إطلالة قرائية في: (من مذكراتي “ولادة مترعة بالخيبة”) للنائب حاشد
برلماني يمني
منصور الحاج العبسي
الكاتب من خلال ماألمسه فيما ضمنه هذا المنشور خصوصا ومن خلال منشوراته السابقة التي صادفتها وتمكنت من الإطلاع عليها، يمتلك موهبة لم يجد من يكتشفها فيه مبكرا ربما، وربما هو لم يأبه بها أو بالأصح شغلته عنها مشاغل أخرى وأخذته أو قذفت به بعيدا عنها بل ظلت تقذف به تباعا نحو معتركات ظل يخوضها في ميادين بل جبهات السياسة والاقتصاد والحقوق والتشريعات إضافة إلى دأبه الدائم والذي لا يكل فيه ولا يهمد في مناهضة الحاكم ونظامه وتعرية الفساد، وهو ما يعد النائب أحمد سيف حاشد فيه الشخصية الأبرز على مستوى الجمهورية اليمنية على الأقل.
هناك الكثير مما ينبغي سرده للكشف عن شخصية الكاتب، وعن ما حفلت به مسيرته منذ عرفته مرشحا عن دائرتنا النيابية فحسب، لكني هنا لست بصدد تناول ذلك، بل أردت من خلال هذه الإطلالة فقط، أن أتناول ماتسعفني به إمكاناتي المتواضعة وعلى هذه العجالة بما يتعلق بأحمد سيف حاشد كمشروع كاتب وتحديدا في مجال الأدب، مايزال حتى هذه اللحظة وفق اعتباري يراوح متذبذبا حول نقطة البدء والإنطلاق قدمافي هذه الوجهة التي ماتزال تفتقد حضوره فيها وتقيده في سجلاتها غياب. بالرغم من كوني أحد من أشاروا له لأكثر من مرة من خلال تعليقاتي السالفة على منشوراته وكذا من خلال تواصلي معه بأنه يمتلك ناصية الكتابة السردية ويمتلك الكثير من متطلباتها.
إن مشروع الأديب الواعد المتمثل بالكاتب أحمد سيف حاشد لم ينطلق بعد، حسب تقديري، بالرغم مما يزخر به إلى جانب امتلاكه الموهبة بطاقات إبداعية هائلة، ومخيلة خصبة ووثابة ومتفوقة في مقدرتها على التحليق عبر فضاءآت الدهشة والإيغال عبر مجاهيلها نحو البعيد إن لم يكن نحو اللانهايات، كما أنه لا تكبح جماح انطلاقته اللغة كوسيلة للتعبير عما يجتاش في دواخله وماتحمله سحب مشاعره ورياح أفكاره الوقادة من عواصف وأعاصير أحيانا، فهو إلى جانب امتلاكه لثرورة لغوية كبيرة نسبيا وتحديدا اللغة الأدبية منها، وبالأخص الشاعرية منها والتي تتجلى أكثر في هذا المنشور الذي يكاد أن يستحق وصف نص أدبي ثري بجدارة، فهو لاتعييه الحيلة في كلما لزمه كما نلاحظ خلال استطرادنا في قراءة هذا المنشور من استحداث الفاظ أو اشتقاقات جديدة أو غير شائعة الاستخدام؛ بل وعامية في مواضع عدة هنا، والتي وإن كانت ستؤخذ كمواضع للنقد من قبل البعض فلا ضير في ذلك وفقا للمتعارف لدى المشتغلين بالنقد (أن النص القابل للنقد هو النص الجيد وليس العكس)، إلا أني مع ذلك أبرر لكاتبنا هنا ذلك كثيرا لماذا..؟
ليس باعتباره مبدعا (كما يتجلى بأبهى صوره فيما يتجلى لنا في هذا المنشور تحديدا وبالأخص منذ المقطع الحادي عشر تقريبا الذي بدأه بقوله:
يقول خالي صالح… الخ بل إلى المقاطع التي تلية حتى النهاية والذي وجدتني معه أجدف في خضم ما يرقى أو يكاد إلى جدارة اعتباره كنص شعري حداثي ممتع وغني ويتسم بدرجة عالية من التماسك والاتساق والرصانة مع اعتباره مبتدئ في هذا المجال حد علمي على الأقل) فحسب بل لما ألمسه من تدافع كبير وهائل لدى هذا الكاتب في الأفكار والمشاعر أثناء شروعه في الكتابة بما يخيل لي أحيانا أن هنالك مايشبه إلى حد ما موجة تسونامي قد أخذت تتنامى في دواخله ولواعجه وأخذت تضرب على المساحة التي يفرغ فيها هو ذلك أوالباعث الغاضب والصاخب بل والمارد بالكتابة، الأمر الذي ليس من السهولة بمكان حتى على السارد او الشاعر المتمرس والدارس للغة بل والمتمكن فيها أن تسعفه قدراته مع ذلك التدافع المتسارع والعنيف على إيجاد كل الألفاظ الفصحى المناسبة للتعبير عنه أو لصياغته في مفردات وعبارات لاهثة وأسطر متراصة ومقاطع متداركة حتى النهاية.
وحيث أنه قد غدا من المعلوم منذ زمن خصوصا لدى علماء النفس منذ زيموجند فرويد أثر الكبت النفسي في مراحل العمر الأولى على الأشخاص والذي تظهر آثاره أو تبعاته في مراحل عمرية لاحقة من مظاهر تنفيس عن تلك المكبتوتات التي قد تنعكس سلبيا على صحة أصحابها النفسية في صورة حالات نفسية مرضية أو كوابيس مرعبة تتطلب بالضرورة إخضاعهم للعلاج النفسي، وقد تنعكس إيجابيا فتظهر لاحقا على أصحابها في صور من العبقرية والتميز بقدرات عقلية فارقة وغير اعتيادية والأمثلة كثيرة لأمثال هؤلاء بين العباقرة المشهورين على مستوى العالم في مختلف المناحي الإبداعية والابتكارية والمجالات الأدبية والفنية والعلمية.
وهذا المنحى بالمناسبة ينحوه النقاد للأعمال الإبداعية الذين يعتمدون في تناولاتهم لها وفق منهج التحليل النفسي.
من جانب آخر وأيضا منذ زمن ظهور الحداثة وإلى مابعدها وحتى اليوم كان وما يزل النقاد الحداثيون مجمعون تقريبا على اعتبار اللاوعي لدى المبدع هو مصدر العبقرية ومثل تلك الطاقات الهائلة التي تتدافع على المبدع أثناء الكتابة أو أثناء مخاضه للعمل الإبداعي والذي يعتبره غالبيتهم مولودا جديدا ينبغي النظر اليه ككائن مستقل بحد ذاته والذي يكون وفق اعتبار أولئك في أكمل حالاته حين يحد المبدع من تدخلات وعيه فيه أثناء كتابته لأقصى حد ومن أولئك من يذهبون إلى التقليل من أهمية اللغة التي يكتب بها النص ويعتبرونها مجرد وعاء للنص ولا تمت للنص بصلة ولا تقلل أو تزيد من جماله أو ثرائه بل ويذهبون إلى عدم إقرارهم بصواب المعايير المسبقة التي كان يجري تطبيقها على النصوص من قبل النقاد التقليدين لتقييم جودة النص أوللحكم على مدى جودته او رداءته، فالنص الوليد ينبغي تقيمه بالنسبة لذاته ودون حتى أدنى علاقة له بصاحبه ويأتي في مقدمة أولئك من رواد الحداثة رولان بارت صاحب نظرية موت المؤلف أوموت الكاتب وصاحب المذهب الحداثي انتهى اليه والذي عرف باسمه.
وفي ضوء ماحاولت إيجازه عن الجانبين سالفي الذكر، حاولت من خلال إطلالتي هذه أن أقدم للمبدع أحمد سيف حاشد ذاته ولمتابعيه، مايدفعني للتأكيد على ما ارتأيته وبنيت عليه إدعائي بأن أحمد سيف حاشد إضافه إلى ماعرفه به الجميع أو غالبيتهم، فإنه يمكنه أن يكون أيضا في المجال الإبداعي الحداثي ومابعده، ذلك المشروع الكبير والبارز في المستقبل في مجال السرد والرواية تحديدا والتي قد سبق لي حثه على خوض تجربتها وكررت ومازلت أكرر وفي مجال الشعر ايضا الذي في حقيقة الأمر لم تسترعيني (ربما لقصور مني) مؤشرات إمكاناته المشجعة فيه سوى من خلال استطرادي في قراءة هذا المنشور.
وقبل أن أختتم فأني لا أستبعد أن يقول البعض ممن سيطلعون على ماقدمته من خلال إطلالتي هذه، بأن ما اكتشفته من موهبة واعدة وأمكانات غير عادية في الكاتب أحمد سيف حاشد تؤهله كما أرى ليبرز في المستقبل القريب (إذا أراد فعلا وخاض التجربة) كمشروع روائي كبير ومهم بل وأديب عموما بأن ذلك يعد في نظرهم أقل أهمية من كونه حاليا يعد رمزا لمناهضة السلطة بل وكل سلطات الأمر الواقع إضافة للتحالف، وكذلك لكونه النائب البارز والمقدام والشجاع والصوت الأعلى المعبر عن الإرادة الشعبية الغالبة في وجه الممارسات السياسية والمنتهكة للحقوق من خلال صوته في المجلس ونشاطه بكل الصور الممكنة ومنها الكتابة والنشر المستمر على صفحات التواصل وبالأخص ضد سلطات صنعاء التي يقيم فيها ولايبارحها ربما، بلى لا انكر بأن من سيقولون ذلك هم محقون خصوصا أن الصوت والقلم اللذان يمثلهما النائب حاشد لايعوضان في ظل مثل هذه الأوضاع مع العلم أنني على مدى سنوات هذه الحرب الآثمة ظليت أكثر متابعة لكتابات ونشاط النائب حاشد وكذلك الدكتور حمود العودي المناضلان اللذان صمدا في الداخل وضلا يثابران كل على حده في نضالهما الخالص والنزيه في سبيل مصالح الوطن العليا ومصالح شعبه وما يزالا وسيضلا حتى آخر نفس وفق ثقتي اللا محدودة في كليهما.
وكذلك الكاتبة والصوت الإعلامي النسوي الأبرز منى صفوان بفارق أنها ظلت تمارس دورها الإعلامي المستقل والموضوعي من الخارج، بلى كنت ومازلت مؤمن بكل من ثلاثتهم كقدوة ينبغي أن تحتذى خصوصا في مثل هذه الأوضاع الكارثة على الوطن وشعبه، والعديد من الزملاء عهدوني أشيد بهم بكل مناسبة بل وأتصدى للدفاع عن أي منهم حين كان البعض (وممن هم محسبون على ذات الاتجاه ونتيجة للقصور في الفهم أو نتيجة للتضليل) يتعرض لأي منه مشككا بأي من مواقفه أو آرائه تجاه ما كان يجري وتجاه مواقف مختلف الأطراف.
وختاما فأني ومع ما عرجت إليه قبل هذا مع إدراكي بأنه يمثل خروج عما أنا بصدده، فأني أؤكد للنائب ذاته ولمتابعيه وأنصاره، بأن في خوضه تجربة الإبداع واستغلاله وتوظيفه لما يمتلكه فعلا منها في هذا الجانب لن يكون على حساب أدواره الأخرى التي يؤديها، بل أراهن بأن إنجازاته في مجال الإبداع ستنعكس على أدواره الحالية إيجابيا.
٨ يونيو٢٠٢٣م
——————
من مذكراتي
ولادة مترعة بالخيبة
أحمد سيف حاشد
في النصف الأول من ظهيرة نهار شتوي بارد، كان ميلادي ووجودي المنكوب بأقداري التعسة.. مسقط رأسي كان في دار منبعج من إحدى جهاته. في حجرة حاسرة الضوء، وميالة نحو العتمة. فيها كُوى خانقة للضوء، بالكاد تسمح بمرور بصيص منه.. ضوء باهت، بزاوية مكسورة.. يصل إلى قاع الحجره وهناً يحبو وهو يقاوم عيه.. الضوء الخافت لا يكفي لترى ما تبحث عنه.. عليك أن تمعن نظرك وتجهد عينيك لترى أشياءك.
الباب إن أنفرج أو فُتح إلى أقصاه.. بالكاد يمر إليه قليل من ضوء محسور.. يتسلل من طابقنا العلوي.. يتكسر في درج الممشى إلى الأسفل.. يخطو ككهل بلغ من العمر عتياً، لا يقوى على السير، في طريق ملوي على قطب الدار، يصل إلى الحجرة عي مُجهد.
في قاع الحجرة هناك وعاء مملوء بالماء وأشياء أخرى، ومجمرة في زاوية منها تنفث طيباً وغموضاً، وتمتص بعض من وهن الضوء، وتزفر غماماً وضباباً تحجب رؤيا.. وفي الكوة مر وحلتيتٌ ولبان عربي، وسُخام وسراج تحاول ذبالته المحترقة أن تنشر ضوءً مرتعشاً بين السقف والجدران.. السقف من أعواد أشجار العاط، وخشب السدر المثقل بالطين، المطر إن كب على السطح بات قاع الحجرة أوعية وآوني تتلقّف نُطٍفه.
أمّي تتلوى ألماً.. تصرخ ولولة في لحظات مخاض، حبل مربوط إلى خشبة سقف الحجرة، يداها ممسكة بعُقد الحبل بثبات أملاً في عبور جدار من وجع يصطك ببعضه، وألم يمتد ويتمدد، ووجس في النفس يدركها والخوف من الموت نفاس.
خرجتُ من بطن الأم إلى ظهر الدنيا أصرخ ببكائي محتداً محتجاً على مجهول قدمتُ إليه دون إرادة.. ولدتُ شقيّا في ريف ناء صعب.. خرجتُ منهوكاً ووجهي مزدحم بوجوم وعبوس، وعيناي متورمتان بإحساس الغربة.. تسألني الغربة: “من انت ومن أين أتيت؟” فأجيب: لا أدري.. من مجهول إلى مجهول.. ضحية أمر واقع، ومجلوداً به.
لا حول لي ولا قوة في ممشى لم أخترهُ.. أقدار فرضت ما ليس لي فيه خياراً أو حيلة.. استقبلت الحجرة وجودي الفائض عن حاجته بضوء خافت كاد صراخي يمزقه إرباً.. لو كان خيار لي قبل وجودي وبوعيي هذا لما اخترت وجودي.. وسخرت من حياة فيها البؤس عميم.. حياة مملوءة بالظلم المكتظ.. الحق مقموعا فيها، والحب ممنوعا، والعشق غواية عقوبته الإعدام.
استهديت إلى تاريخ ميلادي.. ولدتُ في 16 فبراير 1962 الموافق 12 رمضان، وعام هجري تاهت منّي أرقامه، قالوا طالعك الحوت، والبرج هو الدلو، وفي حساب الأحرف برج الأسد على اسم الأم، والجدي “شواح بواح” على اسم الأم الغارب، والمتقادم عهده، وبرج النمر الصيني في مولود العام.
يد العمة “سنبلة” زوجة عمي، استقبلت جسدي المُنهك من أول طلّه، منكوت الرأس.. قالوا: المولود يأخذ من قابلته بعض طباع وصفات، هذا ما يُحكى ويُشاع على العادة في قرانا المسكونة بحكايات الجدّات.
خبر وجودي المتعوس خبر سار على وجه الأهل، فرحة تموج على وجه أبي، ووجوه الأخوال تنبض بهجة، أمّي غمرتها الفرحة، كان القادم ذكراً لا أُنثى.. ذكر يُبنى له متراس. وعي ذكوري ووجوم يكلح إن كانت المولودة أنثى، مازلنا نعيش الزمن الغابر.
الأنثى أمر واقع، وفيه قبول المُكره.. مضض من أول وهلة، ثم يعتادون عليه.. كانت أمّي تميّزني بفيض زائد.. في الحب والمأكل والمشرب.. تريدني بسرعة ريح عاصف، أكبر وأشتد في وجه الدنيا.
كان لخالي صالح باع في التنجيم، وفي كتاب “الرمل”.. يبحث في طالعنا والأبراج.. سمّاني أحمد.. قال إن ميلادي سعيدٌ، بل وأكثر من هذا قال، غير أن الواقع كان له القول الفصل، حظ عاثر وبؤس ومتاعب.. نصيبي من السعد قليل.. البؤس حل معي طوال عقود ستة، صار بعضاً منّي أو صرتُ بعضاً منه.. تعاندني الأقدار، وأحياناً تتخاتل وتخادعني، حياتي بؤس وشقاء.. حظي في وجه الريح أشتات ونثار، وفي الامر الواقع أهداب تقاتل سيف.
يتوالى السوء والحظ العاثر، الفرحة إن تمت فبشق النفس.. أجتهد وأكدُّ، وحصاد لا يشبع جوعاً، جهد يُضني، وحال يشتد.. الجنيُ قليل، والقلة تستولي على الوفرة.. الوفرة تستولي عليها الغلبة بالسيف.. صرت ألج في العقد السادس، والحال أقرف من أمس.. كد وتعب.. مجهول وضيق في العيش وضنَكُ حياة.
أنا الموجود دون رضاي.. وجدتُ من أجل أموت.. حكمة لم افهمها.. في بطن الأفعى أعيش وأموت.. تفح الأفعى بالسم، والسم زعاف؛ فأجد نفسي مسلوقاً في بطن الأفعى.. تلويني كي تهضمني على جذع شجرة يبست حتى صارت صلده، أصلب من صخر صوان.. تهرس جمجمتي وعظامي.. تعصرني بالحمض الناري.. تحرق آمالي.. الواقع عسف ووبال.. أنا موجود في بطن الافعى غصباً عنّي.. وجدتُ ولم أجد فسحة رفض قبل وجودي، ولا مهلة فيها أشاور نفسي.. قطعوا عنّي طريق العودة إلى عدمي قبل وجودي، أو حتى العودة إلى بطن الأم!!
النار أمامي تجتاح مداي، والبحر يركض بعدي فاغراً فاه.. أنا لم أختر اسمي أو معتقدي.. لم أختر مكان وجودي، ولا حتى تاريخ الميلاد.. الغربة تلاحقني والويل يطلق وعده، أعيش معركة الإرغام ليل نهار، والمجهول يترصد خطواتي ذهاباً وإيابا.
لو كنتُ على وعيي هذا، وكان عليّ أن أختار.. لاخترت عدمي، ورفضت وجودي بدل المرة ألف، وجودي قسري رغماً عنّي.. ولهذا أتمرد وأثور.. فيزداد جحيمي، ولا أستسلم.
أُكرهتُ على هذا الحال.. أُكرهتُ وجوداً وحياة.. لست براضٍ عن حياةٍ يفرضها البؤس ويتعممها الطغيان.. لست براضٍ عن حال فيه الأصل “استغلال الإنسان لأخيه الإنسان”.. يسفك دمه، ويزهق روحه على نحو لا تجرؤ عليها وحوش الغاب، هل قرأت كتاب “الجنس البشري الملعون”؟! أنا من وجد نفسه يمج خيبته ويكرر مقولة فيلسوف: “من يوم ميلادي وجدت نفسي مع العالم على غير وفاق”.
أحياناً أحتفل بميلادي كسراً للروتين.. بعيد الميلاد أسافر بعيداً عن وعيي.. أخرج من وعيي محتجاً أخفف بعض معاناة وجودي.. أنتزع لحظة سعد من رأس عام قادم ليس أقل سواداً من سابقه.. الكاهل مثقل بالحزن، والحظ العاثر يرافقني طوال العام.
الواقع سيء، والحقيقة مُرّة قالتها نوال: “وحشية وخطيرة”؛ فألوذ بخيال لأعوّض فقداني، وكثيراً من حرماني.. أتمرد على ما يفرضه الواقع من أقدار في وسط تتقبله الكثرة بخضوع وسكون.
“لا” في وجه الظالم أقذفها.. أكررها في وسط ينعم بـ “نعم”.. أتذكّر مجد الأمل المنهك بالوعي وهو يقول: “المجد لمن قال لا في وجه من قالوا نعم”.. لآتي أقذفها في وجه الطغيان، وأكررها في وجه القطعان.. أدفع كلفتها مهما بلغت ذروتها.. أدفع وأمضي مهما ضاق وأشتد الحال.. أدفع ثمن مُنِهك ولا استسلم.. جحيمي هذا بعض منه، ونزيف الروح.. ما دمتُ أنا موجود، لا بد وألف لا بد، أن أمارس وجودي إلى أقصاه، ضد الظلم وضد القهر، وتعسف هذا الإرغام.
***