(7)
بدون عيب.. مدرسة بدون اختلاط
أحمد سيف حاشد
كان طلاب مدرسة “البروليتاريا” الذي يبلغ عددهم المئات جميعهم من الذكور.. لا توجد طالبة واحده في المدرسة.. تصحُّر أجرد لا يعرف نبتة خضراء أو نسمة هواء عليلة حتى في الثلث الأخير من الليل.. لا نقطة ندى ولا قطرة مطر غير جفاف شديد يصدّع اليابسة.. “لا ماء ولا خضرة ولا وجه حسن”.. لا فرح ولا أمل ولا رجاء.. جدب وجفاف وغُبرة أينما وليت وجهك..
الماضي والمثقلين به يرون أن العزل والفصل بين الجنسين سلوك قويم تمليه قيم الاخلاق الحميدة، ثم يسترسلون في البسط والمقام حتى تعتلي ما تحت المآزر الرؤوس المعممة بالعيب والفتاوى الحازمات، فيما نحن نرى أن السوية والحياة المتعافية والمحصنة هي بالوعي والاخلاق الراقية وحسن التربية..
للاختلاط جذب وتنافس، وتجاوز لموروثنا الثقيل، وتغلّب فذ على عقد اجتماعية مستحكمه.. الفصل والعزل يثقلان الكواهل بغربة عن العصر، والسير إلى الوراء عكس المستقبل الذي نريده وننشده، والحياة تحت ضغوط مكبوتات العقد المتورمة بالاحتقان الشديد، والهوس الجنسي المستولي على التفكير والشوارد، والاستحواذ الباذخ على الوعي والاهتمام، والتنفيس الغير سوي، والانحراف السلوكي المشين، ومغادرة ما يفترض من سوية وحياة طبيعية متعافية..
ليس من السوية أن تنتظر عطلة رأس الأسبوع لتقطع مسافة تزيد عن العشرة كيلو مترات لتختلس نظرة من فتاة تحبها قد تجدها وقد لا تجدها، والأمر متروك للصدف وحدها، وكانت الصدف بين قليل ونادر..
ليس من السوية أن تحب بكتمان شديد ثلاث سنوات متوالية دون أن تدري من تحبها أين أنت!! ليست متعافي إن قضيت ثلاث سنوات تحب من طرف واحد دون أن تستطيع البوح أو أن تصل بهيامك إلى من تحب!
ليس من السوية أن يستحوذ عليك الخجل، وتظل مسكونا به حتى ينبعج جبينك من اكتظاظه، وتفوتك الفرص تباعا، وحبك الكسيح لا يحصد غير الخيبة والتعاسة والخسران.. ليس من السوية أن تتمنّى أن تعيش مع من تحب ليلة واحدة مقابل أن تحكم على نفسك بالإعدام بثلاثين رصاصة في صباحية غير مباركة.. هذا ما تمنتيه في يوم مخنوق ومتأجج بالثورة والبراكين التي تكتظ داخلي.. إنها معاناة مع غريزة مستبدة، وجوع جنسي شديد، وفكه مفترس ومرعب..
لو وجد الاختلاط أقصى ما أتصوره أن يحدث هو البحث عن الحب والسعادة المرجوة.. البحث عن فارسة الأحلام، أو الزوجة المناسبة في المستقبل.. أما والحال مختلف والعزل قائم، فقد وجدتُ من يقطع الأميال ليمارس الجنس المنحرف مع أنثى الحمار، وبعضنا كان يذهب إلى “السيسبان” ليطفئ عنفوان الجنس المشتعل مقابل أن يدفع المال..
بعضنا يشاهد التلفاز ويتابع المسلسلات والأفلام، ثم يعيش الدور الذي يتخيله ويخرجه مع الممثلة شمس البارودي أو الفنانة يسرى، فيما كنت أخوض جدلا مع البعض عن أحلى وأجمل النساء حتى انقسمنا الى فريقين، ثم نتجادل حد الاحتدام، ونستعرض مفاتنهن، ونتراهن على الأجمل التي تليق بمشجعها، ثم نبحث عن حَكم فيما اشتجرنا عليه، ومن يحكم في غير صالحه يذهب باحثا عن حَكم آخر، حتى ينقسم الحكام أنفسهم؛ ليبحثوا هم أيضا عن حَكم جديد.. من هي الأحلى والأجمل وردة الجزائرية أم عزيزة جلال؟؟ وكنت في اصطفاف وردة..
كان حلمنا أن نتعلم ونجد لقمة عيش تعيننا على الصمود في وجه الجوع، وعندما تحقق هذا الحلم أو بعض منه صرنا نرى الاختلاط حلم واحتياج.. تطلعات الإنسان لا تنتهي عند تحقيق حلم معين .. فالأحلام أيضا تتناسل كالضوء..
كنّا نذهب أنا وصديقي محمد عبد الملك إلى ثانوية عبود لوجود سكن لدى قريب له في حرم تلك المدرسة.. كنت أرى الحرية هناك تنبض بالنور، والحب والتصالح مع النفس، فيما أنا أعتصر بصمت ألما وغربة وفقدان..
شعرتُ بأسى جارف وأنا أقارن مدرسة “البروليتاريا” بمدرسة عبود التي كانت تعيش الاختلاط وتنبض بالحياة والحب والفرح.. بدت مدرستنا في هذه المقارنة مظلومة مثلنا.. تبدت كصحراء مجدبة ورياح تلفح عيوننا المرهقة بالتراب على مدار العام، فيما مدرسة ثانوية الشهيد عبود في دار سعد كانت أكثر من حلم عصي على التحقيق.
لطالما تمنيتُ أن نقوم باحتجاج نطالب فيه على عنتر والقيادة في عدن بحق الاختلاط أسوة باحتجاج تحسين التغذية، و لكنني كنت خجولا ولا أتجاسر على إعلان رغبة من هذا القبيل حتى همسا.. داخلي بركان يثور ويغتلي، فيما خجلي وحيائي طبقات فوق بعض من فولاذ وجليد تمنع وتقمع إعلان ما يُعتمل داخلي..
كنتُ أتورم بالكبت وأحتقن.. أحاول في وعيي تحطيم كل تقليد ومعتقد.. انظر إلى الأمر بحد يتجاوز ربما ألف سنة عما هو سائد.. كنت أريد عالم بفضاءات ومدارات الكون.. عالم غير مثقل بالقيود والحدود والتقاليد.. إنه فيض من غيض، ومن تبعات اشتعالات الجنس المثقل بالعيب والعادات الثقيلة المسورة بالعزل والفصل بالنار والحديد..
كنت متطرفا حد الجنون، وما كان لهذا الجنون أن يكون لولا احساسي بهذا العيب المستبد، والقمع الاجتماعي الصارم، والكبت الكبير المحتقن.. أشهد لصديقي محمد عبدالملك اتزانه مقابل أفكاري التي تطرّفت بين المطرقة والسندان، ونار رغبات الجنس المكبوتة والثائرة على واقع مثقل العيب..
درست وتخرجت من الثانوية العامة في مدرسة البروليتاريا عام 1981 بنسبة 82% ولم يكن الحصول على هذا المعدل يومها أمرا يسيرا وهي نسبة كانت تؤهلني لمنحة دراسية في الخارج، ولكن كنت أيضا خجولا وقليل “المعرفة” و لا يوجد لي معينا أو سند بالحق.
***
يتبع..
*الصورة أحمد سيف حاشد وزميله في الثانوية محمد عبدالملك حسين
الصورتين نهاية السبعينات ومستهل الثمانينات القرن الماضي
صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2
حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك
صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك