فجوة مهولة وتصادم مريع !!
أحمد سيف حاشد
يمني برلماني
في تلك الدورة العسكرية “الصاعقة” أمعننا تعلّم أهمية الجلد والصبر والمغالبة، بل والتفاني والانتصار في أشد الظروف سوءا وصعوبة.. كيف نصارع الموت في الجبهة وقد صرت أعزلا، ونصرع الموت في عمق أرض العدو، بعيدا عن خطوط النار في خط التماس..
كيف تشتبك بالسلاح الأبيض عندما تنفذ ذخيرتك، وتعتمد حياتك على قدرتك في الدفاع عن نفسك وأنت وحدك.. كيف تشتبك مع العدو وأنت أعزل بلا سكين ولا أداة، وكيف تقاوم حتى الرمق الأخير ولا تُسلّم ولا تستسلم..
تعلمنا كيف نعبر الوحول والمستنقعات، عندما يكون العبور ضرورة أو مصلحة لأفرادك وقواتك، وقبل ذلك قضيتك السامية.. كيف تأكل عندما لا تجد ما تأكله لتعيش.. كيف تفترس الأرانب والضفادع، وتأكل الثعابين لتنقذ نفسك من هلاك محقق بالجوع..
تعلمنا كيف نصمد ونقاتل بشراسة، كيف نكسر المستحيل ونحوّله إلى ممكن وانتصار، عندما يحاصرك الموت من كل صوب واتجاه.. كيف نكون أوفياء للوطن والأرض التي ننتمي إليها في أكثر الظروف امتحانا وشدِّة.. كيف ننتصر للأرض عندما تحتاجنا وتستغيث بنا..
وقبل هذا وذاك تعلمنا إن الحرب حربان حرب عادلة وحرب غير عادلة.. تعلمتُ أن عدالة القضية التي تستبسل وتموت من أجلها هي الأهم والمهم.. كيف نكون لها نجده من احتلال غشوم، ولا نبخل عليها بدمائنا وأرواحنا..
لازال صوت الفلسطيني أبو فراس يرن بإذني ووجداني في حلبة الاشتباك وهو يقول: ”أوصل شريانك للأرض عندما تعطش هذه الأرض وتحتاج تضحيتك.. لا تتردد ولا تبخل أن تسقيها دمك” وبعد عام أو أكثر علمت أنه أستشهد في لبنان بإحدى المعارك في مواجهة مع “إسرائيل”.
***
ما تعلمته كان شيئا يختلف عمّا شهدته في الواقع، بل كان الواقع شيئا آخر مصادما في جلّه وعلى الضد مما تعلمته.. كل الحروب التي شهدتها وعشتها لاحقا تتصادم من حيث الجوهر مع ما كان في مخيالي وتصوراتي.. حروب غير وطنية وغير عادلة، بل هي كارثية في نتائجها على الوطن ومستقبله، ومنعدمة الصلة بمصالح شعبنا جنوبه وشماله..
تلك الحروب أُهدرت فيها مقدرات شعبنا.. مزقت نسيجه الاجتماعي.. زرعت وأثارت الأحقاد والضغائن والكراهية المدمرة.. أثارت الهويات التمزيقية الصغيرة على حساب ما هو عام وكبير ووطني..
لم تكن تلك الحروب من أجل الوطن والحرية والعدالة والمستقبل.. كانت عبارة دويستويفسكي حاضرة في الواقع على غير ما كنتُ أروم: “الشياطين هم هؤلاء الذين يتصارعون على الوطن وليس من أجله”.
كانت تلك الحروب من أجل السلطة والاستئثار بها، والاستحواذ على الصلاحيات أو توسيعها على حساب شريكها أو شركاءها.. حروب استعانت فيه بعض أطرافه بالعصبويات الصغيرة بكل مسمياتها القبلية والمناطقية والجهوية والشللية وغيرها مما صغر وضاق.
حروب كانت على المستوي المحلي حروب المشاريع الصغيرة والعصبويات الضيقة والرجعيات المتخلفة، والطموحات الشخصية والأنانية، يعقبها فرض إرادة المنتصر واستبداده، ولا تمت بصلة وعلى أي نحو كان بمستقبل شعبنا، وبأحلامنا الكبيرة والعريضة، وقد أدّت ضمن ما أدّت إليه الدفع بشعبنا إلى مألات كارثية على كل المستويات.. إنها اجتماع هزيمة المهزوم والمنتصر، وهُزيمة الوطن مرتين.
كان للخارج دوره في إشعال تلك الحروب واحتدامها، واستعانت بعض الأطراف الداخلية بالخارج، وأستقوت به على خصومها المحليين، وأرتهن بعضها للخارج إلى مد بعيد، من أجل إخضاع خصومه في الداخل باستقوائه بالخارج، ومستفيدا مما يتلقاه منه من دعم ومال وتأثير..
تحالفت بعض أطراف الحرب مع الخارج، بل وتمثيل وتنفيذ أجنداته وأطماعه ومشاريعه في الداخل مقابل مساندة هذا الخارج لها في أن تحكم أو يوطد حكمها، أو الاستمرار فيه، أو الاستئثار به تحت عناوين زائفة ومختلفة عمّا يجري تحت السطح، فيما الحقيقة تكشف تبعيته وتحوله إلى أداة للخارج، متماه معه دون مسافة أو فاصل، ووكيل لمصالحه في الداخل، على حساب الوطن ومستقبله.
لقد كانت هذه الحروب كارثية ومأسوية في نتائجها على شعبنا، وأستمر تأثيرها وتبعاتها إلى اليوم، ومن تلك الحروب الكارثية على شعبنا حرب يناير 1986 وحرب صيف 1994 وأما هذه الحرب التي أستمرت سبع سنوات طوال فإنها أم الكوارث بكل المقاييس.. لقد كانت حرب فقدت أقنعتها، وأنكشف ما كان مختبئ منها، أو يتم مداراته وستره عن الأعين، بل وظهرت حقيقة الوجوه صارخة ومرعبة، وعارية بلا حياء ولا خجل ولا ماء وجه..
هذه الحرب أحتدم فيها الصراع بين المصالح والأجندات الإقليمية والدولية وصارت اليمن ساحة تصفيات معارك وحسابات ومصالح دولية.. ملف ابتزاز ومساومة لملفات خارجية عالقة يجري الصراع الإقليمي والدولي بشأنها..
أضعنا العدو الذي كانت تحفل به مخيلتنا أيام الدراسة والتدريب، ووقعنا ضحية مؤامرات كبرى وصراع مصالح وأطماع دولية وحرب قذرة استهدفت في مجملها الوطن في وحدته واستقلاله وسيادته وثروته وتاريخه وجغرافيته ومستقبله.. لقد كانت بالنسبة للوطن ولليمن حرب خاسرة بكل المقاييس.. حرب قذرة جرت للأسف تحت رعاية دولية ظالمة، وفي ظل نظام دولي شديد الجور والبرجماتية..
***
الحرب والخراب الذي نشهده اليوم، والعملية السياسية المعطوبة التي نعيشها ويجري الحديث عنها اليوم، هي محصلات لما ساد قبلها من مراحل.. بعض من مخرجات الماضي وامتداداته على الحاضر بكل ما فيه من قبح وعور ومسخ وتشوهات..
ما نعيشه اليوم في مجمله هو نتاج فشل مكرس ومكرر أستمر وتوغل وتغول على كل المستويات، وتبعية بلغت أوجّها حد المحاكاة أو التماهي، ومخرجات وعي متخلّف، وموروث ثقيل، وثقافة وتفكير ما قبل الدولة، وهشاشة وفشل في بناء الدولة أو في إنجاز ما كان يجب أن تنجزه من تغييرات على كل الصُعد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والإدارية..
إن إعادة انتاج الماضي بأدواته، وإعادة تدوير الفشل مرة أخرى، وتسليم المستقبل لمن فشل في الماضي، بل والإصرار عليه، والتصلّب والإمعان على موقف استمرار عزم من قادنا إليه ليتولى أيضا القيادة إلى المستقبل، لن تؤدي إلا إلى تكرار الفشل، والإيغال في الفساد المميت، وإعادة دورات العنف، وإعادة انتاج الحروب والخراب والدمار والتمزيق والموت..
عدم مغادرة الماضي وعدم إدارة ظهرنا إليه، والاستمرار بإثقال اليمن بتركته القاتلة، ستؤدي إلى الإجهاز على أحلامنا في تجاوز ما نعيشه، والحكم علينا بأن نظل أسرى للماضي وعفونته، ولن نستطيع مغادرة دائرة الفشل، ودورات العنف، مما يجعل الانتقال إلى المستقبل الذي نتطلع إليه بالمهمة المستحيلة وبكل تأكيد..
***
قيادة الجماعات الدينية أسهمت على نحو كبير في صناعة ما نعيشه اليوم من مشهد الدمار والخراب والموت، وأسهمت في تقويض بل ونكسة عارمة للوعي، وعمدت بإمعان إلى تشويه هذا الوعي وتكبيله وتكريس اغترابه عن العصر، وجره إلى محاذير ومناطق خطرة وكارثية، وأوغلت في الارتهان والتبعية لأجندات غير وطنية في المقام الأول، وجر الوطن إلى حلبة الأطماع والأجندات والصراعات الدولية.
كما وجدنا بعض من قيادات الأحزاب والقوى السياسية قد حلّت لديها البرجماتية محل المبادئ المعلنة، والتي تأسست عليها، وفشلت الأحزاب في التصدي للانحرافات فيها، بل وانجرفت معها إلى فخ المؤامرات والاستقطابات والتبعية الجارفة، وشاركت! بعض قياديها في تنفيذ تلك المؤامرات، بعد أن انقلبت على مبادئها وأنظمتها ولوائحها الداخلية وأدبياتها، وقبل هذا وذاك على نضالاتها الدؤوبة وتاريخها الوطني العريق وتضحاياتها الكبيرة، وساهمت في إدخال بلادنا تحت البند السابع للأمم المتحدة، وجرّت أحزابها إلى أتون التبعية الفجة، وأكثر منها إلى الحرب والصراع المحتدم..
***
اليوم يفصلون الشمال عن الجنوب، ثم يجزؤون الشمال ويجزؤون الجنوب، ثم يجزؤون المجزأ ويقسمّون المقسم.. ما عاد شرقنا شرق ولا غربنا غرب، ولا الجنوب جنوب ولا الشمال شمال وقد صرنا وصيّرونا عشرون كيان بألف حرب، وألف شقاق، وكراهية لا تتسع لها أرض ولا سماء..
أحيوا أحقاد الحروب من ألف وألفين عام.. ساد الوحل والعفن، وتسابقنا بالقفز إلى المستنقعات الموحلة كالضفادع.. أحيوا المشاريع التي تعفنت وتقادمت عليه ارداح الزمان، وصاروا الآلهة، وصرنا المعجزة، واستدلوا بمن يحيي العظام وهي رميم..
عزلوا الجبال عن التخوم، والتخوم عن السواحل، وأقاموا في نفوسنا الحدود والفجاج والأسلاك الشائكة المكهربة بالأحقاد والكراهية، وقبضوا على أرواح موانئنا التي تفاخرنا بها ذات يوم..
عزلوا الجزر عن السواحل وسرقوا الجواهر.. عزلوا الثروة عن السكان، وافسحوا لنا في الأرض المقابر، وقسموا الثروة أرضا وحصصا بينهم، وحولونا وكلاء ودمى وكراسي، ونهبوا حقوقنا وأرضنا تجريفا، طولا وعرضا وعمقا..
***
أول ما يجب علينا اليوم فعله هو أن نرفض هذا الواقع المفروض علينا بالحديد والنار والمليشيات ومافيات الفساد وسلطات الغلبة والأمر الواقع.. ولن يكون البديل بتدوير الماضي أو إعادة انتاجه، بل في مغادرته والتوجه نحو المستقبل الذي نروم..
المنقذون لن يأتوا من خلال البحث عن أدوات وأتباع وقطعان أكثر خضوعا وارتهانا وتبعية، ولا في في إعادة تدوير التافهين، أو البحث عن وجوه تافهين جدد أكثر سوأ وأرخص ثمنا وأكثر ابتذالا وسقوطا؛ بل بقادة ميامين متخففون من أثقال الماضي ومتحررون من وشائجه وحباله في معالجة قضايا الحاضر والعصر.. نحتاج إلى قادة جديرين بالمسؤولية، يعشقون المستقبل الذي نروم لا سواه، وبكل صدق وتأكيد..
أما تبديل التافهين والمنقادين والأتباع بمثلهم إنما يعني السقوط من منحدر إلى منحدر أكبر وأكثر هاوية، وبهم سيظل المستقبل قصي أو مستحيل، وستظل تطلعاتنا وأمنياتنا متعذرة علينا أو بعيدة المنال، فيما ستظل الكلفة التي يدفعها شعبنا على الدوام باهظة ومهولة وقاتلة..
ما نحتاجه اليوم خارطة طريق إنقاذيه، وإعادة صياغة الحياة السياسية، بما فيها إعادة صياغة الأحزاب السياسية نفسها، واتاحة إنشاء الجديد منها بعيدا عن فشل وأخطاء وخطايا الماضي.. ما نحتاجه هو إرادة سياسية حقيقة ومستقلة في مواجهة الفساد والإفساد، وإخراج بلادنا من هذا الانسداد الذي نعيشه إلى فضاءات واسعة من الحرية والمساواة والمواطنة والعدالة والتداول السلمي للسلطة، وفصل الدين عن الدولة، والتنمية على كل المستويات والأصعدة.
نحتاج إلى دولة قوية أساسها النظام والقانون.. نحتاج إلى وطن وسيادة واستقلال وثقافة وإعلام وتربية وتعليم يعيد صياغة وعي المجتمع من الحضانة إلى الجامعة غير مشدود إلى الماضي المعتم والملطخ بالدم، وأن يخدم في المقام الأول المستقبل الذي نبحث عنه لا سواه..
***
المجسم تعبيري منقول..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ