“الكفر” أن لا تملك قيمة قبر..!!
برلماني يمني
أحمد سيف حاشد
خالتي” سعيدة” زوجة أبي وأم أخي على، رغم أن اسمها مشتق من السعادة إلا أنها تنتمي لحظ عاثر وغير سعيد.. جميع أولادها الذكور لأبي ماتوا صغاراً باستثناء أخي علي الذي نجى مراراً وبما يشبه المعجزة في كل مرة.
قالوا أن نجمها “العقرب”، وكان يشاع أن من نجمه العقرب لا يعيش له من أولاده غير إثنين، والغريب أن أولادها ماتوا صغاراً ولم يبق من أولادها على قيد الحياة غير أخي علي، وبنت من زوجها السابق.
تزوج أبي عليها أكثر من مرة ربما بدافع رغبته أن يكون لديه عدة أبناء ذكور، واستمرت هي في عصمته، ربما لأنها كانت طيبة وصبورة.. لا أذكر أنني شاهدتها أو سمعتها يوماً تشاكس أو تشتجر أو تتجنّى على أحد.
خالتي “سعيدة” كانت سعادتها قليلة في واقع ثقيل لمن هو قليل الحيلة، فيما طيبتها كانت باذخة.. عرفتها تتجنب أن تسيء لأحد حتى وإن كال الغير لها الإساءة كيلاً.. كانت صبورة جداً.. تتحمل ما يغيظها بصمت كتوم، وعندما يثقلها السبب، ويكظم الغيض صدرها “تتزمل”.. كان الزامل تنفيسا عن المعاناة، وإشغالاً للذات عن النكد حالما يحاصرها، فتجد في “الزامل” عبورا إلى عالم مختلف تبدو فيه هي من يحاصر الإساءة والنكد.. زواملنا كانت غير الزوامل التي نعيشها هذه الأيام.
بيت أبي التي تسكنه خالتي كانت ملاذاً لي في القرية، حال ما أهرب من الضيق والجحيم في بيت أبي الثانية التي تسكنه أمي.. كانت الملجأ الذي ألوذ إليه إن أمنتُ الذهاب إليه، وسمح لي بالبقاء فيه.. عشنا فيه وتقاسمنا المعاناة كلها.
خالتي صبورة جداً.. أذكر أنني كنتُ وأنا صغير أحبذ البقاء على ظهرها عند صعودها ونزولها درج البيت، وأثناء قيامها بأي عمل في الدار.. أتشبث فيه ولا أريد مفارقته أو النزول منه.. أمّا ظهر أمي فلم تشدني إليه رغبه.
خالتي كفيها متشققة وحرشة كلسان بقرة.. استمتع بها عندما أنام، وهي تمررها على ظهري.. بديتُ في بعض الأحايين سادياً ومستبداً عليها وأنا أرفض النزول منه، وعند النوم ألح عليها بتمرير يدها على ظهري حتى أدخل غفوتي.. لم أطلب من أمّي أن تفعل ما تفعله خالتي، وإن فعلت لا تروقني.
***
بعد أن فقدتَ خالتي ابنها وضعتُ نفسي كابن لها.. حاولتُ أن أرد لها بعض من جميل و واجب مستحق.. حاولت أن أسدُّ فراغاً لا يُسد، وأسجل حضوراً في ظل وطأة الغياب الأشد.
بعد أن قويتُ وكبرت، وحصلتُ على مرتب شهري اخذتها معي إلى عدن هي وأولاد أخي.. ربما آثرتها على أمّي التي أحببتها.. لطالما حاولتُ أخفف بعض ما كانت تعيشه من فقدان أخي، وتحريرها من ثقل بقاءها في القرية.. تقاسمنا الحياة حلوها ومُرّها.. تأزرنا في وجه الشدّة والألم والعيش المُر.
حاولتُ أن أخفف بعض من حزنها الثقيل، وأسد بعض من فراغ كبير أعيه.. في البداية كنتُ أقضي إجازاتي أو بعضها عندما أعود إلى القرية في بيت أبي القديم الذي تقيم فيه خالتي، وعندما أشتد عودي نقلتها معي إلى عدن، وعندما نقلوني بعد الوحدة عام 1990 إلى صنعاء نقلتها معي.. لازمتها ولازمتني بقية عمرها.. عشنا تلك الفترة بكل ظروفها.. شبعنا وجوعنا معا.. أكلنا الروتي والبصل بل وأحيانا “الروتي” والبسباس بصبر مكابر وكتمان عنيد.
جاري “منصر الواحدي” هو من كان يعلم فقط ببعض ظروفي الخاصة.. سماني “أحمد بصله” بسبب اعتمادي على البصل كوجبة رئيسيه تمنحنا البقاء والحياة.. أختي سامية أيضاً معنا وكانت مريضة لفترة طالت، وتحتاج إلى علاج مستمر ومتابعه عند الطبيب.. كنتُ أعيش أنا وخالتي وبنى أخي واثنتين من أخواتي وأخي وزوجتي وابني فادي.. مسؤولية كبيرة وهم ثقيل.. لطالما شددت عليهم بأن لا أريد صوت حاجة يخرج من فتحت مفتاح الباب وإن متنا طوى.. كنتُ الصمت المكابر في زمن عشته أصارع الفاقة والجوع.
كنت لا أملك ما أسعف به ابني فادي الذي كان يعاني من الربو.. أستدين من جاري منصر أو جاري الآخر علي فضل طه، وأسابق الموت عندما أسعفه إلى المستشفى.. لا أستطيع توفير قيمة الحليب، حتى وجدتُ نفسي أبيع “دبلة” الزواج لتوفير الحليب لطفلي البكر فادي.
***
مرضت خالتي حتى أصيبت بقرحة الفراش.. تكالب عليها المرض.. هناك مرض لم أكن أعلم به كتمته عنا زمن طويل بسبب العيب.. لم أكن أعرف عنه شيئاً إلا بعد وفاتها.. كنت لا أملك ثمن العلاج.. طلبت من زميلي في المعهد العالي للقضاء عبد الملك العرشي يحضر لمعاينتها، وكان قد عمل مساعد طبيب في المستشفى العسكري.
طلب شراء قربة لتركيبها.. تفاجأتُ أن خالتي لم تحرك يدها وهو يغرز الإبرة في يدها ليركب لها “الدريب” شاهدتُ دمعتين تنساح من عيون خالتي.. يا إلهي .. إنها دموع فراق الأبد الذي لا ينتهي.. أخبرني صديقي أنها منتهية والأمل ضعيف.. دقائق قليلة وفاضت روحها بصمت موحش.. غصة في حلقي تذبحني بمنشار.
لم أتوقع أن تغادرنا بهذا الهدوء والسكينة.. أنسلت إلى العالم الآخر بخفة وكأنها لا تريد إزعاجنا.. خرس شل لساني ودموعي تنساب بصمت يقتلني.. يا إلهي لا أملك قيمة قبر ولا كفن.. ربما أحسستُ إن الكفر قليل وأنا أعيش هذا الحال المكتظ بالبؤس والفقر الثقيل.
نعم .. عندما ماتت خالتي في صنعاء لم أكن أملك قيمة قبر ثلاثة آلاف ريال ولا قيمة كفن.. أذكر أن جاري منصر الواحدي ـ جنوبي ـ هو من كان يعلم بظروفي وهو من ساعدني في تكفينها وقبرها.. عندما لم تجد قبرا أو كفن يكون “الكُفر” ملاذا لمن لا حيلة له.
***
قبرناها في صنعاء جوار “عتيقه”.. لا أدري من هي “عتيقه”.. إنه اسمها مكتوب على قبرها.. تأملتُ في اسم “عتيقه” كثيراً لعل يوما أبحثُ عن قبر خالتي ولم أجده.. لعل اسم “عتيقه” هو من سيكون دليلي وخصوصاً أن خالتي لا اسم فوق قبرها ولا علامة.
عتيقه جارة خالتي في الأرض السفلى ودليلي إليها فوق الأرض طالما لا زلتُ حياً, لعل يوماً أبحثُ عن قبرها لأهديها بقايا دموع لم تجف بعد.
غادرتُ قبرها وتمنيت لها طيب الإقامة والجوار في مجاهيل صنعاء وقبورها.. عدتُ إلى البيت من المقبرة.. أخبرَ بعض الجيران جاري منصر يريدون “مجابرتي” .. أنا لم أفهم معنى “المجابره” ولم أعشها من قبل.. ربما هي عادة جيدة في صنعاء أشبه بتضامن الجيران والأصدقاء للتخفيف من الوجع والفقدان لأهل الميت.. لم أفهم معنى “المجابرة” ولم آلفها من قبل.. أنا ربما فسرتها بحالة إشفاق لا تخلو من دفع بعض التكاليف التي لم أستطع تحملها.
كانت حالتي المادية متصحرة كالقفر الأجرد.. أذكر أنني ثرتُ في داخلي عندما استشارني في الأمر صديقي وزميلي منصر الواحدي.. كظمت غيضي.. لا أريد غير أن أعود إلى أدراجي بصمت ووحدة.. لا أريد أن أتحدث لأحد .. أبلغت منصر أن يبلغهم أنني لا أريد مجابرة.. يتصرف هو معهم، وفي العشاء سندبر قيمة “نعنع” نوزعها عقب صلاة العشاء لروحها الطاهر في المسجد القريب.. هذا ما حدث بكل مرارة، وصدقه كانت بطعم العلقم.
***
بين الأمس واليوم كثيراً من التحولات والتغيرات والتطورات عشتها وعاشها عالمي الصغير، وفي المقابل عاشت اليمن تقلبات سياسية ما كانت بحسبان.. تغيرت أنظمة وحكومات وعشنا انقلابات في السياسيات والحكام.. ورغم هذا وذاك عشنا ضحايا تلك المراحل كلها.. عشنا حالمين ولازلنا حالمين إلى اليوم.. أكلتنا الحرب مراراً وسوء الأوضاع وترديها المستمر دون قرار.. داسنا المنتصر في كل المراحل.. أحلامنا تراجعت كثيراً، ولازالت تتراجع وتنحسر طالما عاشت الحرب وأستمرت آثارها أكثر.
كنّا نحلم بالتعليم المجاني للجميع وواقع اليوم لم يعد فيه التعليم مجاناً أو يسيراً.. كنّا نحلم بأن التطبيب والصحة عام 2000 ستكون للجميع، فوجدنا اليوم قد تم فيه تسليع الطب، وصارت الصحة لمن يملك مالا.. كل شيء صار يتوحش في وجوهنا.
في الحرب صار التوحش مرعباً وفاجعاً وصارت حساسية المشاعر متحجرة لمن يملك مشفى أو مدرسة أو جامعة.. سلطة تدعي أنها دولة وهي تتخلى عن كل مسؤولية حيال شعبها، بل وتتخلى عن كل القيم والأخلاق وما له صلة بالإنسان.
اليوم وفي الحرب صارت مخاوفنا أكبر من أي وقت مضى أن لا يكمل أبناءنا تعليمهم الأساسي.. مخاوفنا أكبر من أن يداهمنا مرض ونحن لا نملك مالا نودعه تحت الحساب في المستشفى.. كل شيء بات يسير نحو الخصخصة والتسليع.. إن كنتَ لا تملك مالاً فلن تستطع أن تسعف نفسك أو عزيزاً من أسرتك.. أكثر المجتمع وجله صار يعاني الفقر الشديد والفاقة والعوز الأشد.. جل المجتمع بات ينسحق، فيما قليلاً من الهوامير باتوا يملكون كل شيء.
ابنتي “رنده” التي تدرس الطب وما كان بمقدورها أن تستمر بعد عام من دراستها الجامعية لتكمل ما بدأته.. مستقبلها مهدداً وفرصتها تتلاشى في أن تتم، والبلاد صارت تُدار بالحرب وزحام من الازمات المستمرة التي تهد الحيل وتقطع النفس.. تخرجتُ وما كانت لتتخرج لولا مساعدة صديقي ورفيقي الإنسان النبيل والكبير جلال حنداد الذي أسعفنا بما لم تسعفنا به سلطة الحرب التي لطالما أدعت أنها سلطة المستضعفين.
عندما تخرجتُ لم أستطع أن أشاركها فرحها.. في يوم فرحتها وتخرجها أسبلت عيونها بالدمع المنهمر.. عتبت كثيراً أنني لم أحضر فرح تخرجها ولم أهديها غير حزني وقلة حيلتي.. لم أكن أعلم ما دارته عني من ألم إلا من دموعها التي تمردت وساحت كنهرين شقّا مجراهما بصمت في وجهها الصغير الذي كان يحتفل بحزن ثقيل بالمعاناة، فورث قلبي الموجوع أخاديده وتكاثر بالحزن الكثيف.
أحزاننا في الحرب لم يعد لها مكانا أو متسع.. جل شعبنا بات يعاني ويموت كل يوم فاقة وعوز وقتل وكمد، فيما هوامير قليلة تتربح بالحرب، وتثري وتترزق من دمنا بغير حساب.
***