مذكرات

طيران بلا اجنحة .. أمي وأبي

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

(1)

زواج أمّي

قبل وجودي الإفتراضي تزوجت “أمّي” مرتين قبل أبي، كنتُ يومَها في حُكمِ “العدمِ” او هكذا أتخيّل الأمر.. يبدو ذلك “العدمُ” حالَ مقارنتهِ بوجودي اللاحقِ خالياً من كلِّ شيء.. فراغٌ لا مكانَ له ولا زمان.. فراغٌ لا وعاءَ له ولا حدود.. ليس فيه همٌّ ولا معاناةٌ.. لا يوجد فيه أيُّ مظهرٍ من مظاهرِ الإحساسِ، أو “الوجود” الذي نراه ونعرفه.. حالةٌ لا يمكن تصوُّرُها أو وصفها بغير “العدم”، أو ما في حكمه، أو ربما مقاربةٌ له.

لتجد مقاربةً لفهمِ عدمك، عليك إطلاقُ عنانِ خيالك، لتتصوَّرَ هذا “العدم”.. عليك أنْ تتخيَّلَ عدمَك إنْ كنتَ تَغرقُ في الخيالِ، والتأمل العميقِ.. اطلقَ الأسئلةَ في فضاءاتِ استكشاف الوجودِ واللاوجود.

تأمل، واسأل وعيك إنْ كنتَ تعي، أو خيالك إن كنتَ ذا خيال: ماذا كنتَ قبلَ ألفِ عام؟! وماذا كان يعني لك هذا الكونُ قبلَ مليون سنة؟! ماذا كنتَ تعني لهذا العالم قبل هكذا تاريخ؟! حتى “الصفر” لو قارنته بك في ذلك اليوم، ستكون دونه إن كان للصفرِ دون.

وبعد وفاتك، ربما لن تعني الوجود في شيء، حتى وإن بقي أثراً لخطيئة تطول، أو لبصمتك في الوجود أثر يقول مرَّ من هنا.. لن يبقى غير مرورك العابر والقصير في هذه الحياة التي مرقت منها على نحو يبدو بسرعة الضوء، وما كنتَ عليه فيها.

عمرك القصير الذي يشبه لمح البصر، أو أسرع منه بألف أو مليون بمقياس الزمن “المسرمد” في الأزل.. لا بأس هنا أن تطلق عنان خيالك، ولا تثريب عليك، ومع ذلك ربما في رحلة وجودك تغمر الإنسانية بخير ومعروف، وربما تقترف الفظاعات، وترتكب الخطايا، وتورثها للوجود قبل تحولك أو رحيلك عنه، ودون أن تعلم نهاية لها، وربما أنا وأنت ـ إن لم يكن في حكم الأكيد ـ نتاجا لها، ولكل في وجوده نسبة من الخير والشر قد تنقص وقد تزيد دون محض.

***

(2)

زوج “أمّي” الأول

كان زوجُ “أمي” الأول من أقاربها.. لم يتعدَّ عمرها عندَ عَقدِ قرانها به الاثني عشر عاما، وهو يَكبُرُها بأعوام.. استمرَّ زواجهما نحو أربع سنوات، ولم تنجب منه، ربَّما لأنه جاء قبلَ طمثِها الأول بسنين، ومع ذلك لم أسمعْ من أمِّي يوما أنَّها ذمّت هذا الزواج، أو قدحتْ فيه، إمَّا لجهلها أو لرضاها، أو لبقايا ذكرياتٍ وحنينٍ جميل تنزع إليه.

أراد زوجها أنْ يذهبَ بها معهُ إلى عدن، حيثُ يعملُ ويقيم، غيرَ أنَّ أبَ الزوج كانت له سلطةُ القرار الأول في الرفضِ أو القبول، وكان منه المنعُ والرفضُ جازماً وحازماً، وفرض على الزوجين خيارهُ هو لا سواه.. كانت سلطته الأبوية تتعدى إلى أكثر التفاصيلِ، كان بإمكانهِ أنْ يتدخلَ ويعترض حتى على الهدايا التي يرسلها ابنه من عدن لزوجتهِ في القرية، وهو ما حدث بالفعل، وكان باباً لمشكلةٍ يوماً تداعت.

كان على الزوجةِ رغمَ صِغَرِ سنّها، بذل ما في وسعها لخدمةِ أسرة الأب وطاعته، أمّا الابنُ فيجبُ أن يكون خاضعاً ومطيعاً، لا يرُدُّ للأب أمراً، ولا له حقُّ أنْ يعترضَ أو يغالبَ إرادةِ والدهِ إذا ما شاءَ وأراد.

كان من المعيبِ، بل ومن المعصيةِ والعقوقِ أنْ يتصدَّى الابنُ لرغبةِ وسلطةِ أبيه، حتى وإنْ سحقَ الأبُ سعادةَ ابنهِ وحُبَّهُ لزوجته.. وبالمقابل كانت تتدخل سلطةُ أسرةِ الزوجةِ هي الأخرى، وبدعوى حمايةِ ابنتهم من تعسفِ أسرةِ الزوجِ، فتبدأ المقامرةُ بمصيرِ الزوجيةِ ومستقبلِها، وكثيراً ما كان يؤدّي هذا التدخلُ والتضادُ، إلى الطلاق والفراقِ الكبير.

تدخلتْ سلطةُ “أم أمّي” وكانت الأم ذات شخصيةٍ نافذة، وإرادةٍ قوية.. أخذت ابنتها إلى بيتها.. فيما الزوجان يُجهشانِ بالبكاء، لا يريدان طلاقاً أو فراقاً، ويزيد من مرارة الحالِ، أنْ ليس لهما في مصيرِ زواجهما وحبِّهما حولٌ ولا قوةً.. لا يدَ لهما في وقف التداعي، وما تؤول إليه مقامرةُ أربابِ الأسر، وباحتدامِ الخلافِ بين أبِ الزوجِ وأمِّ الزوجةِ، وعدم الاكتراثِ والحفاظ على ما أمكن، خسر الحبُّ المغلوبُ بالطاعةِ والمقامرة، وانتهي به المآلُ الى الُخُلع، والفراقِ إلى الأبد.

***

(3)

زوج “أمّي” الثاني

تزوجتْ “أمي” للمرةِ الثانيةِ من منطقةٍ بعيدةٍ نسبياً، ومن غيرِ الأقارب، ولكنْ هذا الزواجُ كان قصيراً وعابراً.. لم تمكث “أمّي” لدى هذا الزوجِ الطيبِ والكريم، غيرَ أسابيعٍ قليلةٍ، كان الحبُّ ناقصاً، أو من طرف واحد، ولم يستطعْ سخاءُ الزوجِ وكرمُه، أن يسدَّ ما نقصَ من الحب الفاقدِ نصفُه.

لقد تم زفاف “أمّي” في زواجها الثاني، دون سابقِ معرفةٍ بمن أرادها للزواج، بل ودون أنْ تراه أو تُستشار، ودون أنْ تكونَ لها كلمةٌ في قبولٍ أو رفضٍ أو خيار.. لم تره “أمي” إلا في ليلةِ الزفافِ.. كان الزواجُ بالنسبةِ لـ “أمي” ورُبّما للزوجِ أيضاً، أشبهَ بالبختِ، وضربِ الحظ، واليانصيب.

يبدو أنَّ قلبَ “أمي” لم ينجذبْ لمن اختاره لها أهلُها، أو لمن كان له طلبُ اليدِ والاختيار، ربما أخفق حظُّها، أو كان قلبُ “أمي” مُحبطاً، أو معلَّقاً في رجاءٍ يائس، أو ربما لازال بعضٌ من حبِّ قديمِ ينبضُ بسرٍّ وكتمان، فالأشياء التي نتركها مرغمين، نظل متعلقين بها، ونأبى مفارقتَها، وتظل في الذاكرة فترةً قد تطول وتمتد إلى الكهولةِ، ويظل الحنينُ إلى القديم يرفض أن يغادر أو يموت.

ما لبثَ عَقد هذا الزواج أن انفض وتم الفراقُ باكراً، ورغم أيامه القصيرة، إلا أنّ الحِمل أدركه، ورُزقت “أمي” منه بنتاً، والبنت أنثى في واقعنا الذكوري، يلزمها دفع كلفةٍ باهظةٍ، تستمر من الولادة حتى آخر العمرِ، واقعٌ اجتماعيٌّ ثقيلٌ وظالمٌ، يحملها على أن تدفعَ ضريبةَ وجودِها وجعاً وإرغاماً، وانتقاصاً يدوم من الولادة حتى أرذل العمر، بل تلاحقها عنصرية الذكور إلى الكفن والقبر، وحتى بعد أن يهال عليها الترابُ!.

لماذا على المرء أن يظل يتحمل نتيجةَ أخطاءِ غيرِه، وعلى هذا النحوِ من الكلفةِ الباهظةِ التي ترافقه حتى اللحظةِ الأخيرةِ من العمر، بل وتمتدُّ إلى تحتِ الترابِ؟! لماذا بنو البشر ـ إن كان الأمر كذلك ـ يستمرون بتحمّل نتيجة خطيئةٍ وأخطاءٍ لم تكن من صنعهم، أو لم يصنعوها هم؟!

لماذا الأبناءُ والأحفادُ يتحملون أخطاءَ وخطايا الأجدادِ البعيدين؟!! لماذا على بني البشر أجمعين ـ إن كان هذا هو الحال ـ أن يتحملوا “خطيئةَ” أمِّنا حواء وأبينا آدم إلى آخر الزمانِ، إن كان للزمان آخر وختام؟!

أختي هذه بنقاء البلور، وبساطةِ الناس الطيبين. مستسلمةٌ للأقدار بصبر من ليس له حول ولا قوة.. لازالت إلى اليوم تدفع ثمنِ أخطاءِ آخرين؛ مستسلمةً لأقدار لم تصنعْها، ولم تشاركْ في صنعها، بل كانت ضحيتها المستمرة حتى يومنا هذا.

عاشت طفولةً بائسة، وزُوجت وهي طفلةٌ لرجلٍ يكبُرها بحدود الثلاثين عاماً.. أُختي هذه إلى اليوم تتقاذفها الأقدارُ السيئة على غيرِ ما تريد… آخرُ نكبةٍ لها رحيل ابنتها المريضة، وقبلها مصابُ جللٍ أصابها وهو مقتلُ ولدها في هذه الحرب اللعينة، والتي حُرمت حتى من راتبه الشهري، الذي تمّ الاستيلاءُ عليه من قبلِ أمراء الحرب، وأرباب الفسادِ، وتجار الحروبِ والأوطانِ، حتى اسمها يبدو أنه قدرٌ مخادعٌ!!

اسمها ليس على مسمّى، ولم تجد هناء للهناء في حياتها وجوداً أو بقايا أثر؛ حتى أسماؤنا الجميلة منها في جلّها أو بعضها بِتنا مخدوعين بها، يختارونها لنا؛ فنكتشف في آخر العمر أنها كانت مجرد وهمٍ على وهمٍ، وسراباً فوق سراب.

***

(4)

زواج “أمي” من أبي

كانت “أمي” لا تريد الزواج مرةً ثالثة.. أرادت أن تكتفي بالتفرغ لتربية ابنتها من الزوج الثاني، ولكنْ تمّ إقناعها بالزواج للمرةِ الثالثة من قِبَلِ إخوانها، وإغرائها بوصف “أبي” ـ الذي لا تعرفه ـ بالشهامةِ والمروءة والشرف، وتشجيعها على الزواج الآتي لإنجاب ولد لهما.

قالوا لها: إنّ البنتَ لن تفيدك في حياتِك، إنّها ستكبر وستتزوج، وستكون هي تبكي وأنتِ تبكين معها، بينما الولد سيكون لك خير معين وسنداً في حياتك، وضماناً لمستقبلك في قادم الأيامِ، وما قد تحمله لك من نوائبِ ومجهول.

كلٌّ له منطقهُ وحججهُ في ظل واقعٍ ملغومٍ، وغير آمنٍ للمرأة، وفيه للرجل على المرأة سلطةٌ عميقةٌ ومتجذِّرةٌ، وفي المحصلةِ كلمته عليها هي فصل الخطاب، وليس لـ”حذام” قولٌ هنا، ولم تقطعْ “جهينة” قولَ كلِّ خطيب.

“أبي” شاهد “أمي” في الطريق، فعقد عزمه على الزواج بها، تزوج “أبي” قبل “أمي” أربع نساء، تم تطليقهن باستثناء واحدةٍ ظلت في عصمته، إنها أم أخي علي، كان علي الولد الناجي من الموت، والمتبقي لها، وظلت أم علي زوجةً لأبي حتى وافاها الأجل، وصارت “أمي” أمُاً لسبعة ناجين بناتٍ، وبنين، وكانت في زواجه مسكَ ختام.

عندما تزوجت أمي من أبي، إحدى النساء تُدعى “البقطة” علّقت على هذا الزواج بقولها: “حنش مع محنوش” وكأنَّ لسانَ حالِها يقول: خيبتها على خيبته. “جنِّي تزوج جنِّية”.. تعدد زواج “أبي”، وتعدد أزواج “أمي”، فـ “أبي” سبق أن تزوج قبل “أمي” أربع زوجات، وأمي تزوجت قبل “أبي” اثنين، وتلاهما “أبي” ثالثاً.

رُبما بدأ الأمرُ في نظر البعض تجاربَ فشلٍ متعددةٍ من الجانبين، ورُبما نظر البعضُ أنّ كليهما بات خبيراً في الفشل.. ورغم هذا وما قيل، صمد هذا الزواجُ إلى نهايةِ العمر، متحدياً ومغالباً مصائبَ وأحداثاً عظاماً.

لقد استمر زواجهما طويلاً في صمودٍ أسطوري ندر مثلُه.. زواجٌ أشبه بزواجِ البحرِ بالجبل.. عراك دائم مدّاً وجزراً.. ضجيجٌ مستمرٌ لا يقرُّ ولا يستكين، ولكنه لم يتخلّ أو يُدرْ أحدٌهما ظهره للآخر في قطيعةٍ تدوم، عظمةُ هذا الزواجِ هو صمودُه الخرافي، واستمرارُه مقاوماً كلَّ عواملِ الفراقِ والانفصال، ودون أن يستسلم أمام أيِّ صدامٍ أو احتدام، لم يستسلم لعاملٍ أو طارئ، وإنْ كان بحجم كارثة، ولم يهتزْ بجزعٍ أو هلع، أو بقطع رِجْلٍ ويد، بل لم ينته إلا بالموت مسكاً للختام.

أمّا أنا فكنتُ الجامعُ والمشتِركُ الذي ظلَّ يمنح الصبر والبقاء، والرقمُ الذي رفض أنْ يخرجَ من حسابِ المعادلة بينهما، أنا الولدُ الغائبُ الذي حضر بعد انتظار، وسبق أن تحدثوا عنه أخوالي، قبل عَقد قرانِ “أمي” على “أبي”.. أنا الذي سيكونُ في حياةِ أمّي ضماناً لمستقبلها في قادمِ الأيام، في مواجهة ما قد تحملهُ من نوائبَ ومجهول.. وكنتُ لها من وجهة نظرها هذا الضمان، بل ربما الوجود كلُّه.

***

(5)

أفول وغروب..!

وعندما بدأ عمر أبي يذوي كشمس غاربة تجر بقاياها وذيولها الحمراء الشاحبة، ويتنهد الجبل أحزانه وذكرياته، بدأ أبي يتحدث عن الموت، وكأن الموت بدأ يهسهس أطرافه، وتحف أنفاسه على رأسه، ثم وجدته يجمع جأشه ويقينه بنفس مطمئنة، وحفر قبرين متجاورين له ولأمي التي كانت تعاونه وتأزره، وكانا كلاهما قد قرّرا أن لا تنتهي العِشرة وما بينهم من حميمية بموت أو قدر، وأن يتحديان الغياب ويسكنان جور بعض في العالم السفلي، ولابأس أن تأخر احداهما، وتقدم الآخر، وعلى من يسبق أن ينتظر صاحبه حتى يأتي إلى جواره دون عجل أو نفاذ صبر.

لازلتُ أذكر كلمات أبي وأنا أغادره للمرة الأخيرة إلى صنعاء بمعية ابن عمي عبده فريد وهو يشعرنا أن العمر يأزف، ولم يبق منه إلا القليل، ويحثنا بما يشبه الوصية أن نكون مع بعض، وأن نتحمل مسؤوليتنا نحو من حولنا أخوات وإخوة، ونعينهم لأنهم أحوج إلينا، ونعين أنفسنا بمساندة بعضنا لمواجهة ما هو قادم ومجهول.

أبي وأمي باتا يتجهزان لوداع ينتظر، ورحيل قادم وإن تأخر قليلاً أو حتى كثيرا، فمن يسبق الأخر يصبر عليه إن تأخر، ولابأس على من تأخر رعاية من لازال قاصراً منّا، أو يحتاج إلى سند وعون وظهر.

مات أبي في عام 1997 وبعد عشرين عاما من وفاة أبي عام 2017 كانت وصية أمي الوحيدة والأخيرة أن نسافر بجثمانها بعد موتها من صنعاء إلى قريتنا لمواراتها جوار قبر زوجها في حميمية لا تنتهي.. وهذا ما حدث.

لقد كانت وصية لا تخلوا من صعوبة في ظل حرب قذرة، وظروف أكثر من سيئة، وموانع ومخاطر جمة، وكان عليّ أن أعد وأفي بتنفيذ تلك الوصية، وتم تحقيق أمنية أمي بعد وفاتها لأستريح وتستريح، وترقد جوار أبي باطمئنان وسكون.. لروحهما السلام والسكينة الدائمة.

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى