مذكرات

طيران بلا اجنحة .. هل ظلمنا الشيطان..؟

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

ماتت نور وسامية، وكان حالنا قد بات كمداً على كمدٍ، وكُدتُ أكون ثالثَهما راحلاً دون عودة .. ترك الرحيل في حياتنا فراغاً قصيّاً وعصياً على النسيان .. موت غامض وغريب لا يريد أن يقبض روح أحداً منّا إلا بإعلان فاجع وفاقع يأتي على نحو مباغت دون مهل أو مقدمات.

موت مريع نزل على رؤوسنا كصاعقة يقبض روح من يصيب، والبقية يصيبهم بذهول، وهلع يدوم.. المكان يبكي فراقاً قد حل إلى الأبد، وحنيناً طويلاً لا ينتهي، وتفاصيل تقدح كل يوم غياباً وفقداناً أستمر.

كان الموت يقطع الوقت والسيف، والصرخة لا تستعيد أنفاسها.. الموت يباغتُ طفولتنا البائسة ب “صاعقة” تخلع القلب، وتكسر في النفس تروس النسيان مهما مضتَ الأيامُ وتقادمت.. يترك لدى الأهل جُرحاً غائرا وفاغراً لا يلتئم ولا يندمل، وتنهدات تطلع من عميق الروح مشبعة بالأسى تزفرُ وجعاً وناراً، وآه مغروزة في القلب كنصله سكين، وذكريات تقيم فينا دون زحزحة، تُذكّرنا بما طالنا من فراق الأبد.. ذكريات لطالما أثارت فينا طوفان من حزن لا ينحسر.

مررتُ بنفس الحال المروع للأختين الراحلتين، ولكني نجوت من النهاية “الصاعقة”.. الحال والأعراض متشابهة إن لم تكن واحدة.. كنتُ أصرخ فجأة كزمجرة رعد على حين غِرّة، فيما يسارع أبي أو أمي لحملي من قاع المكان، وما إن أعود للأرض مرة أخرى حتى يعود الصراخ صاعقاً.. وأظل محمولاً حتى أنام، وأحياناً أقوم من فراش نومي صارخاً، ويتكرر المشهد، وتزداد مخاوف أبي وأمي وتوجسُّهما أنني للحياة مفارق.

لماذا أصرخ وعلى ذلك النحو من الانصعاق..؟! نعم .. ما زلتُ أذكر الأمر تماماً وكأنه حدث اليوم لا في الماضي البعيد، إنه لا يُنسى رغم العقود الطويلة، ولكني لا أدري هل ما “شاهدته” كان واقعاً أم مجرد تهيّؤات أو خيالات معلول مريض، أو شيئاً له وصف أخر لا أعرفه؟!.. أتحدث هنا عن “مشاهدة” لا اعرف كنهها، وفيه حيرة وأسئلة، ومراوحة بين وهم وواقع، وعطب يصيب الدماغ في لحظة حاسمة ما زال يكتنفها الغموض.

لا أستطيع أنسى ما كنت “أشاهده”.. ما زال “المشهد” عالقاً في الذّاكرة كمِرساة عائمة، وحافراً فيها عمقاً، وما زال تفسيره غامضاً وعصيّاً على فهمي إلى اليوم.. ربما العلم قد قال قوله في حالة كتلك من زمن بعيد، دون أن اعلم، أو لم أكن فيه على اطلاع وتفسير.

كنت “أشاهد” ثعباناً أبيضاً يخرج من القاع. طوله بحدود المتر. له أرجل كثيفة.. أرجله منتشرة على طول حافتيه، ورأسه مربعٌ متناسقٌ مع جسمه باستثناء أنه مميزٌ بعينين مدوّرتين، وعرض رأسه أكبر بقليل من عرض جسمه، ولديه شعرتان لونها على الأرجح بصلي مائل إلى السواد تتحركان في مقدمة رأسه.. هكذا بدى لي الأمر الذي عشته دون أن اعلم مدى حقيقته.

“أشاهده” بغتة! يخرج من القاع يزحف بسرعة، وأحياناً بسرعة خاطفة.. يدور ويطوف حولي وأحياناً يمرق أمامي بلمح البصر؛ فأصرخ بهلع بالغ، كما صرختا الأختان من قبل .. صراخ، ناري ومتفجر يكاد يشقُّ الجدار .. كزمجرة رعد يأتي بغتة على نحوٍ صادمٍ في لحظةِ شرود وتيه .. صراخ ليس له موعدٌ يشق الليل أو النّهار .. ينمُّ عن “مشاهدة” أمر فظيع ومرعب .. شيء ما يجعل الفزع والجزع يشقّني نصفين.

وعندما كان يحملني أبي أو أمي يختفي هذا الثُّعبان في القاع، لا أدري كيف يختفي، ولكنَّه يختفي..!! وعندما يطرحاني على الأرض، “أراه” من جديد يخرج من القاع الإسمنتي، ويزحف بسرعة في قاع الغرفة، ويتكرر المشهد، ومعه يتكرر الصراخ على نحو مفجع .. كان أبي وأمي يحملاني، أو يتناوبان على حملي حتى أنام .. أبي وأمي لا يرانه، أنا الوحيد الذي كنت “أراه”؛ ولذلك لم يستطيعا اكتشاف سبب صراخي وما “أشاهده” من غريب، إن كان لما “أشاهده” كشف بوجه ما، رغم ما يبدو لي اليوم من استحالة واقعيته.

في إحدى المرّات، تكرر مشهد الصراخ وعندما لمح أبي على يدي خربشات قلم، قام بمسحها، فانتهى صراخي ولم أعد أراه .. فهم الأمر على ما كان سائداً من وعي وثقافة، وتبدّا له أنني كتبت على يدي اسم “شيطان” .. ولكن هذا التفسير غير مُقنع، ولا يستقيم، لأن حالات كثيرة تكررت معي ومع سامية ونور، دون أن تكون هناك كتابة أو شخابيط..

ويبقى السؤال: هل ظلمنا الشيطان، لاسيما وقد عرفنا بشراً استطاعوا اغواء الشياطين..؟!

***

أمّا اليوم فقد ظلمنا الشيطان على نحو مضاعف، حيث عرفنا بشراً ارتكبوا الفظاعات والبشاعات والجرائم التي لا عفو لها ولا غفران؟! بشر نهبوا أوطانهم وشعوبهم المنكوبة بهم، وأكلوا بالباطل رواتب موظفيهم وقوت أطفالهم، ثم ذهبوا إلى مكة يرجمون الشيطان بالحجارة..؟!

مفسدون وفاسدون يتاجرون بالموت، ويعيثون في الأرض فساداً بمقدرات وطن، وكد شعب ينزف ويهلك، ويبنون من مال الباطل وأموال الشيطان ما تمنوه من أبراج وشواهق وتجارة، ثم يكتبون على واجهاتها وأبوابها “هذا من فضل ربي”..!!

أي ظلم وأي عجب أكثر من هذا الذي نشاهده!! إنها مفارقة مهولة ومرعبة، وسريالية بالغة، وفانتازيا لا حدود لها..؟!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى