استحقاقات متناقضة وواقع صعب “قراءة نقدية”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
ما كان خفيفاً عليك بالأمس، صار بعد فوزك أكثر ثقلاً وجسامة، ويلقي على كاهلك كثيراً من المسؤولية التي يتعيّن أن تكون جديراً بها.. يجب أن تستشعر أهمية ما تمليه عليك تلك المسؤولية.. التزامات يفترض أن تكون جديراً بالوفاء بها، ولا تفكر بالتنصل عن واحدة منها، لاسيما أهم تلك الوعود التي قطعتها للناس، وأهم ما تصدَّره برنامجك الانتخابي.. الثقة التي حصلت عليها لا تقبل النقصان، بل عليك أن تزيدها وتراكمها.. النيل من تلك الثقة يعني عدم الثقة، وفقدان الثقة ربما تعني الخسران كله.
دين على دين عليك.. كلاهما استحقاقات على عاتقك واجبة السداد دون مطل أو مواربة.. يجب أن تعرف أن فوزك لم يكن غنيمة، وإنما صار حملاً ثقيلاً على كاهلك.. ويجب أن تكون مقتدراً عليه.. مسؤولية لا مناص منها، والتزامات يتعيّن عليك إنجازها.
تحدّيات يجب أن تكون بمستواها.. الفوز الحقيقي الأهم ليس بما تم، بل بما لازال قيد الانتظار.. الفوز صار أن تنجح بتحمّل المسؤولية، والقيام بما تمليه وما يترب عليها.. ما كان في الأمس هدفاً لك صار اليوم وسيلة لتحقيق هدف أكبر وأهم.. الفوز الحقيقي صار مرهوناً ليس بما فات، ولكن بما سوف يأتي أو تحققه في مرحلة ما بعد ذلك الفوز الذي تم تحقيقه.
إحساس أكيد أنني خرجتُ من هذه الانتخابات بفوز مثقلاً بأعباء كبيرة.. استحقاقات للناس يجب أن أكون قادراً عليها وفي مقدمتها أن يكون أدائي عند حسن ظنهم وجديراً بثقتهم. وفي المقابل يجب أن أعرف أن هناك أيضاً سلطة ربما هي الأخرى تنتظر منّي استحقاقاتها حتّى وإن لم أعدها بشيء، وفي جلّها استحقاقات ربما تتصادم مع وعودي التّي قطعتها للناس، وتتصادم أكثر مع برنامجي الانتخابي المُعلن، وقبل ذلك مع ضميري الذي يرفض التنازل والخيانة وإن عشتُ الجحيم كلّه.. هكذا فكرت أو هكذا كنت أفكر.
***
ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإنها معادلة تشبه نفس المعادلة التي عشتها خلال هذه الحرب التي بالفعل تشبه الجحيم.. إنها نفس المعادلة التي أعيشها اليوم، وعشتها بالأمس، مع فارق أن الحرب أشد وطأة، بل هي كارثية في نتائجها وآثارها.
وفي الحالين كان السؤال: هل أختار رضى السلطة وامتيازاتها، أم أختار الانحياز لفقراء الشعب ودفع كلفة هذا الخيار مهما كان باهظاً؛ فاخترتُ الشعب.. كان الخيار المطروح والسؤال الأهم والذي لا مناص منه ولا هروب منه: هل تريد المال وكسب ود السلطة، أم تريد ضميرك؟؟ فاخترت ضميري دون سواه.
خاض ضميري معاركه الضروسة مع أنائي، وفي نهاية كل معركة كان يخرج ضميري منها هو الظافر والمنتصر.. كل انتصار من هذا القبيل كان له كلفته الكبيرة التي يتعيّن دفعها، ومهما كانت الكُلفة التي دفعتها باهظة، فأني أرى الربح أكبر.. وهل هناك أكبر من أن يربح الإنسان ضميره وعظمته في منعطفات حياته الفارقة.
***
بعد الانتخابات النيابية في إبريل 2003 خرجتُ مثقلاً بديون نقدية يجب أن أقوم بسدادها. وهناك أمور ينتظرها الناس كاستحقاق انتخابي في ظل وعي انتخابي لا زال قاصراً ومشوّهاً عند الأكثرية، بل ومدعوم بشروط واقع أكثر سوءاً.. لازال الخلط قائم بين مهام النائب ومهام المجالس المحلية في وعي الناس، لاسيما فيما يخص تقديم الخدمات والمشاريع، وباعتباري أمين عام جمعية خيرية أيضاً علي أن لا أتنصل عن جزء من هذه المهمة قبل التنحي والمحاولة.. الناس الآن تنتظر منّي الكثير في تقديم هذه وتلك.
الوعي الانتخابي الخاطئ جرى تكريسه لعقود أو لسنوات طوال خلت، لاسيما فيما يخص تقديم الخدمات والمشاريع، والتي بدت من منظور هذا الوعي الشائه وكأنها جزء أصيل من مهام عضو مجلس النواب.. مهام النائب ومجلس النواب عموماً وفق القانون، تشريعية ورقابية، وأنا صرتُ وفق الدستور أمثّل الشعب لا دائرتي الانتخابية، والسلطة في الواقع لا تكرّس القانون على تواضعه الجم، ولكن تكرّس هذا الوعي الذي يخدمها انتخابياً.. إنها تُكرِّس ابتزاز الناس بالخدمات والمشاريع.
هناك برنامج انتخابي يجب أن تعمل جاهداً على تنفيذه، وهناك واقع يحاول أن يفرض عليك شروطه بقوة، والناس تنتظر كثير من الاستحقاقات، وعليك أن لا تتجاهلها، بل وتعمل على تحقيقها. وقبل كل ذلك هناك ضميراً يجب أن لا تفكر بخيانته. وهناك أهم وعودك الذي قطعتها للناس، وعليك أن لا تخذلهم فيها.
***
كان في الحقيقة لدينا سلطة أكثر منها دولة، سلطة بوظائف يتم تسخيرها لخدمة مزيد من تمكينها، وتحقيق أجنداتها واستمرارها، وتثبيت دعائمها من خلال تلك الانتخابات التي تنتزع السلطة شرعيتها منها على نحو ما، ويتم تظليل الناس بشأنها، بدعم ومشاركة مكينة إعلامية كبيرة وتغطية واسعة تطمس الحقائق وتزيّف الوعي.. سلطة تتحول إلى مصدر ابتزاز للشعب بأن تجعل مشاريعه أو الاهتمام بتلك المشاريع مرهونة في الغالب بالولاء للسلطة وحزبها، فضلا عن الرشوات الانتخابية التي تمنحها السلطة للدوائر والمناطق والوجهات والشخصيات الاجتماعية في موسم الانتخابات والمكافآت التي تتم أيضاً بعد فوزها.
السلطة كانت قد جعلت حتّى القوانين الانتخابية مليئة بالثغرات والعيوب، أو على حد تشبيهها من قبل أحد الخبراء القانونين الدوليين بالجبنة السويسرية المليئة بالثقوب.. ربما مرد هذا في بعض منه لما توفره للسلطة من قدرة على التأثير على سير الانتخابات ونتائجها، أو تسخيرها بما يؤدّي إلى إعادة انتخابها بأغلبية كبيرة، بل ومضمونة أيضا.
ومن المناسب هنا أن أشير إلى أن السلطة كان لها اليد الأولى في تقسم الدوائر الانتخابية في عموم الجمهورية أو إعادة تنظيمها وتقسيمها بالطريقة التي تضمن لها نصيب الأسد فيها.. إضافة منطقة هنا وسحب منطقة من هناك.. قرية هنا وقرية هناك.. نقل معسكر هنا أو لواء هناك.. تقسيم الدائرة الانتخابية الواحدة على أكثر من محافظة، ونحو ذلك وبما يؤدي إلى ضمان فوز السلطة في جل الدوائر الانتخابية.
وزائد على هذا تستخدم السلطة خطط التنمية في خدمة أجنداتها الانتخابية، وتقرير ما يمر من المشاريع وما يتعثر منها، وأكثر من هذا استخدام صارخ لبعض المشاريع والمنح والهبات في الموسم الانتخابي كرشاوى انتخابية في الدوائر التي تريد أن تكون من نصيبها، واستخدام المال العام ومقدرات الدولة والوظيفة العامة في دعم نفسها ومرشحيها، وتعزيز وجودها الانتخابي.
هكذا صارت السلطة تمتلك كل مُمكنات التفوق في الانتخابات من خلال قوانينها التي تعتريها الثغرات والتقسيمات الغير تنموية والغير عادلة انتخابياً، من أجل إحرازها موقع الصدارة بأغلبية كاسحة، حيث تتحول المشاريع التي كان من الواجب أن تقدمها الدولة للمواطنين وفقاً للخطط التنموية العادلة، صارت تتحول إلى هبات ورشاوى انتخابية، تنال من التخطيط والتنمية على السواء، فضلاً عن أنها تقدم تجربة مشوّهة للديمقراطية وتزييف الوعي بشأنها، بعيد عن الحقيقة وعمّا يحدث في الواقع.
وهكذا تصير الخطط التنموية للدولة وما يتم تنفيذه منها، لا تتم وفق معايير الحاجة والعدالة المجتمعية، ولكنها تتم حسب نفوذ الشخصيات الاجتماعية، ورضى السلطة عنهم، وتجري الاستجابة لتنفيذها تبعاً لذلك، لا تبعاً للحاجة والضرورة والعدالة. وتظل تلك الخطط في جلّها مفتقده للحد الأدنى من المصداقية، ولاسيما فيما يخص نقل ما هو وارد في الخطة إلى حيز التنفيذ.
كثير من المشاريع المكتوبة في تلك الخطط لا تعدو و لا تزيد عن كونها أكثر من حبرٍ على ورق، ثم يتكرر ذكرها كل عام في تلك الخطط المكتوبة، دون أن تجد أثراً تنفيذياً لها في الواقع.. بعض المشاريع يتم وصفها بالمتعثرة، ترحّل من عام إلى آخر، و من خطة خمسية إلى أخرى، و النتيجة سراب في سراب، مع توزيع الوهم، و استمرار الكذب حتى تأتي أُكلها في موسم انتخابي لاحق أو قادم.
***