مذكرات

(15) البحث عن مكان أنام فيه ! أحمد سيف حاشد

مذكراتي.. من تفاصيل حياتي قسوة وطفولة بطعم التمرد

(15)

البحث عن مكان أنام فيه !

أحمد سيف حاشد

قفزتُ من فوق الدار ولذتُ بالفرار إلى مكان غير بعيد.. تسللت إلى مقبرة صغيرة في عرض جبل ”إجت الجفيف”، شعرتُ بالوحشة والقلق والخوف.. من المستحيل أن أنام هنا ولازال الفجر بعيد.. مكان غير مأمون من مفاجأت ربما تختبي أو تقبع قيد الانتظار..

كنتُ أتوجس أن يخرج الأموات من قبورهم.. لا أعرف واحد منهم، وهم أيضا لا يعرفوني.. ربما بيننا غربة وبرزخ يمنعاننا من الوئام والإنسجام.. لا أريد أن أسمع عذاب الموتى وهم يتألمون.. لا أحتمل سماع منكر ونكير.. أتخيلهم مرعبين وهم يسألون الأموات في قبورهم ويجلدوهم بسياط من نار حمراء تلتهب.. توقعتُ نزولهم من السماء بعد منتصف الليل ليتولوا الحساب والعقاب.. يرعبني أن أرى رجل أو إمرأة تجبر على الصلاه فوق صخرة من جهنم.. لا أحتمل سماع صوت الولولة والألم.. لقد سمعتُ حكايات كثيرة عن حياة الأموات في القبور، ولا أملك إلا تصديقها لأنني لم أسمع من يكذبّها، أو يشكك بمصداقيتها.

عليّ أن أترك هذا المكان المخيف.. من المهم أن أنام في مكان أقل رعبا وخوفا.. أريد مكانا أكثر أماناً أيضا من الطواهش والضباع.. يجب أن لا أبعد كثيرا من بيوت الناس.. إذا ما داهمني “طاهش” أو ضبع مفترس أجد من يسارع لنجدتي، أو أنا أسارع مستغيثا إلى بيت قريب.. لقد سمعت كثيرا عن رجال كبار أكلهم “الطاهش” أو أفترستهم الضباع، ولم يبقَ منهم سوى بقايا من عظام وأطراف.. هكذا كنت أحدث نفسي ويزداد روعي وتتكالب مخاوفي..

لجأت إلى مكان قريب من منزل شخص طيب يطحنه الفقر، اسمه ثابت صالح.. كان يكدح من الصباح إلى المساء بإيجار زهيد.. يحرث الأرض للناس ويحمل الأحجار الثقال على ظهره طول النهار.. يبني بيوت الناس، فيما بيته متواضعاً جدا، ولكن قلبه كان أكبر من قصر ملك، وأخلاقه عظيمةً، أعظم من أصحاب كل القصور.

سمع ثابت صالح خطواتي في الجبل، والليل في ريفنا له أذان.. سمع حصى وأحجار تتساقط بسب تسلُّقي بعض الجدران ونتوءات الجبل.. أيقن أن هناك أمرا ما.. وجه الضوء نحو الصوت وبدأ ينادي من هناك؟! كرر الأمر مرتين وثلاث.. أزداد يقينا بوجود شيء يستدعي الاهتمام..

بدا لي شجاعا وهو لم يكتفِ بالمنادة، بل صعد إلى المكان الذي كنت فيه ليستطلع ويكشف الأمر.. وجدني وعرفني وألح عليّ أن أنزل لأبيت عند أسرته.. نزلتُ برفقته.. رحبت بي زوجته وكانت صديقة أمّي.. لم تصدق أنني من وجده زوجها في الجبل..

رحبت بي ترحيب الأم المحبة.. أكرمتني وأشعرتني أن لدي أم ثانية وأب حنون هو زوجها.. سألتني عمّا حدث ولماذا كان كل ذاك الصراخ الذي سمعوه في بيتنا؟!

حكيت لها ما حدث.. اغرورقت عيناها بالدموع وسالت على وجنتيها البارزه.. كشفت دموعها ذبالة السراج الوالعة بيننا.. شعرتُ بعاطفة جارفة عندهم وحب كبير أبحث عنه.. ما أجملكم أيها البسطاء الفقراء الطيبين.. قلوبكم بيضاء نقية دافقة بالحب والحنان والمعروف..

وفي الصباح نقلت زوجة ثابت صالح الخبر بسر وكتمان لأمي المريضة بسبب ما حدث لها منّي ومن أبي، وطمأنتها بيقين، وبعد يومين عدتُ لدارنا بعد مفاوضات مع أبي ربما بدت صعبة، لكنها تمت على خير..

عدتُ إلى دارنا وكان أبي يشكو لأخي علي سيف حاشد الذي كان مسافراً عندما حدث اطلاقي للرصاص من البندقية في ديوان دارنا.. سمعت أبي وهو يقول له: “شوف أخوك أيش أشتغل!!”.. كان يريه جدران الديوان المجدورة بالرصاص، وما لحق بها من ضرر.. ومن يومها أخذني أخي إلى بيته في نفس القرية عند خالتي زوجة أبي الثانية التي أغرقتني بحنانها وطيبتها الغامرة..

***

يتبع..

بعض من تفاصيل حياتي

أحمد سيف حاشد “تويتر”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى