(9)
في المرقص
أحمد سيف حاشد
يمني برلماني 15/2/2022
في “فولجا جراد” ارتدنا المرقص أيضا، نحن وسعادة الجنرال الروسي المكلف بمرافقتنا.. فسحة ترفيه ربما جاءت خارج برنامج الزيارة المقرر.. المرقص مكون من طابقين.. الأعلى هو الأغلى سعرا والأكثر اهتماما وخدمة، والزبائن فيه أكثر وقارا و رقي.. فيما الطابق الأسفل يرتاده المراهقون والشباب ومن في حكمهم..
بعد أن أمضيت قليلا من الوقت في الطابق الأعلى، شعرت أنني مكبلا ومغلولا إلى عنقي.. أحسست أن حريتي تختنق.. الرسمية التي أتصنعها هي الأخرى كانت تفرض ثقلها على كاهلي بما لا يروقني.. أحسست ببعض الملل والرتابة.. لا أريد أن أبقى مشاهد كصنم أو رجل محنط على المقعد.. لا أريد أن تفلت منّي تلك اللحظات الجميلة بدعوى الوقار، والتصنّع بما أعافه..
طلبت من الجنرال السماح لي بالنزول إلى الطابق الأسفل.. هناك صخب مكتظ بالحياة.. هناك رقص مثير للدهشة.. تم السماح لي بالنزول بعد تردد، وربما امتعاض مسؤول، ولم ينسِ تحذيري وأن أدير بالي على نفسي، وانتبه لنقودي؛ لأن هناك يحدث بعض نشل وسرقة.. ثم استدرك وطلب مني أن لا أتأخر..
***
نزلت إلى الطابق الأسفل.. أريد أن أرقص مع فتاة.. شعرت أن ما كان حلما بعيد المنال، قد صار في متناول الإمكان.. في “فولجا جراد” النساء جميلات، والفتيات أجمل.. أريد أن اختلس نصف ساعة زمن أو حتى دقائق منها.. أشعر أن الدقيقة هنا كثيفة تعادل ما فات وضاع من فرص عمري المهدور.. يا لعمري المأسوف عليه.. أريد هنا أن أقول قف لحظة يا زمن.. أريد أن أرقص مع فتاة حتى أثمل.. الرقص يمنح الروح مملكة من البهجة والفرح.. يا لحسرة من لا يرقص.. ويا لحسرتي.. هكذا كنت أحدث نفسي..
لأول مرة أشعر أن في داخلي فراغ كوني أكبر من المجرّة.. أريد أن أفرغ أحمال فراغي وأرقص حتى أحلّق عاليا بين النجوم البعيدة.. أريد أن أرقص حتى أدوخ لأعوّض عوالم كانت عصيّة عن الحلم والبوح.. رغبة جامحة في أن تتحرر روحي المكبلة مما هو أشد من أصفاد الحديد.. أنني أرغب بإطلاق العنان لروحي، ولو لبرهة زمن؛ لأحلّق في رحاب المدى، وفضاءات السماء الواسعة.. كانت السماء يومها صافية..
عشت معاناة كبيرة.. عشتُ كثيرا من الحرمان الذي لازم حياتي المتعبة والمثقلة بكل ما هو مؤلم وثقيل.. أنا القادم من بلاد لا زال جل شيوخه يحرّمون الغناء والرقص، ويمنعون عنّا الفرح والطرب.. متزمتون حد الإعتام، ينطبق عليهم وصف “نيتشه” وسؤاله بقوله: “إنهم نوع بائس ومريض.. جنس رعاع.. ينظرون بخبث إلى هذه الحياة.. وعينهم عين سوء على هذه الأرض… أقدامهم ثقيلة، وقلوبهم تختنق رطوبة… كيف للأرض أن تكون خفيفة بالنسبة لهذا النوع إذًا؟!”
كنتُ أحدث نفسي وأنا أشاهد ما أشاهده: أنا المدفون بالحياء.. يجب أن لا أمضي في أهدار هذه اللحظات التي ربما لا تعود.. العمر قصير جدا، ولا أريد أن أندم على عمر الصباء الذي ضاع، وأهدر مثل هذه اللحظات المشبعة بالحياة.. العالم هنا يغنّي ويرقص ويعيش حياته بالطول والعرض وبكل المقاييس.. لحظات جميلة بكل الأبعاد.. أنا المكبل بالحديد والنار، وأعز سنيني هُدرت سُدا، ويذهب ما بقي منها إلى بدد..
***
أحسست بوحشة ووحدة وغربة على الطاولة.. كنت مثل يتيم الأبوين أفتقد كل الحنان.. فراغ داخلي بلا حدود، فيما كان حولي ودوني يكتظ الفرح.. أحسست أن ندم يستوطنني على ما مضى.. ندم يحتل ردهاتي ومنافسي وزواياى.. شعرت أن خيبتي فيما مضى ثقب أسود تتسع لكل خيبات العالم.. أحسست أن آمالي العراض تتصحر وتجدب كل يوم، وعمري يذوي ويمضي دون أن يدرك ما تواضع من مناه..
ثقوب سوداء تبتلع رجائي وأرجائي.. عمر ينتحب كشبيبة فنان مكلوم وحزين.. مضى العمر وأنا لم أرقص مع فتاة.. ملتاع أمارس جنون الرقص على إيقاع عشق ملتاع.. لم أشتم أنفاس فتاة راقصة في ذروة الجنون الحلو.. أنا القادم من بلاد مثقلة بالحلكة والسواد، والعيب فيها بأثقال الجبال.. من هذا الذي يزحزح من صدري ثقل وموروث القرون الطوال؟! أنا من بلاد فيها الدعوة للغناء والرقص والدندنة حضا على الفسق والفجور.. قسوة القمع هنا هي الأولى بالعقاب..
ولكن يا أسفاه.. أنا لا أجيد الرقص، بل لم أتعلمه.. أنا لا أجيد إلا مضغ ضياعي، وأيامي المأسوف عليها.. في طور الباحة كان صديقي فيصل الخديري مُلهم بالرقص، وكانوا رفقته يجيدون أنواعه وتفاصيله.. اللحجي والزبيري والدلالي والعسكرية، وغيرها من ألوان الرقص اليمني وفنونه.. أما أنا فكان خجلي أكثر ما يمنعني، وكانت محاولاتي النادرة مؤكدات لفشلي الوخيم، رغم ما أحمله داخلي من حب وعشق وشجون وإنسان..
جلال الدين الرومي يقول: “من دون الحب.. كُل المُوسيقى ضجيج … كل العبادات عبء.” الموسيقى موجودة هنا.. والرقص متوفر وموجود.. بقي الناقص ما يعدل الروح، ولحظة تستغرق كل الذاكرة..
فتيات “فولجا جراد” جميلات، وفيهن شيئا مختلف.. جاذبية ورشاقة أكثر.. فيض من السحر والجمال.. وحياة تتدفق من الوجوه.. ألق ورونق وامتشاق قوام.. وأنا على الطاولة وحدي مسكونا بالغربة والحرمان.. كنت خلف الطاولة أعصر حزني، وأتلوّى صبرا وخجلا وحرمانا، وحيلولة لدون ما أريد..
***
ليست مشكلتي فقط بحيائي وثقل الحرج الذي ينوخ بثقله على كاهلي، ولكن أيضا في اللغة الروسية التي لا افقه فيها حرفا لا في وسط ولا في طرف.. أحدث نفسي في غياب جميع أصدقائي هنا: سأحاول اطلاق جرأتي، وأحشد شجاعتي لأحدث فتاة ترقص معي، ولكن اللغة كانت عقبة كأداء تمنعني من أن أصل بمشاعري ورغبتي إلى من أريد..
أريد أن أرقص مع تلك الحسناء الفاتنة حتى أبلغ نوبات الجنون.. ولأنني لم أتعلم الرقص، سأدع إيقاع الموسيقى يضبط وقع أقدامي قدر ما في المتسع.. أريد أن أضم تلك الجميلة إلى صدري الملتاع، وشجوني المحبوسة داخلي؛ لتحريرها من جدرانها الصدئة..
أرغب بتلك الفتاة لتهدهد ما يتبركن تحت ضلوعي من حمم وثورة.. تطفئ نارا تتأجج بالعشق المحبوس في شرايين دمي.. يد فتاة تضمني برفق وحنين.. يدا حانية تشجعني على الإقدام، وتربت على كتفي الذي أثقل كاهلي.. فتاة أسبح في مداراتها حتى أدوخ وأهوى في أحضانها كنيزك محترق..
حاولت أن أحشد شجاعتي لأطلب من فتاة الرقص معي.. حاولت أن أستعيد بعض المفردات الروسية القليلة كنت قد جمعتها من زملائي سابقا.. كلمة روسية من هنا وكلمة من هناك.. حاولت أن أنظمها في جملة أو عبارة فيها رجاء وطلب: “لو سمحتي.. هل ممكن أن ترقصين معي؟! يا له من رجاء عظيم.. دعيت السماء أن تستجيب له، ولكنها لم تستجب..!
عزمتُ أن أرقص مع إحداهن.. لمست منكبها بأصابعي المرتعشة لألفت انتباهها ولتلتفت لي حتّى بنصف استدارة.. استدارت نحوي باستغراب ودهشة.. تحدثت هي معي بكلمات لم أفهمها.. تحديت خجلي، وبدأت أبلغها بالروسية على ما عزمت عليه: “لو سمحتي.. هل ممكن أن ترقصين معي؟!
لا أدري ماذا حدث؟! ما أن قلت لها جملتي المتضمنة رجاء واستسماح بالرقص معي.. حتى انفجرت هي وصديقاتها ضحكا.. لا أدري ماذا صنعت! لا أعلم ماذا الذي يحدث! لماذا يضحكن؟! طلبي يفترض أن يكون مألوفا وبإمكانها أن تعتذر وسأفهم اعتذارها وأقدره.. سأفهمه حتى من طريقة أداءها إن لم أفهم كلامها.. أمّا أن تضحك وتشرك صديقاتها بالضحك فهذا ما لم أتوقعه..
وعندما كنت أحاول أن أعيد طلبي، لم استطيع أن أعيد ما طلبت، كنت أشبه بمن يتسلق جبل شاهق شديد الانحدار غير معتاد النظر من علوه إلى أسفله، فكيف لي أن أتسلقه؟! شعرت بالدوار وأنا أحاول أن أعيد ما قلته، وكانت مفردة تشرد مني وأخرى تطير، وتتحول الثالثة إلى موضع آخر، ولساني تلتُ في الرابعة على غير ما كان يفترض أن تؤديه من معنى منضبط، ولم أعد أدري ماذا أهذي، وماذا أقول!!
تحدثن مع بعض، وتحدثن معي وبعضهن يضحكن وأخريات يتبسمنّ، وقد أدركن أنني من بلاد بعيدة وغريب، كست صفحة وجهي طبقات سوداء من الخجل المدجّى، ولم أفهم شيئا من الكلام.. ولا دريت كيف أداري فعلتي! وكيف أنجو من الفخ الذي كنتُ صانعه، فأنجدتني وكانت قارب نجاة، كلمة (sorry) الإنجليزية التي تعني (آسف) والتي أطلقتها وأنا أعود ألعن نفسي وأندب حظي وفشل غزوتي، وأجر ذيول خيبتي إلى خلف الطاولة..
وبعد برهة نزل أحد الزملاء من الطابق الأعلى، وأبلغني إن الجنرال يسأل عني ويريدني على الفور.. فكان في اللحظة نجدتي ونجاتي من إحراج ربما يستمر، وخصوصا أن الابتسامات ورمق العيون لم تتوقف فيما أنا في الإحراج أغرق..
عدت إلى مقعدي في الطابق الأعلى وأنا أجر خيبتي وهزيمتي.. سألني أحدهم ماذا صنعت؟! نقلت له ما حدث؛ فقال أنت لم تطلب منها الرقص، أنت طلبت منها أن تركب معك في السيارة.. فضحكت على نفسي وحالي وغربتي حتى ثملت..
***
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام
أحمد سيف حاشد هاشم
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page