مذكرات

مستقل إلى الأبد

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

قبل أكثر من عشرين عاماً لم يكن لدي دائرة نفوذ أو علاقة تدعمني لدى المؤتمر أو حتّى توصلني مباشرة بقيادته لطلب دعمها لي في الانتخابات البرلمانية، على أن يكون هذا الدعم بصفتي مرشحاً مستقلاً على وجه التحديد.

افتقد إلى الدليل الموثوق به، والمسموع كلمته، في لحظة رأيتها كثيفة الضبابية، وأكثر منها فترة تكثر وتروج فيها الأكاذيب.. أذكر مقولة لرجل دولة وسياسي تقول: “تكثر الأكاذيب قبل الانتخابات وأثناء الحرب وبعد الصيد”. 

راهن بعض أصدقائي على الشيخ محمد هزاع، فيما كنتُ أقلل من هذا الرهان، وأرتاب في إمكانية تحقيق النتيجة التي أرجوها، وهو ما دفعني للذهاب إلى القيادي في المؤتمر عزام صلاح، بمعية القاضي نبيل الشعبي، ومجيد سالم حسن، والذي سمعتُ عنه أنه كان مقرباً من الدكتور عبد الكريم الارياني، ومن نجبائه، وكان القاضي نبيل تربطه صلة أو معرفة ما بعزام صلاح.

حصلتُ على ما يشبه الموافقة أو الضوء الأخضر، على أن أترشح باسم المؤتمر، فيما كان شرطي الأول والأهم أن تكون صفة المستقل هي الصفة التي لا تنازل عنها، وهكذا أخفقتُ في الحصول على دعم المؤتمر، وأخفقتُ أيضاً في الحصول على دعم الحزب الاشتراكي، ولم أتنازل عن شرط الاستقلال ولم أُساوم فيه.

أحسستُ بشقاء “غير المنتمي” في بلاد مثقلة بعصبيات القطيع من القبيلة إلى الحزب.. ظروف ترغمك لتشرب من ماءها كيفما كان، فيما أنت تريد أن تكون نبعاً لوحدك.. ترفض أن تكون نعلاً، بل تريد أن تكون أنت الساق والقدم.. تمعن في الإبحار ضد ظروفك لتكون الإنسان الذي تريده أنت لا الذي يريدونه هم.. تغامر لتتجاوز ما هو عصياً على المجاوزة.

لم أنسحب كالعنكبوت إلى الزوايا المظلمة.. لم أنعزل ولم أنكفئ في قوقعتي أو ألوذ بمخبئي.. قلتُ ما قالته الروائية والكاتبة غادة السمان: “لستُ جناحاً.. أنا التحليق!” قلتُ ما قاله القائل: “التمردُ وعدم الانصياع هو عِمادُ الحرية الحقيقي.” أصرّيت على استقلاليتي، واعتبرتها معياراً، ومحك اختبار لتمسُّكي بما أخترت.

وقد أخترتُ حريتي التي أستحقها ولا أتنازل عنها.. قررتُ أن أخوض غمار المعترك، وأن أمضي ولا أعود أدراجي مهما كان الخذلان وخيماً، طالما هناك من لازال يحبك، ويستحق شرف أن تخوض المعركة لأجله، وهناك من لازال يراهن عليك، ومن لم يتخلِ عنك، بل ومن لازال يؤازرك في شِدّتك وأنت تخوض غمار المعركة ورحاها.

***

لم يدعمني حزب المؤتمر الشعبي العام ابتداء كمرشح مستقل، بل كان يعارض هذا الترشيح، ويقف ضده، ورشّح منافساً لي باسم المؤتمر، بل وبدأت صوره ترتفع على الصخور والأمكنة.

كان عرض الترغيب مبلغ مغر من المال لا أجيد عدُّه، ولا يصل خيالي حدُّه مقابل انسحابي من الترشح لصالح مرشح المؤتمر.. رفضته ولم أقبل أي مساومة في هذا الاتجاه، بل أمعنت في الاستمرار بالترشح كمستقل، وإن بلغ الأمر أوجّه في الكلفة والتضحية.

ربما كان مثل هذا المبلغ مغرياً جداً لشخص مُثقلاً بالحاجة والعوز، ولكن كان ضميري يقول لي: “أنت لم تُخلق لمثل هذا؛ فحتّى الفشل هو أيضاً محاولة أجل وأكبر من كل الملايين..” أخي عبد الكريم قال مازحاً حال علمه بالخبر: “يعطوني مليون وأنا اجزّعه لكم من الحياة، مش بس من الانتخابات.”. 

توقعتُ أن ترهيباً سيأتي بعد فشل الاستمالة وأساليب الترغيب.. وتحت دافع هذا الاحتمال وضغوطه، أغلقتُ تلفوني وغادرتُ منزل إقامتي، والاختباء خارجه، وذلك لتجنب احتمال اختطافي ومحاولات إرغامي على سحب طلب ترشيحي، ولاسيما في الـ 48 ساعة المتبقية لموعد اقفال انسحابات الترشح.

سبق وكنتُ افاوض كلما سنحت لي الفرصة للقاء أي قيادي أصل إليه، بمنطقية لا تنال من موقفي الثابت من استقلاليتي، وأشرح في الوقت نفسه صواب وضمان الفوز والاستحقاق، وبعد يوم من موعد اقفال سحب الترشح، وهو موعد غير ما أتاحه القانون، تفاجأتُ بسحب المؤتمر لمرشحه، ولم أكن أعرف يومها ماذا الذي حدث..؟! ما هو سبب الانسحاب المفاجئ، وتحديداً إنه أتى بعد موعده القانوني بيوم.

***

الشيخ محمد هزاع نائب رئيس فرع المؤتمر بمحافظة لحج كان يرى أن الفرصة وممكنات الفوز واردة بالنسبة لي، بل وبقيتُ في حساباته الانتخابية الأوفر حظاً إن سارت الأمور كما يرتجي، وعمد وفق هذا المُعطى معارضته أن يتم إنزال مرشحين مستقلين في السبعة المراكز التابعة لعزلة “القبيطة” حتّى لا يتم تشتيت الأصوات فيها، وبالتالي سأكون أنا في حكم الأكيد المرشح الفائز من وجهة نظره.. كانت حساباته الانتخابية أكثر مقاربة للواقع، ولِما أسفرت عنه الانتخابات لاحقاً بالفعل.

غير أن فرض إحدى الوجاهات كمرشح للمؤتمر بأوامر مؤتمرية عليا قد خيّب ظن نائب رئيس فرع المؤتمر في محافظة لحج الشيخ محمد هزاع وما كان يرجوه، أو يعمل لأجله ويخطط له.. وبالتالي صار الأمر أصعب على المؤتمر، وفرصة نجاح مرشحة تضاءلت إلى حد بعيد، وفي المقابل جعل الكفّة لصالحي تميل وتزيد أكثر.. احتمالات الفوز باتت أكثر وأرجح، وربما بدت لصديقي محمد هزاع على نحو ظاهر وغير ملتبس.

كان جميع المتنافسين من عزلة “الأعبوس”، فيما كنتُ أنا الوحيد من عزلة القبيطة، وهو ما أثار حميّة لا تخلو من عصبية لدى كثير من الناخبين في القبيطة، لاسيما بعد ثلاث دورات متتالية كانوا يعطون أصواتهم لمرشح “الأعبوس” المستقل والمدعوم من الحزب الاشتراكي، بدافع حزبي أو حتّى مستقل، وقد باتت الدائرة لثلاث مرات متتالية محسومة لصالح الاشتراكي، أو باتت أشبه بالمغلقة لمرشحه.

حزب التجمع اليمني للإصلاح أعتقد أن منافستي للرفيق طاهر سيعمل على انقسام الاشتراكي وبالتالي بدا أن فرصته سالكة وسانحة، وأن الانقسام الذي يبحث عنه قد حدث وتحقق بالفعل، فيما هو وأنصاره موحدين، والرهان على فوز مرشحه الدكتور عبد الودود هزاع بات معقوداً بيقين على نحو أكيد.. هكذا بدت الأمور لحزب الإصلاح، وبالتالي لم يكترث بنقضه لما تم الاتفاق عليه في “المشترك”، وذلك بجعل الدائرة من نصيب الاشتراكي الذي رشح الأستاذ طاهر، وبمباركة ودعم أحزاب “اللقاء المشترك” أيضاً، غير أن الإصلاح نقض عقده وعهده بتهور وجُرأة، وصار “اللقاء المشترك” ينافس بعضه (الاشتراكي والإصلاح).

الأستاذ طاهر ولثلاث دورات سابقة كان يترشح في الدائرة بصفة مستقل، وفي هذه الانتخابات التي بصدد الحديث عنها ترشح باسم الاشتراكي، ودعم “المشترك”، وقد أطمئن طاهر والاشتراكي أن فرصته في الفوز باتت مؤكدة، وذلك قبل أن يشرب مقلب حزب تجمع الإصلاح الذي أنقلب عليه، وعلى نحو صارخ وغير متوقع.

جميع هؤلاء المرشحين كانوا من عزلة “الأعبوس”، وهو أيضاً ما ترك لدىّ كثير من الناخبين في “القبيطة” غصّة وأثراً في النفس، حيث بدا أن النفوذ في دوائر الأحزاب كانت لصالح عزلة الأعبوس، فيما تم استبعاد مرشحهم المستقل والوحيد، والذي وعد ناخبيه بالترشح لمرة واحدة، لكسر احتكار التمثيل لثلاث دورات انتخابية، فقرروا هذه المرّة أن يقلبوا الطاولة من خلال صناديق الانتخابات، أو هكذا سارت الأمور؛ وهذا ما يفسر أيضاً أن بعض أعضاء وأنصار “إصلاح” عزلة “القبيطة” تمردوا على حزبهم، ومنحوني أصواتهم، بل وأعلن بعضهم مساندتي على نحو غير متوقع.

وبحسب الرواية، تم تسليم المؤتمر دعمه في دفعته الأولى لمرشحه، إلا أن الشيخ المرشح أراد أن يحصل على دعم أكبر، واعتقد أنه يستطيع أن يضغط في خضم هذا التنافس للحصول على مثل هذا الدعم، عندما فاجأ محافظ محافظة لحج منصور عبد الجليل بمذكرة طلب فيها الانسحاب من الترشيح لظروف مرضية ولكبر سنه؛ فوجد المؤتمر في المحافظة الفرصة التي كان يبحث عنها، وأحال المحافظ الطلب إلى نائب رئيس فرع المؤتمر الشيخ محمد هزاع.

الشيخ محمد هزاع والمحافظ، وعلى ضوء التواصل مع الجهات العليا تم تحرير مذكرة للجنة الإشراقية للانتخابات بالمحافظة، ومذكرة أخرى للقيادة الانتخابية للمؤتمر بالدائرة بسحب مرشح المؤتمر واعتماد المرشح المستقل بدلاً عنه، والعمل على إنجاحه، وابقاء كل فرق العمل الميدانية، وتوجيهها بالعمل مع المرشح المستقل.

***

وفي صنعاء وبعد فوات ميعاد الانسحاب القانوني للمرشحين استدعاني الدكتور عبدالله عبدالولي ناشر مشرف حزب المؤتمر على انتخابات الدائرة طالباً منّي اللقاء، وكنتُ قد أطمئنتُ لهذا اللقاء حيث يأتي بعد يوم من الموعد المقرر للانسحاب من الترشح، والتقينا بالفعل في مكتب الأستاذ أحمد ثابت مدير بنك اليمن الدولي، وسمعوا ما أدليه من مبررات الترشيح والاستحقاق وضمان الفوز، فأبلغني في اللقاء الأستاذ النبيل عبدالله عبد الولي، إنه بات مقتنعاً بوجاهة ما أطرحه، واتجه على الفور إلى منزل عبد الكريم الأرياني ليبلغني من هناك إن المؤتمر وافق على دعمي بصفتي “مرشح مستقل”.

أظن أن الدور المهم كان لتفهم قيادة المؤتمر للوضع الانتخابي الذي أتضحت وجهته، وللدكتور عبدالله عبدالولي، والشيخ محمد هزاع نائب رئيس فرع المؤتمر في محافظة لحج الذي كان له دورا أساس في التهيئة وتقديره المقارب للواقع، ومحافظ المحافظة منصور عبد الجليل، وكذا لصديق وزميل أخي في وقت مضى الأستاذ القدير درهم نعمان، وما كان هذا متأتّياً لولا سوء تقدير مرشح المؤتمر الشيخ علي عبدالجليل الذي قدّم لقيادة الفرع سحب ترشيحه لأسباب لم يرد أن تفضي إلى ما أفضت إليه، وهكذا سارعت قيادة فرع المؤتمر في المحافظة بالرفع السريع، وقطع دابر التراجع عنه، وعندما أراد التراجع في اليوم التالي كان الأمر قد قضي وانتهى.

***

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى