وعُقد اجتماعية شتّى، وكبْتٌ وتضْييق، وإعادة إنتاج نفايات الفكر، والتصوُّرات البالية، والتحريض على خصومها وتسفيههم وتكفيرهم وتخوينهم من خلال المساجد ووسائل الإعلام الرديف والمدعوم والممول من المال العام، وطباعة الكتب والمنشورات الصفراء، وغيرها من الأحمال والأثقال التي يجري إلقاؤها على كاهل المرأة، وتتحامل وتضيق على المدافعين عن حقوقها، والمنحازون لقضايا الشعب والمجتمع.

وتجد “السُّلطة” نفسها في وجه غالب منها تتحول إلى شُرطة آداب، تحمي “الأخلاق” وتفرض وصايتها على المجتمع باسم المقدس، بدلاً من خدمة شعبها، وفي المستوى نفسه تتجاهل بإمعان تحسين مستواه الاقتصادي والاجتماعي، والثقافي، والعلمي.

ولا تكتفي السلطة بهذا، بل نجدها بقدر أشد تمارس سياسة إفقار شعبها بفرض مزيد من الجبايات المرهقة على المواطن، والسعي على نحو دؤوب لاحتكار الثروة، واكتناز المال ومركزته في قبضتها، وامتلاك زمام التصرف والانفراد فيه، وتجفيف ما استطاعت من مصادر دخل المواطن الغير منتمي لها، وقطع مرتبات الموظفين، على نحو يؤدي إلى توسيع رقعة الفقر، إلى الحد الذي يدفع المرأة إلى السقوط في الرذيلة، والفساد الأخلاقي العريض بدافع الفقر والفاقة والعوز، والبحث عن الحد الأدنى من العيش بالتكسب وبيع الجسد والوقوع ضحايا في شباك تجارة الجنس.

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى