طيران بلا اجنحة .. غموضٌ واعتقادات..! “محدث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
عندما أتحدث عن بعض الاعتقادات أو “المشاهدات”، لا يعني بحال انحيازي لها، أو إيماني يقينا بوجودها، أو التسليم بحقيقتها، ولكن القصد منها هو عرضها على نحو مجرد، مع علمنا إنها تبدو أو تتبدّى في وعي من يؤمنون بها راسخة ويقينية، لا تقبل لديهم جدلاً أو إنكارا.
استعراض المعتقد أو المشاهدة، أو حتى الشهادة عليها، إنما هو تناول يجري في سياق أخر، هو كتابة المذكرات، وذكر وقائع مجردة ومحددة، قابلة في مكان وسياق أخر تعدد وبحث فرضياتها، وطرح الأسئلة للإجابة عليها، وفك شفرات ألغازها، وإستكناه المستقبل، وتبديد الحيرة الناشئة عن تلك الاعتقادات و”المشاهدات” من خلال العلم والبحث المعرفي.
نعلم إن سبر أغوار الوعي، والبحث في مجاهيله يحتاج إلى وسائل ومناهج وأدوات علمية ومعرفية ربما غير متوفرة هنا، أو لسنا هنا بصددها، ونحن نعلم أن النفس البشرية يكتنفها غموض لا حدود له، ومجاهل وأسرار ما زال العلم يقف على أطرافها، أو يبحث في عتبات وجودها وأبوابها.
نحن هنا لا نقدم فيما نحن بصدده إجابات جاهزة، بل نتعاطى مع الأمر في سياق آخر، كشهادات يُحتمل خرمها، وتناولات بعيدا عن أي تعالٍ، وبعيدا عن التحيُّزات والشطحات الأيديولوجية أي كان وجهتها، وفي المقابل نرفض التعاطي معها كمسلمات بعيداً عن العلم والبحث المعرفي.
وما أورده هنا عبارة عن وقائع مجردة، أو شهادات أوردها في سياق كتابة مذكراتي لا أكثر منها، ودون أن أجزم بأبعد من هذا.
***
أمّي وبحسب روايتها، عندما تضيق بها الدُّنيا وتشتد، أو يكون هنالك أمرٌ جَلَل سيحدث، أو فعل أو قول يؤذي مشاعرها على نحو حاد، أو ما شابه ذلك مما قد يحدث، تشعر بشيء يبدأ يتكوَّر في صدرها، ثم يكبر كالكرة، ويظل يكبر حدَّ الامتلاء والفيض، ثم تشعر بشعاع يخرج من رأسها، ويرتعش جسدها، وكأنّ شيئاً يتلبّسها، وبما يخرجها عن طورها، ولا تهدأ ولا تستكين إلّا بعد أنْ تقوم بإفراغ ما في رأسها وصدرها من طاقةٍ بنَطْحِ الجدار، وهي تردد في بعض الأحيان: “يا باهوت.. يا لاهوت ..”.
نطحها للجدار عادةً ما يكون قوياً ومتتابعاً، ومثيراً للدّهشة، بل والصدمة لمن لا يعرف هذا عنها، بحيث تجعل من يشاهدها للمرة الأولى يبدو مشدوهاً وغارقاً في الذُّهول والغرابة والفزع.
في إحدى المرات أثناء زيارتي للقرية من عدن في عقد الثمانيات من القرن المنصرم، وقد صرتُ أنكر أشياء كثيرة، تدخَّلتُ بجُرأة، وأمسكتها بقوة، وأبعدتها عن الجدار، للحيلولة دون مواصلتها لنطحه، بدوافع مخاوفي على حياتها، بعد أن ظننت أنني سأشهد حطام رأسها متناثراً على الأرض، أو مهشَّماً كالزجاج، فيما كانت هي تعيش غمرة ما تفعله، وفي لحظة ذروته.
كان الجدارُ من حجَر الجبل الصّلد، والشّديد في صلابته وتحدّيه، وعلى نحوٍ راعني، حتى خشيتُ على رأس أمي، ولم أكن أعلم أنّ منعها من استمرار فعلها، يؤذيها على نحوٍ لم أكن أتخيّله.
انفجرت أمي بالبكاء الشديد، وبحرقة لاسعة، وعتاب مملوء بالخيبة، لم أعهده في حياتها من قبل وهي تقول لي: (عثرتني.. عثرتني.. عثرتني) .. ثم مرضتْ عدّة أيام. ومن بعدها كنتُ أتركها تؤدّي طقسها أو معركتها مع الجدار كيفما تريد، وعلى النحو الذي يروق لها، حتى تنتهي منه، وتهدأ كبالونة فُتح ما يسد بابها.
***
ظلّ نطحُ الجدار يحدث مع أمّي حتى آخر شهرٍ في حياتها، وقد قارب عمرُها على الأرجح الثّمانين عاماً.. وفي السنوات الأخيرة من عمرها حالما كان يحدث معها مثل هكذا فعل، صِرنا نتوّقع قدوم ما هو سيِّء. نقرأه كإحساس منها، لا تستطيع أن تعبّر عنه، إلّا بتلك الطريقة الغريبة!!
قبل وفاتها بعام تقريبا، أحاطني الخطر المحدق يوماً وعلى نحو أكيد، فأُصِيبتْ قبل وقوعه بنَوْبةِ هَلَع، وردَعتْ الجدار أكثر من مرّة، ولم تنته ممّا هي فيه إلّا باتصالي التلفوني العاجل بعد أن كان مغلقاً، ووصول الكثير من الرسائل التي تشير إلى تلقِ مكالمات كثيرة حالما كان التلفون مغلقاً، وقد هدّأ إتصالي بها من رَوعِها، وأوقف نوبتها الجنونية.
كان الأمر معها أشبه بنوبة لم تهدأ منها أو من رَوْعها إلا باتّصالٍي وتحدّثي معها. لقد كانت تجزم وتُلحُّ أنّني في لحظة خطر مُحدِق وأكيد. كانت تقول وتكرر في هلع: ابني في خطر .. ابني في خطر.. وكان الحال كذلك، وقد أوشك الخطر على الوقوع، ولم تنقذنِي منه غير دقائق قليلة.
شعرتُ يومها أن حميميّتنا أكبر منّا، وأنّ هناك صلة روحية قوية بيننا، أو شيء استثنائي مختلف، وربما هو إحساس غريزي قوي من الأمّ بما يتهدّد ابنها من خطر، والذي تحبّه كثيراً، بل أكثر من نفسها، وربما من إخوته أيضاً.
مشاهد متفرِّقة وكثيرة، لا عدَّ لها ولا حصر، شاهدتُها وهي تنطح الجدار. كانت تستعد وتهرول وتنطحه ثلاثاً وأربعاً وعشراً.. هذا الأمر لم أجدْ له تفسيراً علمياً إلى اليوم، ولم أفهمه إلا بأنَّه خارق للعادة. فهي لا تجيد الكذب والمخادعة وخفة الحركة، ولم يسبق لها أن عملت في مسرح عرض ولا سِرك أو بهلوان
***
في الأحلام كانت أمّي تقول إنّها ترى جدودها يأتونها إليها في المنام، ويخبرونها بأشياء تتحقق، أو تقع في قادم الأيام، سواءً كانت مُفرِحةً أو فاجعة.
أذكر أنها قالت لي في إحدى المرّات: إنّ جَدَّتَها “جنوب” جاءت تخبرها في المنام، أنه سيحدث (أمر جلل) وتحقَّق ما قالته خلال أيام قليلة، وكما وصفته بالمعنى المليء دون غموض أو التباس. لقد كان حُلْما أشبه بالحقيقة، أو برصاصة أصابت الهدف في الرأس دون انحراف.
تبدو علاقةُ أُمِّي بجدودها الأولياء وطيدة، واعتقادها بهم يبلغ حدَّ اليقين، فهي تدعو الله، وتستنجد به، دون أن تنسى جدودها الذين خَبِرتْهم مراراً وصارت تثق بهم، وتعتقد جازمةً أنّهم يساعدونها.
عندما تريد شيئاً منهم تنذِر، وتنطِّع الشّمع، وربما تُطعم فقيراً، وتذبح “ماشية” إن كان الأمر يسمح، أو هنالك خَطْبٌ جَلَل يستحقُّ الذبيحة من وجهة نظرها. واستمر هذا الاعتقاد لديها حتى وفاتها عام 2017 وربّما أرجع بعضنا السبب إلى ما يسمى “قانون الجذب”، أو مثله أو شيئاً منه.
عندما كنت معتصماً، ومُضرباً عن الطّعام مع الجرحى في مُحاذةِ سُور مجلس الوزراء، في مطلع العام 2013 كانت أمِّي تدعو الله أن يساندني، ويقف معي، ويقف مع من يقف معي. كانت تدعو جدودها الأولياء أن يكونوا إلى جانبي في المحاذير، ويُنجوني من المخاطر، ويحضروا معي في كل ملمّة ونائبة.
كانت تأخذ بعض الأوراق النقدية (فئة ألف ريال)، وتُسبعها في الماء، وتقرأ عليها القرآن، وتنذرها للمساكين والمحتاجين، وهي مطمئنة إلى ما تعتقد، وتدّعي أنّ ما تفعله كفيلٌ بأن يحفظني من شُرور البشر، والتي تعتقد أنّ شرورهم، ربما يفوق شرور الشياطين.
***
من حبها لي كانت تقول: أسأل الله أن يأخذ ما بقي من سنين عُمْري، ويُطيل بها عمرك.. لم تقل مثل هذا يوماً لأحد من إخوتي، فطال عمرُ كلينا.. فقاربت هي من عمر الثمانين، وأنا كنت قد قاربتُ الستين. وقبل أن تموت لم تكن تسمع غيري، ولا تنفِّذ إلا طلباتي، حتى وإن كانت كرهاً عليها.
عندما اشتدّ عليها مرض الموت، كانت تؤثر الموت على أن تأكل أيَّ شيء. فإذا طلبتُ منها أن تأكل، استجابت وغصبت نفسها عليه، وعلى نحو أشعر أنَّ ما تفعله، لتنفيذ ما أطلبه، هو بقسوة الموت وطعمه، ثُمّ أتفاجأ بعودة ما أكلتْه بعد ساعة، وكأنّه كان مختبئاً في مكان ما بفمها، أو شدقها، أو بلعومها.. يعود ويخرج من فمها كما دخل، دون تغيير، بعد أنْ كنتُ أظنُّ أنَّه قد استقرَّ في مِعدتِها، أو ذهب إلى ما بعدها. عرفت لاحقاً أن مثل هذا كان نذير شؤم.
لقد تعلَّقتُ – كطفل – بأمي حتى آخر يوم في حياتها، وقد قاربتُ الخُطى نحو الستين. كنت أُؤْثرُها على جميع من يعيشون معي، بل وعلى نفسي، وكنت أنحاز للانتصار لها، غير مُكترثٍ لما يصيب غيرها.
كانت أمّي هي الخَيارُ الأوّل دوماً، والّذي أؤْثِره، وأفضّله على كل الخيارات. فإنْ انفعلتُ حيالها في لحظة توتُّر قُصْوَى ونادرة، فما ألبثُ أنْ أعتذرَ لها بندمٍ شديد، وقد أشعرتني أن فُسحة قلبها جنّة ليس لها مثيلٌ في وسعها، وغفرانها لا ينتهي.
***
ما فعلته أمي لطالما ذكّرني بمشاهد أخرى رأيتها بأم عينيَّ عندما كنت طفلاً.. شاهدتُ أناساً غرباء يطوفون البيوت سيراً على الأقدام، ويقومون بـ “الجذب”، مقابل بعض العطايا البسيطة، جلّها كان من الحبوب دخناً أو ذرةً أو شعيراً أو نحوه. كنّا نسميهم “مجاذيب أحمد ابن علوان” رأيت فيهم من يخرج عينه من محجرها بالجنبية، ويبقيها معلقة لبرهة، ثم يعيدها إلى موضعها، ومن يطعن بطنه بصورة متكررة وأماكن أخرى من جسده بخنجر، أو فأس أو “جردة” وهي تشبه السيف ولكنها دونه أو أصغر منه.
وكان المشهد الأكثر إثارة ورسوخاً في ذاكرتي إلى اليوم، هو ذلك الرجل الأربعيني من العمر على الأرجح، المائل لونه قليلا إلى السمرة، وكانت صلعته واضحة جداً، وتمتد من مقدمة رأسه إلى بعض قفاه. كان يبدأ يقرع ما نسميها “الطبيلة” تهيؤاً لما سيقوم به، ويرتعش جسده وكأن شيئاً ما قد تلبَّسَهُ. ثم يطعن بالجنبية أجزاء متفرقة من جسده.
غير أن الأكثر دهشه وبقاء في الذاكرة أنه كان يضرب وسط صلعة رأسه بالجنبية مرة وثانية وثالثة، ويتركها في الضربة الأخيرة ناشبة في صلعة رأسه، وقد أبعد من مقبضها كلتا يديه، ثم يدلي لنا رأسه من عنقه، ليرينا نصلتها الناشبة نصفها في صلعته اللامعة، وليثبت لنا يقين ما نشاهده بأم عيوننا.. وبإمكانك أن تمعن النظر مليّاً، لتتأكد أن ما تشاهده حقيقة جليّة لا خفة فيها ولا بهلوان.
وتظل عيوننا مشدوهة ومعلقة بذهول فيما نراه، ثم يعلق المشهد بالذاكرة إلى آخر العمر، دون أن يساورنا فيما رأيناه شك أو احتمال.
***
هنالك كثيرٌ من الاعتقادات الغامضة ما زلت أذكرها إلى اليوم. كان أبي إذا خرج ليلاً وأصابته شوكة يعود من الطريق معتقداً أنَّ شراً سوف يصيبه إذا تجاهله أو تغافل عنه. يبدو أنّه خَبِر ذلك بعد تجربة طويلة.. وربما هو إعمال بالمثل الذي كان يردده: “إذا دقفتَ اجزع، وإذا شوكت ارجع” فيعمل به إن حدث هذا معه ليلا، وربما أيضاً نهاراً، حسب ما عرفتُ لاحقاً.
أنا وخالتي (سعيدة) زوجة أبي كنّا إذا حدث أن أنملت أو بالأحرى “سيّرت” بطن أو قاع قدم أحد منّا، يصل أخي علي من صنعاء، أو يَهلُّ علينا ضيف نحبّه، وإذا “حفّت” يدُ إحدانا نستلم نقوداً، أو شيئاً يفرحنا، أو نصافح كريماً، أو ضيفاً يُبْهجُنا. ومازال هذا يحدث معي أحياناً إلى اليوم. لقد كان لنا حدس وحواس يقظة، ولم يعُدْ منها اليوم غير أطلال، أو بقايا أقلّ من القليل.
***