(3)
فصلي من المدرسة
أحمد سيف حاشد
تم فصلي من مدرسة الشهيد نجيب في مركز طور الباحة مدة أسبوعين على الأرجح أو أقل منها، وكان قرار الفصل هذا غير محدد في البداية، وتداخل مع ضغط أداري ونفسي لحملي على الاعتراف بما جنيت، ولكنني لم اعترف، رغم دمغي بالدليل..
تركت مدرسة “الوحدة” على إثر لعنة أطلقتها على المدرسة، فاستثرت غضب المدرس الأول في المدرسة، الذي ترك الطاولة التي أمامه، وحاول اللحاق بي، ولكن كانت سيقاني أخف منه، ولم أعود إليه ولا إلى المدرسة، وأطلقت لعنتي على المدرسة في ذروة انفعالي، وأصابتني وحدي ولم تُصب أحد سواي..
الفارق أن تركي الأول كان للانفعال اللحظي دورة الأهم، وكانت للمكابرة أيضا دورها في عدم طلب المراجعة، وعدم تحمُّس والدي للعودة، وقد آثر أن أدرس في شعب بدلا من المراجعة..
أما فصلي لأسبوعين من مدرسة الشهيد نجيب، في السنة الأولى إعدادي من قبل مدير المدرسة عبده علي الزغير، فقد جاء دعما للضغط النفسي، من أجل دفعي إلى أن أقر وأعترف على نفسي ومن معي، والأهم أن الاتهام والفصل جاء بعد صبر وتحرّي لا يخلو من مكر ودهاء..
***
جميل قائد صالح كان من أعز زملائي وأصدقائي في مدرسة الشهيد نجيب في طور الباحة.. كانت بيننا حميمية كبيرة وربما انسجام أبراج وطوالع.. اتفقنا على صياغة منشور، وتم شراء أوراق بيضاء، وتم تقسيمها إلى قصاصات متساوية ولافتة، ولأن خطي كان أجمل من صديقي توليتُ كتابته.. كتبتُ ما أتفقنا عليه.. دافعنا كان محترما، وما كتبناه كان غير محترم، وقد تضمن تشهير وإساءة، وتم توزيع تلك القصاصات سرا من كلينا في السوق وأروقة المدرسة.
تم إبلاغ مدير المدرسة ببعض تلك القصاصات التي تم العثور عليها، وربما أرسل هو من يقوم بجمع ما تبقى مرميا منها.. تم الاستغراق فيما ورد فيها، وتفحص حروفها وكلماتها وخطها وطريقة كتابتها، وبُذل الجهد للوصول إلى معرفة كاتبها.. أستمر التحرّي أياما لا أذكر عددها أو ربما مر أسبوع من كتابتها وتوزيعها..
ظل التحري يجري باهتمام وكتمان شديد، فيما كنّا أنا وصديقي جميل نعتقد إن الأمر قد تم تجاوزه، ولم يحدث حتى الضجيج الذي أردناه للوقوف أمام ما أوردناه في المنشور، ولم نعلم بأي إجراءات مما كنّا نتوخاها من توزيعه..
ربما ما فعلناه أنا وزميلي كان عملا طائشا بل وصبيانيا، وأظن إن المدير كان أكثر حكمة، وتعاطى بمسؤولية جمّه حيال ما حدث، وأظهر تحرّيه وكتمانه عن حس عالي ومسؤولية لدى المدير تستحق التقدير، وإذا كان هناك من مأخذ عليه، فهو أنه لم يجر التحقيق بحقيقة ما ورد في المنشور، حتى وإن كان ما فعلناه لا يخلوا من سخافة، وربما تم شيئا من ذلك، ولكن لم يتنام إلى علمنا، وكان تصرفه قد جرى على نحو صائب وحكيم، وبكلفة أقل، ومن دون ضجيج.. ربما كان الحق كله لدى الأستاذ المدير عبده علي الصغير..
ولكن كيف أكتشف المدير بأنني كاتب هذا المنشور؟! هذا السؤال الذي كان يجوس داخلي!! حيرة ظلت تتملكني قبل أن أعرف ما بدد بعضها، وبقي بعضها شاخصا إلى اليوم..
لقد درجت في كتابة الدروس والإجابة على أسئلة الواجبات بتقليد خط زميلي مصطفى الفاضلي.. كان خطة جميل وذو رونق جاذب وأخاذ.. كنتُ أحاول أن أحاكي وأقلد خطه البديع والساحر.. كان زميلي مصطفى يكتب حرف (هـ) بطريقة مميزة تبدو كحلقتين متداخلتين إحداهما كبيرة والأخرى صغيرة.. كان يكتبها بتميّز مختلف.. صرت أقلّده في كتابتها، وكانت هي الثغرة التي كشفت ما أداريه، أو كانت هي الخيط الذي قاد إلى الدليل، إن لم يكن هو الدليل ذاته..
وفيما كنتُ الساعة السابعة مساء منكبا على كتابة الواجبات المدرسية في القسم الداخلي، تخاتل مدير المدرسة بخطوات مهموسة لم أسمع وقعها، وما أن رفعت رأسي بعد دقائق، وتطلعت إلى أعلى حتى شاهدته وهو واقفا يتفرس ما أكتب وهو قائم.. الحقيقة لم يخطر على بالي إن الأمر يتعلق في البحث عن كاتب المنشور!! لا أدري لماذا قصدني أنا بالذات دون البقية؟! لا أظنها صدفة!! لا أدري كيف قادته قدماه إلى عندي دون غيري!! تلك كانت حيرتي طيلة محنتي تلك..
وبعد تصفح عجول للدفتر الذي كنت أكتب فيه، أخذه معه؛ وقال لي وهو مُجفلا: ألحقني الى الإدارة؟! الحقيقة لم أكن أعلم إن الأمر يتعلق بالمنشور، وكانت الدهشة تتلبس وجهي، ولم أكن أعلم إن أحد سيهتدي إلى خطي ربما بين مئات الطلاب!! لا أدري كيف اختارني من عشرات الطلاب الذين كانوا لحظتها يراجعون دروسهم في القسم الداخلي!! لا أدري كيف اهتدى ليصل لكاتب المنشور خلال أيام أو أسبوع على الأكثر، ودون أن أعلم أو يعلم أحد من اصدقائي إنه يبحث عن شخص ما!! كان الأمر بالنسبة لي مثار حيرة وسؤال..
وصلتُ إلى مقر الإدارة، واستقبلني المدير استقبال المحقق الرزين والحازم.. كان هادئا وواثقا جدا من أنني أنا من كتبت المنشور، لا أحد سواي! ولكنه يريد فقط أن يعرف من شاركني ودفعني وحرضني على كتابته؟! كان يحمل يقينية كبيرة أنني كاتب المنشور، فيما كنت أنا أنكر، وأناكر بإمعان وإصرار، رغم إن الأمر قد بديت فيه مكشوفا حد العري.. ربما لا أجيد الكذب ولكني متصلّب في الإنكار..
وبالإصرار على إنكاري وضعته في محل تحدّي، فقد صار هو أيضا يريد أن يسمع الاعتراف منّي شخصيا رغم أن كل شيئا بات واضحا في قناعته، وحتى في قناعتي المختبئة التي داريتها عنه.. فعندما كان يستعرض أمامي المقارنة بين خطي وخط المنشور، ويدمغني فيه بالقرينة والدليل، ويثبت لي إن حرف (هـ) متشابه بين ما هو موجود في المنشور، وما هو مكتوب بدفتري، بل وفي حل الواجب الذي كنت أكتبه، وهو واقفا يرصد الكلمات التي أكتبها، ثم انتقل إلى بعض الأحرف والكلمات من أجل أن استسلم وأعترف له بالتفاصيل.. كان ينتظر انهياري أو استسلامي بالاعتراف، وقد بدأ منطقه قويا وسائغا ولا ينكره إلا مناكر، وكنت بالفعل ذلك المناكر..
أمعنت بإصرار صبياني أنني لست أنا، دون أن أفكر بتقديم أي قرينة أو تسويغ تدعم إنكاري.. “فاقد الشيء لا يعطيه”، وكنت كذلك، وفي نفس الوقت كنت أعلم إن الاعتراف سيجرني إلى كثير من التفاصيل، وأن على رأس ما هو مطلوب مني هو معرفة من الذي أشترك معي..
لم أحاول حتى الدفاع عن نفسي بدفع التهمة عنها بالإشارة أنني لست وحدي من يكتب حرف “هـ” على ذلك النحو، وبالتالي أجر زميلي مصطفى الفاضلي إلى حالة الاشتباه، رغم أن مصطفى لم يكن يعرف شيئا عمّا عزمنا عليه وفعلناه أنا وزميلي جميل قائد.
كما كنت أرى استحالة أن أرمي زميلي جميل في دائرة الاتهام.. ربما أشعر أنني سأغدو نذلا وجبانا إن حاولت أرمي بحملي على زميلي وصديقي الذي كانت تجمعني به حميمية قوية وصحبة مائزة لا يمكنني التضحية بها، بل هي من تستحق التضحية، وبأي كلفة تمليها شهامتي، ويتعيّن دفعها..
كان وهو يحقق معي يحاول استدراجي للاعتراف بتسهيل نتائجه، بل يغريني أنه سيعفيني من أي عقاب، وسيحمل المسؤولية للشريك كان فردا أو أكثر.. شعرت أنني سأكون دون شهامة أو رجولة إن أخبرته فقط أنني لست وحدي من يكتب “هـ” على ذلك النحو، وشعرت أيضا إنه من الحقارة أن أدافع عن نفسي بذكر اسم صديقي مصطفى الذي كان بريئا تماما مما حدث.. آثرت الإنكار، والإيغال فيه رغم أنه لا يبرئ ساحتي..
كانت العديد من الأسئلة تجوس داخلي: لماذا أنا فقط الذي نالني التحقيق، ولم ينال أحد غيري بما فيهم حتى مصطفى الفاضلي، وهو الأشهر بخطه وبكتابة الـ “هـ” بتلك الطريقة؟! لماذا أنا بالتحديد، فيما زميلي وصديقي مصطفى هو الأصل والمبدع الغير مُقلد، أما أنا فمجرد مقلدا له؟! كيف يفوت الأصل ويتم الامساك بمن هو دونه؟! كيف عرف المدير إن هذا خطي أنا بالتحديد بين مئات الطلاب الدارسين في نفس المدرسة؟! لم أعلم أنه قد أخذ المدير دفتر أي طالب لمقارنة خطه بالمنشور!! كيف عرف أنني أنا بالذات من كتب المنشور من بين احتمال أكثر من مائة طالب في القسم الداخلي؟! لقد استخلصت استحالة أن يكون ما حدث محض صدفة؟!
استبسل إنكاري، وفشلت كل محاولات الترهيب والترغيب الذي أبداها مديري أثناء التحقيق، بما فيها تهديدي بإحالتي للبحث الجنائي في المركز، واختار عوضا عنه فصلي من المدرسة دون تحديد أي مدة، وفي نفس الوقت ألزمني بعدم مغادرة القسم الداخلي، مع ترك الباب مواربا للاعتراف له في أي وقت أجد رغبتي فيه..
أستمر فصلي أسبوعين او أقل منها، وأكثر من وصلت له هو أن “الشُرعي” وكان مناط به إدارة المركز الثقافي، هو أحد من عثر على منشوراتي وقام بجمعها بكتمان وسرية مع آخرين من وسط السوق والساحات القريبة..
وكان مدير المدرسة كل يوم أو يومين وأحيانا ثلاث أيام يحاول استدعائي، والتأكد عمّا إذا كنت أنوي أو أعزم على الاعتراف والرجوع عن الانكار، ولكن دون فائدة.. بعد أسبوعين من الفشل في الحصول على اعتراف لا على نفسي ولا على غيري، أكتفى بالأسبوعين كعقوبة فصل إدارية، وأعادني إلى الدراسة، وأنتهى الأمر عند هذا الحد.. ومع ذلك أعترف بحنكة هذا المدير وحكمته، وما لديه من ملكة المحقق الناجح، وأكثر من ذلك كان تربويا من الطراز الرفيع..
***
يتبع..
صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك