مذكرات
(5) رغم القسوة.. أستاذ قدير .. أحمد سيف حاشد
مذكراتي .. من تفاصيل حياتي.. رغم القسوة.. أستاذ قدير
(5)
رغم القسوة.. أستاذ قدير
أحمد سيف حاشد
استاذي الأول هو الأستاذ المهاب علي أحمد سعد الذي فلكني بالخيزرانة حتى أدمت وتقرحت منه قدماي.. ربما نأخذ عليه أن أساليبه التربوية في عقاب تلاميذه كانت خاطئة أو مفرطة في الشدة والغلاظة، إلا أنه في الوجه الآخر نستطيع القول: “لو لم يكن هو، لن نكن نحن”.. كان حازما وصارما.. يجيد التدريس والإفهام.. لا يساوم بالدرس ولا ينتقص منه.. كان الاستاذ الذي يعلمنا بمفرده كل المواد.. وأكثر من هذا أنه بدأ بتعليمنا قبل أن توجد “المدرسة” التي أخذت تتشكل فصولها مع صموده واستمراره في تدريسنا دون تواني أو انقطاع..
البدايات شاقة، وبمشقة أستطاع تأسيس مدماك لصرح تعليمي يكاد يكون من عدم.. له الفضل الأول في انقاذنا من جهل غشوم، ماكنّا لنخرج من ديجوره وسراديبه لولاه.. جهل جثم على أهلنا وقرانا ردحا طويلا من الزمن.. لقد كان هذا الاستاذ بالنسبة لنا طالع السعد والحظ الحسن الذي أرانا النور، وهدانا إلى اعتاب بوابة العلم والمعرفة..
أستمر الأستاذ علي أحمد سعد في تدريسنا حتّى العام 1970م تقريبا قبل أن يغادرنا بعد سنوات من عطائه للعمل والإقامة في مدينة تعز.. ترك فراغا كبيرا سدّ مسده بعض من طلابه الأذكياء الأوائل الذين تولوا تدريسنا من بعده.. زرع وكان الحصاد المستحق..
ذهب عنّا وقد أسس صرحا تعليميا أعزّنا من جهل مطبق وأكيد.. أسس منهج متكامل من الصف الاول حتى الثالث الابتدائي.. تعلمنا على يديه أسس القراءة والكتابة والحساب والاجتماعيات والعلوم.. درس على يديه عدد كبير من الطلاب من أبناء القرى والمناطق القريبة والمجاورة وحتى بعض المناطق والقرى البعيدة.. لقد كان أشبه بالطائر الذي رعى صغاره حتى صاروا يقوون على الطيران والتحليق عاليا..
ومن الطريف أنه ترك لأغلبنا أيضا ألقابا طغت على أسماءنا لسنوات طويلة، ولازلنا نذكر بعضها، بل لازال بعضها حيا إلى اليوم مثل: الطُنيز وحوفر والمعرد والكبريت والبلبل وقرادي والمتيت والزناط والنجاشي والمُقرور والملحوس والطُبيله والزيدي ومليط.. صرنا ننسي الأسماء ونتذكر الألقاب.. لا ندري ما سبب تلك التسميات التي أطلقها، وعلى أي أساس كان يختارها ويطلقها علينا، غير أن الأطرف أن بعضها عاش معنا، ورحل بعضنا وبقت ألقابه حية وشاخصه حتّى بعد الرحيل.. بقي بعضها إلى اليوم، وأمتد بعضها إلى نسلهم..
على الرغم من قسوة هذا الأستاذ القدير، إلا أنه يعود له الفضل في تعليمنا الأول، وبالطريقة الحديثة التي كان عمادها الدفتر والقلم.. القراءة والإملاء والحساب والعلوم والأدب.. جاءنا في لحظة كنَّا فيها بأمس الحاجة للتعليم الغائب عنّا.. لولاه ربما كان الجهل قد عاث فينا، وأطبق علينا كلتا يديه، واستبد بنا العمر كله.. لولاه ربما لما وصلت ومُجايلي لأبسط وظيفة عامة في الدولة.. لولاه لكان الكثيرون منا لا يجيدون أكثر من الشقاء الثقيل ورعي الغنم..
ذهب وترك لنا أساساً من معرفة نبنى عليها علما في قادم السنين والأيام.. ذهب ولم يذهب علمه وتعليمه وجميل معروفه.. غادرنا وترك مكتبة صغيرة وصندوقاً أسوداً كان يجلس خلفه بعطاء المعلم والاستاذ الجليل..
ورثنا بعضاً من كتيبات كانت مخزونة في دولابه.. أتذكر أنني أخذت كتيباً عنوانه ” أبعاد الثورة اليمنية” لعبد الرحمن البيضاني.. أذكر أنني حفظت حينها منه عدد من الصفحات عن ظهر قلب رغم صغر سني، وعندما كنت أستعرض ما حفظت منه سمعني أحد المدرسين أو الطلبة الأقدمين الذين كانوا يدرسون والذي اندهش لحفظي بعض فقرات صفحاته غيبا..
أوعدني هذا الأستاذ أنه سيحضر لي قصة (النمر الأسود)، قصة خاصة بالأطفال وكنت متلهفاً لقراءتها أيما تلهف، حتى أحضرها لي في اليوم الثالث من وعده، ربما كانت أول هدية أتلقاها في حياتي..
لم أكن اعرف أنه يجب علي أن أقرأها حتى النهاية لألمُ بوقائعها كقصة.. اعتقدت أن المطلوب مني حفظها عن ظهر قلب كما فعلت في بعض صفحات كتيب البيضاني، فصعب عليّ حفظها، وفشلت بحفظ بعض من صفحاتها، وتحولت فرحتي إلى فشل وبعض تعاسة.. بت أتهرب من الأستاذ الذي أهداني إياها حتى لا ابدو أنني غير جدير بما اهداني إياه، ولم أكن ادرك أن حفظها غير مطلوب.
***
يتبع..
صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك
قناة احمد سيف حاشد على التليجرام
مجموعة احمد سيف حاشد على التليجرام
Ahmed Seif Hashed’s Facebook page