مذكرات

(2) بول وصلاة.. ورهاب يشبه الانتحار .. أحمد سيف حاشد

مذكراتي .. من تفاصيل حياتي .. خجول ومصاب بالرهاب

(2)

بول وصلاة.. ورهاب يشبه الانتحار

أحمد سيف حاشد

كان رهابي يخرس صوتي ويئده ويهيل عليه التراب.. يمزقه ويشتته حتى يتلاشى كالهلام.. يخنقه بقبضة من حديد قبل أن يصعد إلى فمي.. يبتلع لساني من جذرها المغروس في حنجرتي الملجومة بالخجل والرهاب.. طغيان يمارس سلطته بفجاجة على حياتي التي أثقلتني بمعاناتها..

 

كنتُ لازلتُ صغيرا أو حديث سن، فيما رهابي وخجلي صارا أكبر منّي، بل أضعاف وزني وسنين عمري العجاف.. مسحوقا أنا بخجلي ورهابي بإصرار لا يكل ولا يمل، وبتكرار لا يعرف الوهن.. خيبة ومرارة تجتاحني وأنا أقع في كل مرّة فريسة في شباكها لا أقوى على المقاومة..

 

لطالما عشت مأسورا بانطوائي وبالحياء المطبق بكلتي يديه على فمي المكتوم بعازل الصوت الذي يمنعني أن أطلب حاجة أو نجاة أو استغاثة.. يستطيع المرء أن يتصور مدى خجلي بصورة من يؤثر هلاكه على النطق بكلمة لا يزيد طولها عن الحرفين “قف”..

 

كيف لشخص أن يخجل من صوته ورفقته ويرتكب مغامرة تشبه الحمق الكبير؟! يؤثر احتمالية الخطر على أن يسمع الناس صوته؟! كيف لأحد بسبب حياؤه وخجله وما يتملكه من رهاب أن يقفز من السيارة التي تقله وهي مسرعة كالعاصفة دون أن يطلب من صاحبها الوقوف أو النزول.

***

 

لطالما خجلت من صوتي وأنا صغير.. حتى عندما وصل إلينا مسجلات تسجيل الصوت لم يكن يطربني صوتي، بل ربما عتبتُ يوما على رب هذا الصوت.. ربما أوغلت في التمرد في لحظات انفعال وانفلات.. فلت من يدي عقاله وزمامه حتى بلغ أطراف المدى..

 

أقاوم الإكراه بكل وجوهه وسلطانه وإرغاماته، ولكن ينحرف أحيانا تمردي حتى يبلغ ما هو قصي وبعيد.. أذكر يوما صفعني أبي بالحذاء مرتين وثلاث لمجرد أنني تأخرت في إحضار ماء وضوء صلاة المغرب لأحد أقاربنا رحمة الله عليه، وبانفعال وحماقة بُلت في الوعاء قبل أن أصب فوقه الماء، وأعطيته الرجل ليتوضأ، فيما عيوني كانت غارقة في دموعها وهي تكابر..

 

هدأت نفسي وانفعالي وربما خالطت دموعي ابتسامة ما حالما شاهدته يتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه ومحيّاه.. لقد أصاب حمقي من كان بريئا من صفعي بالحذاء، حتى وإن استشعرت حينها إنه بعض سبب يستحق العقاب..

 

المفارقة كبيرة بين من يتجرّأ على فعل هذا وفي مقام أخر يخجل من أن يسمع الناس صوته.. مفارقات عجيبة أحيانا تجمع ما لا يجتمع.. ربما حالي في بعض منه يشبه في أيامنا هذه من قاوم سبعة عشر قدرا فيما يرتعب ويرتعد من كلمة أو منشور في وسائل التواصل الاجتماعي..

 

 لن يحدث هذا إلا لوجود عور وخلل في دماغ وكينونة المدّعي، وأساس من استبداد المخاوف الكبيرة، والحيلولة دون وجود انكشاف عن أخطاء وخطايا جسام من فساد وانتهاك، وافتقاد ثقة بألف ضعف مما كنتُ أعاني في صغري وحداثة سني.. هكذا بدت لي الحياة تعج بالنظائر والعجائب، وحافلة بالتناقضات والمفارقات والمخاوف..

***

 

كان عمري يومها أقل من خمسة عشر سنة على الأرجح.. توقف أبو شنب بسيارته “اللاندروفر” عندما أشرت له بالوقوف والسماح لي بالصعود إلى سيارته، فيما كنا نسميه “تعبيره”.. كان أبو شنب الشعبي رجلا طيبا جدا ومعتادا على تعبير الطلاب الذين لا يملكون مالا، دون أن يأخذ منهم أجرة نقل، ولا سيما إن وجدك راجلا في الطريق وترجوه خجلا بإشارة من يدك أن يوصّلك..

 

كان السائق عائدا إلى منطقة “ضوكة”، فيما كنت أنا قاصدا “شعب الأعلى”، مجفلا إلى قريتي في القبيطة.. كانت السيارة مزدحمة بالركاب.. وقف لي السائق بسيارته وتسلقت على حدائدها، و ظفرت بمكان صغير في مؤخرتها.. وبعد قليل تفاجأت إن السيارة متجهة إلى غير وجهتي..

 

كنت أظن وجود شخص أو أكثر ممن تقلهم السيارة سيطلب من السائق التوقف للنزول منها، لعل وجهتهم تماثل وجهتي، غير أن الخيبة داهمتني، وأنا اكتشف أن الجميع على غير الاتجاه الذي أقصده..

 

 الجميع متجه إلى “ضوكه”.. وبسبب خجلي وما يتملكني من رهاب، لم أتجاسر على أن أصرخ أو حتى أطلب الوقوف للنزول من السيارة التي تقلني.. كانت السيارة تسير بسرعة في وجهتها، وتبتلع المسافات بنهم وشراهة، فيما أنا آثرت القفز منها على طلب إيقافها.. كاد أن يقول الناس عنّي “ومن الخجل ما قتل”.

 

قفزت من السيارة.. ارتطم جسدي على الأرض.. خلت جسدي في أول وهلة قد تطاير كالزجاج.. أرتطم ذقني على الأرض بقوة.. اصطكت أسناني واحتدمت ببعضها.. أرتطم الفكين فوق بعض حتى فقدت التميز بين علوه وسافلة.. أحسست أن رأسي تفجر وتطاير كشظايا قنبلة..

 

 شاهدت شررا قادحا من عيوني يخر في كل اتجاه.. شعرت أن الارتطام قد صيرني حطاما متطايرا لا يُجمع ولا يجتمع؛ فيما كان ركاب السيارة يصرخون وقد شاهدوا بغتة وقوع أحد ركابها منها دون أن يعلموا أنني فعلتها بمحض إرادة سببها الرهاب والخجل.. أوقف السائق السيارة على إثر صراخ الركاب ليرى ما الذي حدث..؟

 

تعددت الإصابات في جسمي.. دم يهر من سحجات وخدوش متفرقة في جسدي.. تهتُّك بعض من قميصي، وسروالي صار مغبر متسخ.. الغبار والدخان كان واضحا وكأنني خرجتُ من مدخنة السيارة.. دم يهر من الخدوش، ويسيل بعضه من أسفل الذقن..

 

نزل السائق من كبينة السيارة ليرى ما حدث، فيما أنا غالبت وقع الارتطام وشرر الألم، ودفعني الحرج والخجل الأشد أن استجمع قواي، ونهضت بمكابرة لا يعرفها من هو حديث السن لأنقل لمن كان في السيارة التي وقفت أنني معافا وعلى ما يرام، فيما السائق بدا في سعادة الناجي، وكأنه هو الناجي لا أنا.. كانت مكابرتي ونهوضي السريع بدافع الخجل قوية وغالبة، ودون أن أتفوه ببنت شفة.. بديت في شكل من يتحمل مسؤولية ما حدث كاملا دون نقصان..

 

وبعد مشقة ومغالبة للألم وصلت إلى بيتنا في شرار، وأول ما شاهدت على المرآة كان ذقني الجريح.. رأيت أسفل الذقن جانباً زائداً وجانباً ناقصاً في غير اتساق.. أختل النسق والاستواء.. لا زال هذا الاختلال والعور ملحوظا إلى اليوم، ويستطيع أن يلمحه من يتفحصه بالنظر..

 

اليوم كبرنا وصرنا والوطن نصرخ بكل صوت.. السيارة التي تقلنا بلا كابح أو فرامل.. سيارة يعترك على مقودها من لا يجيد فنا أو قيادة.. مجانين حرب لا يجيدون حتى حساب الربح من الخسارة.. السيارة تمرق بأقصى سرعة وجنون.. أستحال علينا حتى القفز منها.. باتت تهرول نحو المنحدر.. بات مصيرنا والوطن مجهولا ومرعب..

 

وأختتم هنا بالتذكير أن للصمت ربما أيضا معنى وصوت أجل وأكبر من ذاك الضجيج الذي نسمعه.. وإن أستبدت بنا مخاوفنا حينا، وصار صمتنا أكبر من الضجيج، فربما أيضا لا يخلو من حكمة وعبرة وبصيرة، وما نحتاجه هو عالم ومحيط يفهمه، وقد قالها شمس التبريزي يوما أن للصمت أيضا صوت ولكن بحاجة إلى روح تفهمه.

 

***

يتبع..

 

موقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر

صفحة أحمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة أحمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة أحمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة أحمد سيف حاشد على التليجرام

أحمد سيف حاشد هاشم

 

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى