(2)
تطرف يساري ثوري
أحمد سيف حاشد
كانت المرحلة التي يعيشها الجنوب في تلك الفترة يسارية وثورية متشددة، وفي أفضل الأحوال لا تخلو من نزعات الطيش والتطرف والحماس الفائض عن حاجته.. كان طلاب “الترحيلات” أثناء ما تقلهم سيارات (اللاندرفر) المكشوفة إلى المدرسة في طور الباحة، أو عند إيابهم، ومعهم بعض المواطنين، يرددون هتافات ثورية، ولكن بعضها كان ذات طابع تحريضي لا يخلو من ممارسة الإكراه ضد من هو متحفظ مما يحدث، أو له رأي مختلف فيه.. هتافات لا تخلو من قمع معنوي، ولي ذراع، بل وربما إرهاب ضد من لا يعلن تأييده لمسار التوجه السياسي الثوري المعلن..
كانت بعض تلك الهتافات تدعي لنفسها أو لأصحابها الحق والصواب واحتكار الحقيقة، وتمارس الإقصاء بحق المختلف معها.. هتافات لا تقبل التنوع والتعدد في الرأي، ولا تتعاطى مع الرأي الآخر، وتأنس إلى تقسيم الناس إلى “مع وضد”، وبالتالي تمارس تحريضها الذي يصل حد إرهاب الصامتين، الذين تصفهم بالسلبيين..
إنه موقف شمولي ومتطرف خلاصته “أما تكون معنا أو أنت ضدنا” موقف الصامتين او المترددين كان موصوفا بالسلبي، وهو موقف لا يروق لبعض من يعتبروا أنفسهم ثوريين مدججين بالوعي الثوري، ويتم إرهاب وتوعد السلبين بضربهم في المستقبل بيد من حديد..
ومن تلك الهتافات التي مازالت عالقة في ذاكرتي:
“يا ويلك ويل يا سلبي من ضربتنا العنيفة
والمتستر بيُكشف والمراحل طويلة”
هتاف آخر كان يحزُ في نفسي، ويترك أثرا أداريه عمِّن كانوا حولي يقول: “دقوا المشايخ.. دقوهم”، ربما كان السبب يرجع إلى أن إخوة أمي في الشمال محسوبين على فئة “المشايخ” رغم ان ظروفهم كانت متواضعة للغاية وربما بائسة.. لم تكن ثمة فروق اجتماعية مهمة تُميزهم عن عامة الناس، أو على الأقل بالنسبة للوسط فيهم..
اتذَكر أن خالي أخ أمي (علي سالم ـ دعبل) كان يقترض ويستدين بعض المال من والدي الذي هو أيضا في حال ضيق وغير ميسور.. وكان جدي، والد أمِّي، معروفاً بزهده وتواضعه، وكان يعمل لآخرته على حساب دنياه، وأغلب وقته معتكفا يتلو القرآن في ديوانه أو حجرته تقرُّبا إلى ربه، راجيا رحمته وجنته، غير أن هذا لم يعفه من ممارسات تطرف وطيش اليسار في الجنوب، عندما ذهب إلى عدن بغرض تلقِّي العلاج؛ أخفي قسرياً، وانقطعت أخباره مذ ذلك الحين، ولم نعد نعرف شيئا عنه إلى اليوم..
***
وبين الماضي والحاضر تشابه المتطرفون بفيض حماسهم الزائد، وادعاءهم باحتكار الحقيقة والصواب، وما عشناه في سنوات هذه الحرب وما لازلنا نعيشه وما عانيناه فيها من صبيانية وتطرف وعنصرية شاهد وعلم، يذكّرنا بكل من يرى أن الحياة بلونين فقط أبيضا وأسودا.. الحياة لديهم لا تقبل أن تكون محايدا أو بموقف مختلف عن اصطفافاتهم، أو تكون حتى ضد أطراف الصراع مجتمعين.. ومثل هذا يقال أيضا حيال موقف اطراف الحرب والصراع من قضايا وحقوق الرأي والتعبير..
يخنقنا مثل هذا التطرف المغلق في وجه التعدد والتنوع.. كل طرف في الحرب كان يريد أن يجرّنا إلى مستنقعه الملوث، بل ويريد أن يحملنا ويغمسنا في مستنقعه حتى يصل بنا إلى حضيضه وقيعانه السحيقة.. كل يريد أن تكون في خندقه واصطفافه.. كل يرى أن الوطن جربة أبوه، بل ويرى ذاته هو الوطن كما يتصور ويعتقد..
ومع السنين بدأت تتكشف كثير من الأوهام، ولكن كانت بكلفة وطن بات ممزقا ومبددا.. إنه زمن التافهين والمتطرفين والمخرجات الرديئة لهذه الحرب المكتظة بالبشاعات والمؤامرات والكراهية، والمثقلة بالدمار والخراب الوخيم..
التطرف خطر ليس على المغاير والمختلف فحسب، ولكن على العقل والمنطق والحكمة والتعدد والتنوع والسوية.. خطر على الشعب والمجتمع والمستقبل.. سياسية “من ليس معنا فهو ضدنا” سياسة مرعبة ومدمرة للشعوب والأوطان والمستقبل الذي ننشده..
الجماعات الدينية المتطرفة تقسم الناس إلى فسطاتين فقط، وبعض الحركات الدينية كالحوثيين توحشت وصارت بعد تمكين تستعدي من ليس معها، وتصفه بالخائن والمرتزق أو المنافق الذي يتعين اخضاعه لمشروعها الخاص والصغير، أو سحقه ببأسها وقمعها وسطوتها المرعبة، فيما جماعات سياسية أخرى في المقابل تطرفت، وتماهت مع العدوان والاحتلال حتى صارت حاملة لأجنداته ومُنفّذا لها على حساب الوطن ومستقبله..
***
وعودة إلى ما كنت بصدده: درست المرحلة الإعدادية في مدرسة الشهيد نجيب في طور الباحة في اواسط السبعينات وتحديدا من العام (1976 ـ 1978) إن لم تخنِ الذاكرة..
أقمت في (القسم الداخلي) وكان عدد غير قليل من أبناء المناطق الشمالية المجاورة يلتحقون بهذه المدرسة ويقيمون في قسمها الداخلي، وتوفر لهم دولة الجنوب التغذية إضافة إلى السكن.. بل كان مدير المدرسة من الشمال هو عبده علي من قبيطة الأكروب، وكان حسن محمد علي نائبها السياسي من قبيطة صبيح في الشمال، وكذا مسؤول المركز الثقافي كان من معبق أو صوالحة الشمال ..
سبب توجهنا إلى الجنوب للدراسة إما بسبب عدم وجود مدارس إعدادية في أريافنا المُتعبة، وإما لأسباب سياسية واجتماعية حملتنا على التوجه للدراسة في هذه المدرسة الجنوبية التي لا ننسى معروفها علينا مهما تقادمت الأيام والسنون..
إجمالا كان لدولة الجنوب ـ جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ـ الفضل الذي لم ولن ننساه ولن نجحده، لقد كنّا بأمس الحاجة للتعليم، ودونها افترسنا الجهل ونهبنا الغياب، وربما ضياعنا كان احتمالا واردا، إن لم يكن بحكم المحقق والأكيد.. وفي هذا المقام لا بأس من استحضار قول الشاعر المتنبي:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا.
***
يتبع..
الصورة حديثة ومنقولة لفعالية جنوبية في طور الباحة
صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك