مذكرات

طيران بلا اجنحة .. على حواف الموت

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

بعدَ شهورٍ مرِضتُ بمرضٍ لا أعرفه.. أصابني هُزالٌ وفُقدان شهية.. هَزُلَ جسمي إلى درجةٍ جعلتني أشبه بأطفالِ مجاعةِ إفريقيا الّذين نشاهدهم في الصُّورِ وشاشاتِ التّلفزة. طفولتنا كانت بائسة، نعيش فيها صراعاً مع الموت من أجل البقاء، إمّا أنْ تغلبَ المرض أو يغلبك. الموت يحوم حولك ويتربَّص بك كلَّ يومٍ وحين.

جارُنا الطيب “عبد الكريم فاضل” كان صديقاً لوالدي، عندما شاهدني بين يدي أبي قال له بذهول ودون مقدمات: “ابنك سيموت.. لن يعيش”. بدت مقولته مشبعة بيقين موت مؤكد مرتين.. إنذار بفاجعة ستداهم بيتنا على نحو وشيك.. جملتين قصيرتين نزلت على رأس أبي مثل ضرب المطرقة.. أثارت هلعه وفزعه، واستنفرت مخاوفه واهتمامه.

أربع مفردات كانت صادمة، ولكنها أيضا كانت جسر عبور لحياة أطول.. حملت سبباً لأن أتجاوز الموت وأنتزع الحياة من براثنه.. هذه الجملة المُشبَعة بالمخاوف، بدت صاعقة في نفس أبي، وجعلته يَهرعُ توَّا وعلى الفور إلى مشفى في عدن، غير أنَّ الطبيبَ أبدى له الأسف، وأخبره أنَّ حالتي صعبة، والأمل في أنْ أعيشَ ضعيف.

أشار جارنا لوالدي أنْ يذهب بي إلى طبيبٍ ماهرٍ في لحج، لرُبّما هناك يجد بصيص أمل. أبي الباحث عن ومضة أملٍ ينتابه مزيد من الهلع.. أستطيع أن أتخيّلَ هلعَ أبي وأنا في حِضنه أو مسنودٌ بيده إلى ضلعه الحنون.. أسمع خفقاته.. قلبه يدق كالطّبل.. صدره يصعد ويهبط، وأنفاسه تؤرجحني، ودمْدمَة هلعه تهزُّ وجدانه وكيانه.

هذا ما شعرت به يوماً أنا أيضاً، عندما كنت أسابق الموت، وأحاول إنقاذ ابني “فادي” من نوبة ربو، عندما كان في سنِّي تقريباً أو أكبر قليلا. أستطيع أن أستعيد اللحظة بشدتها وضيقها وحلكتها، حالما كان والدي يحاول إنقاذي من فاه الموت، وهو مصحوب بالخوف والهلع.

الشعور بأنّك تسابق الموت وتمنعه عن انتزاع طفلك من بين يديك، شعور كثيف الحضور، ولا يمكن نسيانه مهما تقادمت بك السنين وطال بك العمر. لقد عشتُ مثل هذه اللحظة الكثيفة طفلاً كما عشتُها أباً.. سارع والدي لإنقاذي من موتٍ محققٍ كان يثقل جفوني المسبلة.

وفي لحج قال الطبيب لوالدي، إنّ حالتي سيئة جداً، وإنني لم أعد أحتمل الإبر، ولن أستطيع أن أتحمَّل المرض أكثر، ولكن “لعل وعسى”، حيث قرر وصفة علاج دون إبر.. ما حدث كان أشبه بالبحث عن نقطة ضوء في غابة من الظلام، حتى جاءت المفاجأة التي انتزعت المستحيل من مخالب يأس عميم، بعد عراك وصراع وموت وشيك.

استجاب جسمي للعلاج، وأخذتْ حالتي تتحسن ببطء. بدأت أُقبل على الطعام بنهَمٍ يزداد كلّ يوم، ومن أجلي كان أبي يجلب لنا رطلا من اللحم في اليوم أتناوله كله لوحدي، ولا أترك للبقية شيئاً منه يأكلونه. هذا ما كانت تحكيه لي أمي.

كانوا إذا أعطوني قطعة منه، ما ألبث أن أعود فأطلب أخرى، حتى أنتهي من آخر قطعة اشتراها والدي. أستطيع أن أتخيل سعادة أبي وأمي.. أستطيع أن أتخيل لحظتها قلب أمي صرة فرح يطير، وأبي مغمورا بالسعادة، بعد يأس كاد أن يطبق عليه.. تفتّحت أسارير وجهه كزنابِق على شُرفات بيت عريس.. يا له من شعور أخاذ وآسر!.

نجوت وتعافيت، بل وصرت مشاغباً وشقيّاً.. كنت أخرِّب الجدران وأخربشها. أكسر زير الماء.. أرمي بمجالس الأكل على أي شيء.. أكسر الزجاج. أرمي بأواني الطعام.. أرتكب كلّ الحماقات وأرمي كل ما تَطالُه يدي على ما تقع عليه عيني. فيما كانت أمي تبكي من أفعالي أحياناً، وتغضب أحياناً أخرى، وتعاقبني بقسوة في مُعظم الأحيان, كان بكائي الصارخ والضجيج يملآن البيت كل ساعة، حتى شكا الجيران ومؤجر البيت إلى أبي بسبب إزعاجي وبكائي. كنت مزعجاً لأهلي وللجيران والمؤجر. لم أكف عن الشّقاوة والبكاء والضجيج والصراخ.

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى