مذكرات

طيران بلا اجنحة .. معركة مع الموت وحرب مع الف لعنة..!!

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

ولدت أمي بنتاً أسمتها “بركة”، على اسم أُمّها، غير أن مزعوم نحسها البالغ، حملهم على نحو عاجل إلى تغيير اسمها إلى “نادية”، نسبة إلى إحدى المذيعات، وذلك للتخفيف من نحس توعد مزعومه أنه سيطولنا جميعاً في معيشتنا وأحوالنا، بل وأيضاً سيؤدي إلى الفراق بين أبي وأمي.

والعجيب أن أبي تم الاستغناء عنه من عمله في شركة “البس”، بعد أيام قليلة من ولادتها؛ ليتحول الظن الغالب لدى والديّ إلى ما يشبه اليقين، الأمر الذي أثار في نفسيهما جيشاً من المخاوف حيال مستقبل غامض ومجهول، ومحلاً لقلق ظل يكبر ويتسع.

اعتقد أبي وأمّي أن هذا النحس سيظل يلاحق معيشتنا كلعنة حتّى يُرزقان بمولود جديد آخر يجلب لنا السعد والأمل، ويقطع هذا النحس، ويطيح به، والذي جاء وخيماً على سبب رزقنا من أول اطلالة له، ولكن حتّى ذلك الأمل البعيد المعوّل عليه، يحتاج على الأقل إلى انتظاره حولاً كاملاً، وربما سنوات، وفي كل حال يظل هذا أمراً بظهر الغيب، قد يقع أو يتأخر أو قد لا يقع.

وظل السؤال يجوس: من أين نجد لقمة عيشنا هذه المدة، أو قليلاً منها، إن لم يسوء الحال أكثر، وتمتد هذه المدة وتتباعد، ويباعدها أكثر أن يكون المولود القادم نحساً أخر، ليصير لدينا نحس مضاعف، وربما نحوس متعددة ومتضاعفة؟!! و”المصائب لا تأتي فُرادى”.

إن الاتهام بالنحس لمولودة لا تعي شيئاً مما يحدث حولها ، هو دون شك اتهاماً قاسياً وفاسداً، وأكثر منه الذهاب إلى إدانتها بهذا النحس على أساس من معتقد غيبي لا دليل له، ولا برهان عليه، كما إن الإمعان بالتمسك بما هو وهم وزائف، واعتباره يقيناً لا ريب فيه، هو تكريس لحالة الوهم دون طائل، وأكثر منه استهداف تلك الإدانة لمولودة لا شأن لها فيما نحن بصدده، ولا دخل لها فيما تم اطلاقه من حكم جائر بحقها، وهو ظلم مركب وفادح وأكيد.

أختي “نادية” بالتأكيد لم تختر أقدارها، أو تاريخ ميلادها، ولا برجها وطالعها، ولم تختر شيئا تستحق عليه لوماً أو عتاباً من أي نوع كان، فضلاً عن توجيه اتهام وإدانة لها، والأكيد أيضاً أنها ضحية، لا علاقة لها بما يتداوله “الكبار” من تنجيم وطوالع وأفلاك، وليس لها خياراً فيه، ولا بما نظن ونعتقد.

وأكثر من هذا وذاك، أنها وُلدت معلولة بتسلّخ جلدها بشيء أصاب أمها، وباتت تعيش معركتها الوجودية الخاصة بها، حيث تعاني من صراع محتدم بين أسباب بقاءها على قيد الحياة، وموت وشيك يحاول إنتزاعها، وعلى نحو لا يخلوا من عذاب وبشاعة.

ثم لماذا لا نفهم الأمر من زاوية وفرضية مقابلة، إعمالاً لنفس معيار الغيب أو الاعتقاد، ونتعاطى مع الأمر من باب القياس مع الحكم الوارد في الآية: “عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم” وبالتالي نفهم أن الغيب قد درء عنّا ما هو أكبر وأفدح..؟!

لماذا لا نفترض وبنفس المنطق إنها ليست منحوسة كما يُعتقد، بل هي سعيدة علينا، وما حدث هو أنها كانت سبباً لنجاتنا من فقدان أو موت كان بإمكانه أن يطال احدنا أو كلانا، إذا استمرت إقامتنا في تلك البيت التي قبض فيها “مالك الموت” روح الأختين، نور وسامية، وكدتُ أكون ثالثهما..!!

لماذا لا نحمل الأمر على محمل القياس بالمثل: “ذهب الشر”، أو أنكسر، وهو المثل الذي يتم استدعائه حالما ينكسر إبريق الماء أو يقع كأس القهوة، وكأنه يدفع عنّا شرًّا أكبر مما وقع. وقد نجوت من الموت مرتين، فيما النجاة من الثالثة ربما يصير كالمستحيل.

حياة الإنسان أهم بالمقارنة مع ما دونها، مهما كانت فادحة؛ حياة الإنسان مُقدّمة على ما عداها.. لطالما حزَّ في نفسي ذلك الرجل الذي أراد أن يجهز على ابنته لأنها جاءت كما قيل نحساً عليه، وكان قد بلغ به المرض مبلغه، ولم يهدأ إلا بعد إقناعه إنها نحس على نفسها لا عليه.. لطالما ظلت تلك الفتاة تذرف دموعها الحارقة، وهي تتذكر ما حدث لها، ومعاناتها التي واجهتها بسبب ذلك الأمر الذي لم تمحه تقادم السنون.

***

استغنت شركةُ “البِس” التي كان يعمل فيها والدي عن عددٍ من العمّال، وكان أبي من ضمنهم.. مصابٌ جلل، وقدرٌ بات أكبرَ منّا.. أيُّ نكبةٍ أصابتنا يا ألله؟! خوفنا مما هو قادم ومجهول بات يزداد ويتسع!! أبي فقد عمله، ولا بديل يعوضه، ولا من يسدُّ لنا هذا القدَر الّذي بدا أمامنا ثقباً أسود، وفراغاً يريد ابتلاعنا، وتغييبنا في مجاهل من المعاناة التي لا نعرف لها آخر.

لا رجاء يسعفنا، ولا بارقة أمل تلوح في الأفق.. وجُومٌ في السماء، وكلَحٌ في الأرض، ويأس يتمطّى في الشرايين.. لم يعُد هنالك من مصدرِ دخلٍ لنا.. ظروفنا ازدادت سوءًا وانحداراً، ومستقبل لن ننجوا منه عوزاً وفاقة.. لم يكن أمام أبي من خَيارٍ إلّا أنْ يعودَ بنا إلى قريتنا التي تُهرسُ بؤساً وشقاءً ومعاناة تطول، ولا نور في نهاية النفق.. ما أشد سواد الحياة عندما تفقد عملك، وتُقطع أسباب رزقك!

فادحٌ أصابنا، وفادحٌ مضاعفٌ أصابَ أبي.. مأساةُ أسرةٍ فقد فيها ربّها دخله المحدود، وأسرة أخرى في القرية تعاني من العوز والجوع، لا دخل لها ولا عوض غير ما يرسل به أبي نهاية كل شهر.

أبي يَهيمُ على وجهه، يبحث عن وجهِ الله لعلَّه يجده.. كان الشعور بالضَّياع وفقدانِ الأمل قاسياً بل وساحقاً عليه.. أتخيل الحالَ وكأنَّ صخرةً بحجمِ كويكب عبوس قذفته السماء على رأس أبي، وأصابتنا معه في مكينٍ، حتى بدا الأمر وكأنه أطاحَ بالجميع.

الخَيارات محدودةٌ وصعبة، بل في الحقيقة ليس أمامنا من خَيار.. لا عملَ ولا أيّ فرصةٍ تنجي لقمة عيشنا، وكلَّ ما يمكن أن تفكِّر به من مساعدة غائبٍ ومعدوم.. أنت مبلوع في لُجَّة البحر، بلا يد ولا مجداف ولا حتّى قشة ترجوها أو تمسك بها مسكة غريق.. جميعنا يغرق في التّيهِ والمجهول وأصقاعِ من ضياع.

قبل أن يمر الشهر على فقدان أبي لعمله، عاد بنا إلى القرية.. وبات المُصاب والألم مضاعف.. أسرتان تعانيان الجوع، وكل شيء فيها عزيز، ولا أمل في انتظار ينقذنا من حالنا البائس في عدن، ولم تبق أمام أبي إلّا المُغامرةُ والرحيلُ إلى الغربة؛ يبحث فيها عن فرصة عمل أخرى تسعفنا من حالة البؤس والموت الذي ربما يأتي على نحو بطيء.

حدث هذا قبلَ استقلالِ “جنوبِ اليمن” من الاحتلال البريطاني.. ضاقت الدنيا وحلكت في وجهِ أبي، بعد أن فقدنا مصدر رزقنا.. عُدنا مع أبي إلى القرية التي جئنا منها، بدى حالنا أشبه بأسماك السّلمون التي تعود من مهجرها في رحلتها الأخيرة؛ لتموت في مسقط رأسها، أمّا أبي فعليه أن يواصل الهِيامَ والبحثَ عن فرصة عمل.. عليه أن يشقّ البرَّ والبحر؛ ليجد عملاً نقتات منه، ولا عذر ليتخلّى عن مسؤوليته، حتى وإن كان مصابنا وقدرنا أكبر من الجميع.. فكانت وجهته هذه المرة إلى “بربرة” في الصومال الشقيق.

***

هوّن على أمسنا يا أبي؛ فيومنا مغموماً ومكروباً ومنهوباً إلى آخره؟! أي محيط يتسع وجع الحديث؟! طفح الكيل، وضاقت احوالنا، وما عاد في النفس مخبئٍ أو متسع.. “بلغ السيل الزبا”، وما عاد للأسد عرين ولا عاد للنسر قمم.. بلغت أوجاعنا أعنانها.. أوجاع الروح والجسد؟!! فادح يا أبي أن نقارن بين وجع أمس حسير، ويومنا البالغ فيه الوجع أرجاء المحيط.. ما من لغة قادرة على وصف ما نشهده.. تجتاحنا نوازل ومصائب وخيبات كبار دون فُسح أو مهل.

ما حدث في أمسنا يا أبي تجاوزناه بعد عام ونيف.. أمّا ما يحدث اليوم فلن ننساه، ولن تنسينا إياه حتّى أهوال يوم القيامة.. يومنا مجحفل بألف حرب ورعب، وبشاعة ما كانت لها في البال حسبان، بل ما كانت تخطر على بال.. ظلمات فوق ظلمات، وظلم مهول لا تقدر عليه الجبال الراسيات.. مأساتنا في الأمس وكل مآسي ذلك العهد يا أبي، تبدو بحجم رأس دبوس في محيط بلا حدود.. محيط من عذاب وموت وبشاعة.. كيف لنا أن نقارن يا أبي بين محيط تمادى في المدى، ورأس دبوس صغير؟!!

نحن يا أبي في زمن تعاظمت نوازله، وفاقت فيه بشاعته كل تصور وخيال، وما كان في الأمس مصابٌ مقدورٌ عليه بممكن أو حتّى بمعركة مع المستحيل، بات اليومَ كوارثُ تفوقُ ما تحتمله الجبالُ، حتّى وإن كانت من حديد، لقد جمع لنا العالمُ كل قبحه ودمامته، وصبَّ فوق رؤوسنا كلَّ فساده وبشاعته.. عدنا إلى مجاهل جهلنا، وأعادونا إلى ما قبل الألف عام.

حروب متعددة تشُبُّ وتنشب هنا وهناك بألف نهاب وأميرِ حرب، ومعهم ومن خلفهم رعاتها ومموليها السمان.. كل ضبع يقضم منها ما أستطاع.. “السعيدة” باتت محل أطماع كثار.. صار السؤال المعجون بالوجع كالخيل يرفس داخلي: أين اليمن؟! يأتي الجواب صادماً: “كانت هنا..!!”.

تسع سنوات عجاف، ونسير نحو العاشرة، وعلى أرزاقنا اليأس يطبق قبضتيه.. ولا نعرف إلى متى..!! قالوا “طلاق يا الراتب طلاق”.. تسع سنوات عجاف أكل فيها شعبُنا دواخلَه، والنار تأكل من تريد.. لا فرار، ولا نجاة.. كل النحوس تكالبت، واللعنات تحشد جيشها، حتى تبدى هولها أكبر من قدر.

مـأساتنا بعمقٍ سحيق، دون قاع أو قرار.. مأساتنا أكبر من محيط.. قطّاع الطرق يا ابي قطعوا الطرق عرضاً وطول.. تمددوا في شراييننا، واستباحوا كل الحقوق.. الضباع أكلت أطرافنا وأكبادنا.. تسع عجاف، وفوقها لا بر ولا بحر لنا.. لا مواني لا سفن لا أشرعة.. لا مد ولا جزر ولا مدد.. في مقتل أصابونا كمداً وقهرا.. استولوا على حاضرنا الجريح، ومستقبل أجيالنا، ولك أن تتخيَّلَ حجم الكارثة.. وأكثر من كارثة الادعاء إننا انتصرنا.. ما أسفه هذا الادعاء، وما كل هذا الخبل؟!!

أكثر من مليون ونصف المليون موظفٍ ومتقاعدٍ، ومستفيدٍ منهوبين الرواتب والحقوق، يعيلون أكثر من عشرة ملايين نسمة تقطعت بهم السبل، وأسبابٌ العيش الكريم.. اليوم باتوا معدمين.. لطالما جرّت محاطب الحرب إليها معدمين ومفقرين.. جاءت بهم إليها مرغمين.. باسم الوطن بات الوطن يبحث عن وطن، فلا يجد إلا سراب أو هُلام.

تم هدم الدولة، وكل ما له صلة بها.. دستورها وقوانينها.. إدارة ومؤسسات.. عملتنا تدهورت، وصارت كأوراق الشجر في فصل الخريف.. جوع وجهل ومرض وأوبئة.. كل المخافات عندنا على قفا من يشيل.. رباه كم فتِكت بنا هذه الحربُ الضروس.. من فوقنا توحش، وما حولنا متوحِّش.. عدنا إلى ما قبل عهد الألف عام.

شعبنا المُفقر يقتل بعضه بعضاً.. تقسيم وتقاسم وتمزيق.. شعب يموت وأرضه تُغتصب بقهر وغلبة.. قيمٌ مُهدرة، وحقوق شعب تستباح.. نهبٌ وانهيار وافتراس.. ما حدث كان أكبر من بشع ومرعب.. ما حدث كان أكبر من قدر.

***

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى