طيران بلا أجنحة .. كدتُ أكون مجرماً “محدث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
في المرحلة الأولى من حياتي كنتُ حساساً كجهاز قياس شديد الحساسية.. انطوائياً وخجولاً وشفّافاً.. مرهف الحس وجياش العواطف.. متمرداً إلى الحد الذي أثور فيه على أبي.. عاطفي إلى الحد الذي أفكر فيه بالخلاص من عذابي في الحياة. شقياً أحيانا إلى حد الجنون.. صراع انتهى بأن أنتصر فيه الخير على الشر، والحياة على الموت، والإنسان على ما عداه.
ربما، يوماً عبرت فكرة فاسدة في خاطري، ولكن سرعان ما يقاومها نقيضها داخلي.. أردتُ يوماً أن تكون لديّ خيزرانة، مثل تلك التي كان يفلكني بها الأستاذ في المدرسة، أنال بها من هم دوني، لأشعر بالرغبة والزهو والاستمتاع، حتّى وإن كانوا المفلوكين إخوتي الصغار، ثم أتذكّر الألم والوجع الذي كان يدوم أياماً، ويدوم ندوبها في النفس أكثر، فأطرد هذه الفكرة من أساسها، وأقلعها من وجودها، ولا أسمح لها أن تعاودني مرة أخرى.
في طفولتي اعتديتُ على بيوت الدبابير، وكانت تواً تلاحقني، ونالت لسعاتها مني، وتورّم وجهي من لسعاتها، وثخن عنقي وأطرافي، وسرى سمّها في جسدي المنهك والنحيل، وكان بعضها يحتاج إلى أيام لأتعافى وأبرأ من ورمها، ومما يصاحبها من حمّى تعتريني بسبب لسعاتها.
كنتُ يومها أنا المعتدي، وكانت هي تدافع عن حقها في الحياة.. حقها في أن تعيش وقد وجدت نفسها في حياة مُرغمة.. ليس ذنبها أنها تصنع السم، رغم أنها تتغذي من نفس الزهور التي تصنع النحل منها العسل.. لم أفطن لهذا الحال يومها.. وعندما كبرتُ وجدتُ تلك الحياة لا تروقني، وتؤلمني شرورها، فأبحث عن العدالة، والخير المحض، وعالم لم يأت بعد، وربما لن يأتي إلى الأبد.
***
من أهم الكتب التي لعبت دوراً في صياغة وعيي وتفكيري لاحقا، كتاب نقد الفكر الديني لصادق جلال العظم، وكتاب من تاريخ التعذيب السياسي في الإسلام، وكتاب الاغتيال السياسي في الإسلام لهادي العلوي، والنزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية لحسين مروّة، وبعض كتب سلامة موسى، وروايات عديدة منها رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني، وقرية البتول لمحمد حنيبر وغيرها.
حلمتُ أن أكون شهيداً أو أن أُخلّد شهيداً.. تأثرتُ بقصّة استشهاد “سناء محيدلي”.. كبرتُ ولم أنسِ قصتها، وسمّيتُّ ابنتي الأولى سناء تيمناً وإعجاباً بهذه الفتاة اللبنانية التي نفذت عملية انتحارية ضد رتل من عربات الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان.
أعجبتُ وقرأت عن الثورة الكوبية، وعن الثوري “جيفارا” في مرحلة باكرة من حياتي.. اسميتُ ابني “فيدل” قبل أن يصير اسمه فادي عرفاناً لفيدل كسترو ولكوبا قلعة الصمود، والصوت الذي كان ينحاز إلى قضايا العرب في المحافل الدولية إبان حرب “أمريكا” على العراق.
انتميتُ إلى اليسار، وسمّيت ابني الثاني يسار قبل أن يصير اسمه يسري.. في مرحلة من حياتي صار انحيازي للفقراء ولليسار في الاقتصاد وقبله العدالة الاجتماعية، وربّما في مرحلة أخرى ملتُ للبرَّلة فيما يتعلق بحرية الفكر، ولكن لاحقاً وجدتُ “اللبرّلة” كلّها ربما لا تتسع لفكرة أو كتاب.
أما اليوم فأنّي أعشق المستقبل الذي أبحث عنه، وأدّعي أنني صرت صاحب رأي، وأنتمي للإنسان أولاً، وأنزع للاستقلالية كثيراً، وأرفض أن أكون واحداً في قطيع.. لا أحب القيود التي تريدني أن أعيش في جحورها، أو في ماض متخلف ورتيب لا يقوى على الحراك نحو المستقبل.. أقاوم الظلم والقهر والاستبداد تحت أي عنوان أو مسمّى كان.. أعشق الحرية الى أبعد مدى..
***
أن تكون في مرحلة من طفولتك أو كلّها مُرهف الحس ورقيق المشاعر لا يعني أنك لم ترتكب في مرحلة ما حماقات وانفعالات وأفعالاً غير سوية، ربما يصل بعضها حد الجريمة أو يكاد.. عوامل شتّى ربما تدفعك في لحظة حرجة إلى فقدان صوابك، وعدم تقدير نتائج أفعالك، وربما تكون أنت والضحية معاً ضحايا لواقعك.
أن تكون طفلاً جيّاش العواطف لا يعني أنك ستكون حدثاً سوياً على وجه التمام، أو أن حياتك المراهقة ستكون خالية من النتوءات، والحادة أحياناً، أو أنها لن تخرج عن المسلك السوي، وربّما على نحو فظ في بعض الأحايين.. حياة سيكتنفها كثير من التمرّد، وربما الشقاوة والقساوة أيضاً بوجهٍ ما في مجتمع تقليدي ما زال يمارس القسوة كفضيلة.
عشتُ قسوة الحياة في واقع أشد قساوة، وربما وجدتُ نفسي في لحظات ما وإن كانت عابرة مطبوعاً بانفعال حاد، وارتكبتُ أو كدتُ أرتكب ما هو خارج سياقي، ويتعارض مع طبيعتي وفطرتي، ولكن سرعان ما يعقبها الندم، أو الشعور بالذنب، والتمنّي أن لا أكون قد فعلت ما فعلته.
حياتي في جزء من طفولتي ومراهقتي ربما اتسمت فيها علاقتي مع والدي في بعضها بالقسوة، ولكن يمكنني القول بجزم إنه في العشر السنوات الأخيرة من حياة أبي قبل وفاته، والذي توفّى على الأرجح في الربع الأخير من نهاية العام 1997 كانت على خير ما يرام.. حب وود وإحساس كثيف كل منّا بالآخر.
مات أبي وهو راض عنّي إلى حد بعيد، وكنت راضياً عنه إلى ذلك الحد وأكثر.. تنازل هو عن قسوته، وسلطته الأبوية الآمرة، وتنازلتُ أنا عن تمرُّداتي عليه. وساد بيننا كثير من الحب والاحترام والتقدير والاعتزاز ببعض.. تصالحتُ مع أبي إلى حد حميم، ولم أتصالح مع السلطات المستبدّة إلى اليوم.. اكتشفتُ أن التصالح مع السلطة في الغالب والأعم أمر نادر إن لم يكن مستحيل، وإن السلطة مُفسدة، ونادر أو قليل من استطاع الإفلات من ربقة فسادها، وفخاخها.
ظل تمردّي ضد السلطة السياسية الظالمة إلى يومنا هذا بكل مسمياتها وأقنعتها الزائفة. أعيش عناداً لا يكل.. حياتي رفض، ومراغمة ومقاومة مستمرة معها، ربما لأن السلطة المستبدة بأي لباس كانت غير أبي، ترفض التنازل عن سلطتها للناس، وتسعى بكدها وكديدها وعنفها إلى إخضاعهم لها، بل وربّما تملُّكهم، وتملّك حاضرهم ومستقبلهم معاً.
لا أملك إلا أن أقول شكراً يا أبي، كنتَ لي مدرسة تعلمتُ ونهلتُ منها أن أقاوم السلطة التي تسعى لفرض سطوتها وسلطتها ورؤاها على الناس، وتريد أن تتملكهم، وتتملك حاضرهم ومستقبلهم إلى الأبد.
وفي المقام نفسه أزعم أن الحياة والمآسي والمشاهد الكثيرة والقراءة لما هو إنساني علمتني قطعاً أن أرفض ممارسة الظلم وقهر الناس، وأتجنّب الطيش والانفعالات الحادة التي تؤدي بي إلى الندم والشعور بالذنب. أحرص أن يكون ضميري هو دليلي ورقيبي، ضد الظلم تحت أي مسمّى كان.
أجد نفسي ضد انتهاكات حقوق الإنسان وحرياته مهما كانت ادعاءات السلطة المنتهكة للحقوق.. ضد الظلم، والاستبداد بكل صُوره، وأولها اللابسة لباس الدين والتي تلبس ظلمها واستبدادها لباس المقدّس.. منحاز لقضايا الفقراء الذين أجد نفسي منتمياً لهم، ولكن دون أن ينال ذلك من مكان ومقام الإنسان وكرامته.. درستُ القانون والقضاء ودافعتُ عن حقوق وحريات الناس.. أعشق الحريّات… وأحلم أن يكون سقفها السماء، بل وأكثر من ذلك إن كان ممكناً.
***
أعلم أن المُجرم لم يُخلق مجرماً، أو يُولد وهو يشتهي الشر والإجرام، ولكن هناك عوامل شتى، وظروف متكاثرة وضاغطة تتضافر، ودروب زلقة تغلب المحاذير.. فبعض بني البشر ينفد صبرهم في لحظة ضعف وأنانية، أو عجل وحمق وطيش.
بين السوية والإجرام الذي أعنيه خيط رفيع في لحظة ضيق وعمى لا نراه، فننزلق إلى ما لا يُحمد عقباه، وإن داهم الندم أي منّا؛ ردت الأقدار عليه: لقد أطلقت للجنون عنانه، فانزلقت شر منزلق، ووقعت في محذور جلل، و “لات ساعة مندم”.. هنا تكون سلطة العقاب ضرورية دون إفراط أو تسيس أو إخلال بالعدالة.
ربّما تصير النسمات الندية في موقد الحدّاد كتلة من لهب.. ربما يصير رقيق الإحساس ورهيف المشاعر مجرماً يتهدد من حوله بالخطر، ومن كان حساساً وجياش العواطف، ربما تجتاحه لوثة في عقلة، أو نوبة من جنون. ربّما من كان يرعى النمل ويطعمها ويحنو عليها، ومن كان يطلق سراح الفئران من المصيدة ويتعاطف معها، ويتفهم حاجتها للحياة، يصير مرّة واحدة، قاتل أبيه.
ربّما من كان مقدّراً له أن يكون في مستقبل حياته قاضياً أو محامياً أو حقوقياً من الطراز الرفيع، يصير بسقطة ليل، أو فلتة في نهار قاتلاً لإنسان.. ربما السوي في لحظة ضعف أو نوبة غضب، يصير مجرماً.
***
أنا بشر كاد يغلبني الشر يوماً.. كدت أكون يوماً ضحية ظروفي، وطيشي الأول، و تعجّلي وحماقاتي، وربما أيضاً انانيتي البغيضة، وانفعالاتي الشاردة التي فلت منّي عقالها وراغمتُ المحاذير.. كدتُ يوماً أن أكون مجرماً قاتل أبيه، وفي نفس الوقت ضحية هذا الواقع المحكوم بالأقدار والمجاهيل.
لازلتُ أذكر عندما ذهبت أبحث عن ماء النار في “قطيع عدن”، لأشتريه بمال قليل كنت أعوز إليه في حاجتي الأخرى. ولكن قال لي البائع يومها أنه لا يبيع ماء النار إلا بترخيص.. وكان النظام يومها يقضي بذلك.
ذهبتُ أبحث عن وسيلة أخرى، و أنا أغتلي وأثور.. أكظم غيظي الكبير، وأداري حممي في دخائلي إلى حين.. اشتريتُ سكيناً و طويتها بورقة بيضاء، ووضعتها تحت الحزام.. أخفيتها بقميصي ومئزري.. وذهبتُ أبحثُ عنه في المساجد المعتاد ارتيادها، ولكنني لم أجده، وكأن “الحافظ” يومها هو من حماه أو انحاز إليه، أو كنتُ أنا محمياً بملاك حارس، أو حظ ولطف قدر.
بحثتُ عنه في كل الأمكنة التي يرتادها، والمفترض أن أجده فيها، ولكن يومها لم أجد له أثراً أو لمح بصر، وكأن الحظ أو لطف القدر كان قاصداً و متعمداً أن يحميني من نفسي وينجيه.
كنتُ وأنا أبحث عنه أتخيّل ما سأفعله.. كانت يدي اليمنى تتحفز كصقر يتحين الانقضاض.. كانت تقفز يدي منّي في الهواء لتفعل ما أتخيّله وأنتويه.. كنتُ وأنا أسير بعصبية شبيه ذلك المجنون الذي يُدعى “العولقية” أو المنعوت بها، وشهرة غلبت على اسمه الذي تلاشى، أو أختزل باسم “العولقية” الذي يكتنفها الغموض.
كان يطلق يده بعصبية في الهواء، وكأنه يقصد غرز يده في بطن من يراه أمامه، ونحن نراه ويأخذنا العجب.. كأنها عقدة عميقة وقوية، تتنفس من أغواره، ومحابسه الدفينة.
عندما هدأ الدم في عروقي المشتعلة، وخمدت الحمم والنيران التي كانت تجتاحني وتأكلني وتضطرم في دواخلي الغاضبة، شعرتُ بالندم الكبير، فاتجهتُ إلى رجل طيب من قريتنا اسمه “صالح الهارش”، متصالح مع نفسه إلى حد بعيد، يقيم في منطقة “الخساف”، وأهديته السكين ربما دون أن أخبره بقصّتها، أو أهديتُ معها عذراً كاذباً.. الحقيقة لم أعد أتذكر التفاصيل، ولكن ما أتذكره جيداً أنني شكرتُ الحظ والقدر الحليف؛ لأنه خذلني في نوبة من طيشي وجنوني.. كان عمري يومها دون البلوغ.
اليوم ومخيالي يستعيد ذاكرة طمرها الزمن وألقى عليها سدوله، أتخيّل ذلك الموقف المرعب والمخيف، وأرى نفسي أنني كدتُ أن أكون مجرم، أو أشبه بأولئك المجرمين الذين وقعوا فيما هو محذور وجلل، في لحظة ضعف وأنانية، أو طيش غضوب، أو رعونة مُستفزة.
أتذكر الحماقة التي كادت يوماً تأخذني معها إلى السجن، وعاراً سيلاحقني دون أن ينتهي، وأقضي بعدها بقية عمري حزينا ومعذبا تأكلني الحسرة والندم. وربما أعقد العزم وأنتحر قبل أن تأكلني العيون والأقاويل.
وبين اليوم والأمس البعيد اختلف كل شيء .. صرتُ أرى مد اليد تخلفاً فظاً، وبذاءة اللسان أمراً لا يليق بإنسان.
***