مذكرات

حالة إدمان

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

في مرحلة ما من مراحل تعاطي القات وإدمانه، وجدتُ نفسي عندما أمتنع عنه لسبب أو لآخر، أعيش حالة من الضجر والتوتر والعصبية لا سيما في تلك المواعيد والأوقات المعتادة لتعاطيه، ويستمر الحال لأيام متتالية حتى أعود إليه أو أقلع عنه.

عند النوم أعيش ليال متوالية في صراع مخيف ومحتدم مع “الجاثوم” أو ما نسميه “الرازم” أو “الدكاك”، وفي مجملها كوابيس أحس بها أنها تصل بي إلى حواف الموت.. اعيش لحظات من الرعب والهلع والشلل المخيف.. أشعر وكأنني أعيش أهوال القيامة.. أظن أن الدول التي صنّفت القات ضمن الممنوعات كانت مُحقّة إلى حد بعيد.

الكوابيس والضجر والتوتر والعصبية تحكي لديّ وجود حالة إدمان بوجه ما، وإن كنتُ أصنّف نفسي دونها قليلاً، ولم أكن أتوقع من قبل أنني سأصل إليها.

***

حاولتُ مقاومة الكوابيس عندما أجدها تداهمني، وأكون في حالة نصف يقظة، وذلك من خلال حالة أخرى في سياق مختلف، وعلى نحو اعتراضي، بحيث تخرجني إلى عالم يختلف عن كوابيس القات.. إنها حالة تشبه تحضير الأرواح التي قرأت عنها ذات يوم، وحاولت يوما تطبيقها وكدتُ أجن.. وجدتها في بعض الأحيان لا كلها تنجح في إخراجي من عالم الكوابيس المرعب إلى عالم أخف وطأة؛ لكنها لا تنقطع عنه.

نصحني أحدهم بشرب الماء عندما تأتي الكوابيس، لأن الماء يخفف من لزوجة الدم، ويجنّبني ما هو أشد، فوجدتُ الماء لا يمنع من استمرار الكوابيس، وإن كان يخفف من شعوري بالشلل، ربما على نحو يصير أخف من ذي قبل.

نصحني أحدهم بوضع قطعة حديد تحت رأسي، فوصعتُ السكين، ثم المسدس دون جدوى، وكّلما حدث هو تبدُّل في الحالة.. صارت كوابيس مختلفة وغريبة، أحسست وكأنني “مُسفَّل” في مقبرة مع الموتى.. لم يخرجني الحديد من حالة رُعبي الذي أعاني منه.

نصحني آخرون أن أقرأ ما تيسر من القرآن قبل النوم، ففعلت، بل وحضنته تارة وتوسدته تارة أخرى، ولكن حتى هذا لم ينقذني، ولم يخفف عنّي مما أنا فيه، حيث داهمتني الكوابيس في بداية دخولي النوم من كل اتجاه.. حالة رعب كادت تتحول إلى شلل.. نهضتُ من النوم وروحي تكاد تخرج من فمي، فيما أنفاسي كانت تتصاعد، وصدري ينتفخ وينكمش كالكير تحت وطأة جبل من هلع.

تساءلتُ هل يعقل أن ما أقرأه لا يستطيع هزيمة كوابيس هذا القات اللعين؟! ثم تعوذتُ من الشيطان الرجيم؛ وقلتُ لنفسي: لا .. لا يمكن هذا.. حاشا لله أن يكون.

وبعد برهة احتملتُ أن يكون السبب راجعاً إلى عوج لساني، وأخطائي في قراءة القرآن.. تذكرتُ قصتي مع أبي، ولطمة ابي لي بحذائة الذي لازلتُ أسمع طنينها إلى اليوم، وهو يرغمني على حفظ سورة الفاتحة.. أرجعتُ السبب إلى معايبي في قراءتي للقرآن؛ فالقرآن كلام ربّي، وهو محض حق، لا يعتريه شك، ولا مدخل فيه لباطل.. اذعنُ للحق طالما كان للحق سلطة وغلبة وسطوة.

نصحني صديقي نبيل الحسام أن أضع “صندل” تحت رأسي عندما أنقطع عن القات، وأريد أن أنام لأتجنب الكوابيس.. نظرتُ إلى صندله ثم إلى جزمتي، ولأنه لا يوجد لدي “صندل”، لم أعرف هل “الجزمة” تقوم بالمهمة أم لا!!

وجدتُ الأمر لا يستحمل تجربة أخرى، بعد أن تساءلتُ: لماذا أُجرّب طالما هناك تجربة صديقي المجرِّب، فضلاً أن تلك اللحظة لا تتسع لتجريب ما هو محتمل خيبته؟!

أخذتُ فردة “صندل” ابني فادي، و وضعتها تحت رأسي، وعليها غطاء من القماش.. مِلتُ نحو النوم، ثم غمرني نوم عميق كمزن السماء.. نمتُ دون أن أشعر ما يعكِّر نومي.. استيقظتُ وأنا أتساءل بعجب: يا إلهي.. ما هي علاقة الحذاء بالكوابيس.. من الذي اكتشف هذا الأمر.. وكيف تم اكتشافه..؟!!!

سمعتُ ابني فادي وهو يبحثُ عن صندله، حيث وجد فردة منها وأخرى بدت له مفقودة.. أعياه البحث عنها، وكاد لا يذهب إلى معهده قبل أن أبلغه أن فردة حذائه موجودة تحت رأسي، فيما كانت علامة الدهشة والغرابة تبدو على وجوه من سمعني، وأنا أدِّله على فردة حذائه المفقودة.

وفي اليوم الثاني بحثتُ عن نفس الـ”حذاء” ولم أجدها، بل وجدتُ “حذاءً” أخرى، ظننتها فردة “حذاء” ابني يُسري.. طويتها بالقماش، ووضعتها تحت رأسي.. يومها نمتُ نوماً لذيذاً.. حلمتُ أحلام وردية لا تأتيني إلا نادراً.

حلمتُ أنني أرقص، وأنا في الحقيقة لا أجيد الرقص.. حلمتُ أنني أرقص رقصة نشطة في قمة الروعة والخفة والجمال، ومن تراقصني كانت فتاة أكثر من جميلة، بل كثيفة الجمال.. الحقيقة لم أعرف أصل أو هوية تلك الرقصة الغريبة، غير أن الأغرب أنني رقصتها على إيقاع دقة “البرع”، وبين هذه وتلك مسافة شاسعة، ثم اكتشفتُ لحظتها أن في الجوار القريب حفلة عرس يرقصون فيها “برع”.

كانت نومتي تلك هنيئة، وأحلامي سعيدة، أردتُ أن أعيد فردة الحذاء إلى صالة المكان، الذي أخذتها منه، ولكن تفاجأت أن فردة “الحذاء” لم تكن لإبني يسري الذي رأيته لابساً حذائه، بل اكتشفتُ أنها فردة “حذاء” أخرى نستخدمها حالما نرتاد الغسيل.

***

اكتشاف آخر كان أيضاً بمحض صدفة، وذلك لمن يريد أحلاماً سعيدة.. أرأيتم إلى أين أوصلنا الإدمان على القات؟! لقد أوصلنا إلى أن نتوسد الأحذية.. وصلنا إلى حدٍ ربما لم يصل إليه مدمن الخمر..!! ولا أكبر منها إلاّ تلك القرارات التي يتم طبخها أو اتخاذها في ذروة نشوة القات، لتعود علينا بموت ودمار وخراب، والأكثر وبالاً أن نتعاطى بقبول مع تزييف الوعي، والوعي الزائف الذي يفخخ عقول الأجيال لعهود وعقود قادمة، ويفجر ويشظّى المجتمعات لقرون طوال.

الغريب أن بعض “علمائنا” المسلمين أجازوا إبقاء القات في الفم أثناء الصلاة وتلاوة القرآن فيها، فيما حرّموا أو كرهوا الغناء والرقص حتّى ونحن نتوسد الأحذية.

حرّموا الرقص، وكسروا آلات العود والموسيقى، ولم يبقوا لنا غير الحرب والبرع مستثنين “سلام” المهزوم إن أتى، وكان لهم فيه مغنماً ووفرة، حتّى وإن كان ذلك بكلفة وطن.. ما صرتُ أخشاه أن يأتي يوماً ولم يعد لنا أو لدينا حتّى أحذية نتوسدها أو نمشي بها!!

***

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى