مذكرات

طيران بلا أجنحة .. رهافة وقطعان وحرب..!! “محدث”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

تملكتُ يوماً أنثى قرد صغيرة أهدتني إياها إحدى العجائز، أو ربما اشترتها لي أُمي بّعد أن لاحظتَ تعلّقي بها من النظرة الأولى كعاشق لهوف.. الحقيقة لم أعد أذكر كيف تملّكتها، ولكن أذكر أن السعادة كانت تغمرني إلى حد يفوق التصوّر.. أول مرة أرى “قردة” بهذا القُرب في المسافة، وأرى بعض تصرفاتها تحاكي أو تقارب تصرفاتنا نحن البشر، بل وتمنحنا الفرح والضحك والعجب، والابتسامات العريضة والمُشرقة.

كانت هذه “القردة” تلاطفني وتبادلني مشاعر الود والبراءة.. تملأ فراغي وتجلب لي كثيراً من الفرح والسعادة والعجب.. كانت تملأ حياتي بهجة، وربما أعوّضها وتعوّضني كثيراً من حنان فقده كلانا.. أحبّها بجنون.. تأسرني وآسرها بحميمية تغمرنا وتفيض.. أهتم بها إلى حد بعيد، وهي أيضاً تفتش شعر رأسي كل يوم، وتهتم بي على نحو لا يصدق.

جاء والدي من عدن، وأول ما رآني معها وكأن ألف شيطان تدرّعه.. ضربني وضربها.. كنتُ جلداً وقادراً على احتمال الضرب، غير أنني غير قادر على فراقها، ولكنّه أرغمني مكرهاً على تركها للجبل، ومصيرها المجهول.

كانت الفكرة لديّ والتي سمعتها من إحدى العمّات بما معناه أن قطيع القرود في الجبل لا يقبلون ”قردة” من خارج قطيعهم، سيهاجمونها بشدّة.. سيفتكون بها وسيأكلونها، لأنها فقط غريبة عنهم، ولا تنتمي إلى قطيعهم، ولأن رائحة البشر تظل عالقة فيها، ولن تفارقها.. كنتُ أتخيل مصيرها فاجعاً ووحشياً..

عشتُ ألما بالغاً ربما أضعاف الألم الذي كنتُ أتخيلها فيه.. عشتُ كآبة تشبه كآبة الحِداد.. حسرة بدت لي لا حدود لها.. كان حالي أشبه بمن فقد عزيزاً حميماً لا يستطيع العيش دونه.. حميم غيّب الموت صاحبه، أو حبيب غيّب الموت محبه للأبد.

كنتُ أتخيّلها وهي في الجبل تعاني الجوع والعطش, ويعصرها ألم الفراق، وكثير مما لا تطيق من تيه وفقدان، ومصير بات مجهولاً، واحتمالاته مفُزعة.. أغلب الظن بل لا شك أن نهايتها ستكون فاجعة وأليمة.

صرتُ لوقت أعاني أكثر مما أحتمل.. أشعر أن جسمي النحيل بات محطماً ومهدوداً لا حيل له.. خيالي يسرح بعيداً مستقصياً معاناتها المريرة. مصابنا جلل، ومعاناة كلانا تبدو مهولة.

كنتُ أتخيّلها وهي تلوذ إلى قطيع القردة تسترحمهم وترجوهم، فيما القرود تهاجمها ببشاعة، وتنهشها بشراهة وحوش آكلة اللحوم.. تُمزِّق جلدها، وتغرس أنيابها في جسدها النحيل، وتتنازع أوصالها وأشلاءها. عشتُ ألماً وحسرة، فاق يومها ذاكرتي المنهكة.

لقد كانت طفولة في جانب منها تنزع نحو تمرُّد إنساني ربما في بعضها كان من نوع آخر.. أحسستُ أنها طفولة تليق بإنسانيتي، وفيه يختلج احتجاج على الموت، وهذه الحياة البائسة.

هذه الحياة القطيعة لا تقتصر على عالم القرود، بل نجدها تشمل عالم الحيوان على وجه غالب أو أعم، بل وتمتد أيضا إلى عالم البشر، وتنال من مكانة العقل، بل وتحط من مرتبة ذلك الإنسان المقرون صفته بالعاقل.

وإذا كانت الحياة القطيعية في الممالك الحيوانية تعود إلى أسباب ودوافع غرائزية كالخوف وحماية القطيع، فأن القطعان البشرية تؤسس وتستند بالإضافة إلى ما سبق إلى دوفع وأسباب عصبوية اجتماعية، وأيديولوجية، وعنصرية تمييزية، أكثر خطراً من تلك التي تعيشها القرود، وغيرها من الحيوانات.. الحياة القطيعة لبني البشر محكومة بعصوبيه تقف على الضد من العقل والكرامة والمساواة ومستقبل الإنسان الباحث عن الرقي والتقدم والعدالة.

***

كنتُ في مرحلة ما في طفولتي أمنع أُمّي من أن تذبح دجاجة لتعينني على المرض. معالجة المرض بمرق الدجاج ولحمها، كان لديّ غير مستلطف، إن لم يكن أحياناً أشبه بمعالجة المريض بالكي، ووشم الجلد بالنار، قبل أن أعتاد لاحقاً على واقع الحال.

كنتُ أشعر بسعادة غامرة، وأنا أطيل عمر دجاجنا، وأكتفي ببيضها. أشعر براحة عميقة، وأنا أرى الدجاج تعيش، وقد أنقذتها من مصير ذابح وأليم.. تغمرُني السعادة وأنا أسمع صوتها طربة في الأيام التي تلي يوم إنقاذها، أو أراها مشرقة وعاشقة للحياة. أشعرُ ملياً أن الحياة أولى وأحق من الموت والمرض.

وفيما بعد فرض الواقع نفسه، واليوم بات الواقع صادم ومُراغم ومُرعب، حيث فرض علينا شروطه وقسوته.. هذا العالم بات مُشكل ومُحيّر.. الحيرة صارت كبيرة بقدر ما يحدث في هذا العالم من طغيان وموت ومصائب.. طغيانها علينا صار أشد وأثقل، في عالم ضاق بعدله، أو صار في مجمله غير عادل، أو هذا ما تسرّب وتشرّب منه مخيالي المعجون بالألم.

رهافتي مازالت ترافقني على الكِبر، وترفض أن تغادرني حتّى وإن سخرت منّي مكابرة الرجولة.. لازال ضميري يعاتبني حالما أتجاهله.. لازالت احتجاجات الوجود تضجُّ داخلي وتملؤني بالضجيج. لازال داخلي إنسان يصرخ ويستنطق ضميري في كل موقف ومأساة.

***

حرب اليمن، أو بالأحرى الحرب على اليمن كانت بشعة ومرعبة وكارثية.. عشناها وما زلنا نعيش تبعاتها وأثارها المباشرة إلى اليوم، وتتمدد إلى المستقبل بعمر أجيال.. باتت مأساتنا كما نعيشها ونحس بها، أجلّ وأكبر من هذا الكون الكبير، أو هذا ما يختلج في وجداننا على نحو عميق. هذه الحرب الضروس طال أمَدُها سبع سنوات، مجحفلة بالموت والمعاناة والألم، عظم مصابنا بها.. صبت على رؤوسنا جحيماً وويلات كبار، لم تعد تميّز بين حجرة وشجرة.

اليوم كبرتُ وخبرتُ الحياة أكثر، ولازالت رهافتي تتسع، واحتجاجي لازال يكبر.. لازلتُ إلى اليوم في كثير منّي مسكوناً بذلك الطفل الصغير، وقد صرتُ أوغل في المشيب، وربما أدنو من كهولة تقترب.

باتت السنة الواحدة في هذه الحرب الضروس أكبر من سبع سنوات عجاف، وصارت الحرب بطولها تفرض مخرجاتها، وتستمر تبعاتها، ولا تريد أن تضع لمعاناتنا نهاية.

نفي النفي ينتظرني على حواف قبر ليهيل على جسدي التراب، والمجهول بات يسارع خطاه في المجيء نحونا دون كفن ولا قبر. القبور تزاحمت.. ضاقت بنا المقابر.. المقابر باتت بلا شُرفات أو منافس، والأجساد باتت تبحث عن أكفانها، في وطن تلاشى حتّى بات أصغر من قبر لازال يجهل عمر صاحبه.

***

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى