طيران بلا أجنحة .. أمة المليار الذهبي..!! “محدث”
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
كنت طفلاً صغيراً مُرهف الحس والحواس.. جياش العواطف والمشاعر. كثير من التصرفات التي تبدّت منّي في تلك المرحلة ربما كانت طبيعية بفعل كثافة وتدافع تلك الأحاسيس والمشاعر في عهد الطفولة المتـأججة بها، أمّا أن ترافقني بعضها في كِبري، وقد أوغلت في العمر، فربما تبدو للكثيرين غير سوية، إن لم تكن بلهاء وساذجة.. ماذا أفعل؟! مازال في حناياي طفل يرفض أن يكبر، ولا يريد أن يموت، أو يشيخ أو يغادر..!!
***
لازلتُ أتذكّر حالما كنتُ طفلاً، وأنا أضع أنواعاً من الحبوب على أبوب بيوت النمل لتقتات منها، وقد رمتُ أن تعيش برغد ورخاء، أو أخفف عنها تعباً وإملاقاً، وأجنّبها خطراً أشد.. أحياناً أفيض عليها بالكرم إن توقعتُ تأخر مجيئي إليها في المرة القادمة.. كنتُ لا أريدها أن تذهب بعيداً عن بيوتها، حتى لا تخاطر بحياتها، وتتعرض للدوس تحت أقدام البشر، أو السحق تحت حوافر الماشية.
أساعدها في بناء بيوت غائرة في الطين، وأحصّنها بالحجارة والصفيح حتى أقيئها من خراب السيل، وغمر المطر، وحتّى تظل بيوتها عامرة لا يطالها هدم أو خراب. هكذا كنتُ أفكّر، وأكثر منه أحاول التحدّث إليها في خلوتي معها لإفهامها بما أفعله، وما أريده منها، وما أحاول أن أجنّبها إياه من المخاطر التي أراها وشيكة أو مُحدقة. كنتُ أظن أن النمل تفهم كلامي كما فهم نبي الله سليمان حديث النمل، وفهمتَ النمل كلام سليمان.
كنتُ أحياناً أجمع بعض النمل الشارد والتائه، وأبني لها مستوطنة، داخل صفيح عُلبة الحليب “النيدو” الفارغة، بعد أن أملأها بعجين الطين، وابني لها غرفاً ومخازن أقوم بتعبئتها بأنواع الحبوب، حتى لا تموت ولا تجوع، ولا تهجر ديارها المستحدثة.
حرستُ النمل ورعيتُها أياماً وأسابيعا، وعند سفري الى عدن ذهبتُ بعلبة الصفيح إلى مكان قصي وآمن.. غرستُها في أرض أبي، ووفرتُ لها كثيراً من الحبوب لتقتاتُ وتعيش أطول فترة ممكنة، رغم ضجيج الخالة، ومعارضتها لما أفعله، حتّى بدوت أمامها كطفل مختل ومعتوه أو قليل العقل، حالما كانت تسترق السمع، وأنا أتحدث إلى النمل في خلوتي .
***
وفي واقعة أخرى وضعتُ مصيدة للفئران.. وفي الصباح وجدت الفأرة هامدة، وقد وقعت في قبضة المصيدة الضارب حديدها على عنقها المخنوق، والمسنود من الأسفل بنتوءات وأسنان حداد صارت ناشبة في أسفل عُنقها، وقد فاضت روحها، ربما منذ ساعات.
رأيتُ فأراً صغيراً بجوارها، يكاد يكون لصيقاً بها في مشهد مؤثر ومُحزن.. شاهدته وكأن الحسرة تتملكه وتشل قواه.. رأيته يتنفس بسرعة، ربما كان مثقلاً بحزن وقلق وحيرة.. توقعتُ أن يهرب لمجرد أن يرى قدومي إليه وأنا أقترب منه، ولكنه لم يهرب ولم يحاول.
حاولتُ أن أستثير نفوره وأثير فيه غريزة البقاء أو النجاة، لكنه بدأ لي غير مبال أو مكترث.. رفض الهروب و مبارحة أمه في المكان.. تساءلتُ مع نفسي: هل هو قليل الخبرة والاحساس بالخطر ولا يعرف ما يتهدده من موت وفناء ، أو لا يدركُ ما ستذهب إليه قسوة البشر..؟! أم أنه لم يأنس إلا بالبقاء جوار أُمّه المخنوقة، واستحال عليه فراقها، حتى وإن لحق بها؟!
تأثرتُ بالمشهد، وساحت من عيوني الدموع.. رجوتُ الصفح من ضحية فارقتها الحياة، غير أنها لم تعد تقوى على الصفح والغفران، وقد ذهبت روحها إلى بارئها في السماء.. حاولتُ أن أكفّر عن جريرتي بإطعام صغيرها، وتحريره بنقله إلى مكان آمن يقتاتُ منه، حتى تشتد قواه، ويعيش حراً طليقاً، ودعوتُ له بطول العُمر وطيب الإقامة.
تمنيتُ أن أرثي الأم القتيلة، ولكن من يُوحي لي بآية، أو يتلبسني لأبدع قصيدة؟!! ندمتُ على فعلتي أشد الندم.. حزنتُ كثيراً لهذا القدر.. دعوتُ الله، وطلبت منه المغفرة، وقرأتُ على روحها ما حفظتُ من قصار سور القرآن، وشيعتها بمراسيم دفن بدت لي مهيبة ولائقة ..!!
وبعد أن صرتُ راشداً، وجدتُ ساسةً أوغاداً وماكرين من بني البشر، يقتلون القتيل ثم يسيرون في جنازته، ويمسحون بلطف على رؤوس أطفاله الصغار، وربما يقدمون لهم رواتب وهدايا، ويصنعون لهم بعض من جميل ومعروف، ولكن ليس من باب التكفير، أو استعادة الضمير، أو الشعور بالذنب والمسؤولية، ولكن إمعاناً بالمكر الذي صار بعض منهم، وتلبُّس ما هو زائف وخادع لمزيد من المكر والخبث، وربما للبحث عن مزيد من الضحايا.
وعندما أوغلتُ في العمر والحياة والتجربة، وقرأتُ بعض وقائع التاريخ، ومشاهده المثقلة بالمآسي والجراح الغائرة، أطللتُ على ما هو أكثر عجباً، وفيها يرثُ القاتل زوجة المقتول وماله، بل يتزوج مثنى وثلاث ورباع.
وبقي السؤال إلى اليوم ينهش رأسي وروحي المتعبة، وينقر ذاكرتي المنهكة؛ لماذا يحدث كل هذا وما ماثله، بل وما يفوقه قسوة في حروب أكثر بشاعة و وحشية ..؟!
الحقيقة أنه أكثر من سؤال.. أكبر من حيرة، وألغز من لغز لم أجب عليه حتى يومنا هذا، وقد صرتُ بعد الستين من العُمر..!! فيما رجع الصدّى كان يجوس داخلي ويسألني فأصده وأقمعه، فيطل فضولٌ ليسأل: لماذا ما تعطيه الحياة يأخذه الموت؟! فتجيبه وسوسة شيطان: لا يمكن أن تكون الحياة عبثية، والموت حكمة!! وحتى لا أنزلق في بحر من فلسفة ومنطق، اضطررتُ لطردهما من المكان كله.
***
واعود إلى مصيدة الفئران ولكن هذه المرة ترجع إلى العام 2005 إن لم يكن في العام الذي يليه، حيث حدثت حالة مماثلة لتلك التي حدثت حالما كنت طفلاً، مع فارق واختلاف.
كان الحدث الجديد في عمارة “الفاقوس” بصنعاء التي كنت أقيم فيها، بعد أن وضع أحد أبنائي دون علمي مصيدة للفئران؛ فقبضتُ على يد فأر، والعجيب أن عدداً من الفئران ظلوا يحومون حوله.. ربما يحاولون فعل شيء ليس بمقدورهم فعله، وربما حتّى فهمه.. كانوا يتوجعون لما أصاب رفيقهم، وربما يحاولون إنقاذه، أو هذا ما كانوا يرجونه في لحظة قاسية كتلك!!
عندّما رأيتُ هذا المشهد، هرعتُ لإطلاق الفأر الواقع يده في مقبضة شرك المصيدة، وفضلاً عن ذلك حرصتُ على منح النجاة لجميع الفئران الذين كانوا يحومون حوله، وعلى مقربة منه.. إنهم يستحقون النجاة على الأقل لأنهم لم يخذلوا رفيقهم، ولم يتركوه.. كانوا الأكثر وفاء له في محنته، وفي أسرٍهِ ومُصابه.
ولكن ما كان له وقع أكثر في نفسي هو استدراج الفئران بفتات من طعام، فتهلك في المصائد بدافع الحياة، وغريزة الجوع.. الموتُ بات حصاراً مطبقاً عليها، وفرص الحياة أمامها تضيق، وحظوظها تقل، أو لا تتكرر كثيراً، لاسيما أن استهدافها بالموت من قبل البشر صار يكبر ويتّسع.
الفئران باتت خياراتها صعبة.. إن لم تأكل ستموت، وإن أكلت ستكون ضحية مصيدة تقتلها، أو سم زعاف يستهدف حشودها ووجودها. الفئران ذنبها أنها تريد أن تعيش وتتكاثر فقط بحكم وجودها وغرائزها التي جُبلت عليها، وبسبب غريزة الجوع تقع في مصائد الموت بكل أنواعها، بما فيها تلك التي يستهدف وجودها.
الفئران بسبب غريزة الجوع وبدافع إشباعها تتحول إلى ضحايا يعتاش عليها الموتُ.. إنها مأساة ما أكثر نظائرها فينا نحن البشر، دون إهمال فوارق جمة، غير أن أكثرها تصبُّ لصالح غيرنا.
كثيرٌ من الفقراء وأبنائهم وما أكثرهم بسبب ودافع الجوع والعوز والحاجة باتت منهم تجيَّش الجيوش، وبهم ومنهم يُسفك الدم، وتنتشر الحروب والحرائق والخرائب.. يصيرون هم محاطبها ووقودها، وهم ضحايا الأطماع الجهنّمية لمن يملكون المال والحياة، الساعون لاستغلال الشعوب وإخضاعها واستعبادها ونهبها، وتنفيذ ما أمكن من الإبادة والقتل غير الرحيم، ليعيش عالم المليار، وتموتُ المليارات الأخرى الفقيرة بألف حيلة ووسيلة.
وسيظلُّ قدرنا هو أن نناضل في وجه هذه الأنانية المفرطة، ومواجهة هذه الثقافة المشبعة بالموت، وتبريراتها الظالمة، وستضل تلك المقولة خالدة في فلسفة الطيبين لمواجهة الأشرار والأوغاد: “حتى لو أثبتت المواقف أن “الطيب لا يعيش” ولكن إياك أن تبحث عن مكان شاغر بين الأوغاد.”
***