مذكرات

طيران بلا أجنحة .. خصي العقول “محدث”

برلماني يمني

أحمد سيف حاشد

لازلت أتذكر وهم يخصون كبش العيد. شاهدتهم بكثرتهم وهم ينزلون عليه بكل قواهم وأثقالهم. يأخذونه بقوائمه الأربع ورأسه ومؤخرته، ويمددونه على الارض، ويفتحون رجليه، فيما يحاول هو الركل والمقاومة بدداً.

وضعوا حجراً أملسَ صلداً قرب فخذَي رجليه، ووضعوا خصيتيه على تلك الحجر، ثم شرعوا بضرب الخصيتين وأعقابها، بمطرقة من حديد، فيما كان هو يتألم ويقاوم دون جدوى أو خلاص تحت طائل كثرة وقوة نازلة عليه كالقدر، ولمّا أتموا ما أرادوه، أطلقوا سراحه بعد أن قتلوا فحولته بمطرقة من حديد.

كنت غارقاً في ذهول. لا أعرف ماذا يفعلون!! لم يقولوا لي شيئا من قبل، أو عمّا ينتوون فعله، أو ما سيقدمون عليه. كنت متحيرا لماذا يفعلون ما يفعلون!! لماذا يضربون خصيتيه بالمطرقة؟!! ماذا فعلت بهم الخصيتان؟! كنت الوحيد من الموجودين الذي أعيش غصص اللحظة، وأشارك المجني عليه تلقيه الألم الوجيع.

كنت الوحيد الغارق في الذهول حيال ما يحدث!! الوحيد الذي يجوس في أعماقه السؤال!! فيما الآخرون لم يكترثوا بي، ولم يعروا لي أي انتباه، ولم تكن بيدي سلطة أو قرار يمنعهم عن فعلهم بالغ القسوة والتعدِّي.

فضولي الذي ظل حبيساً داخلي لم يستطع الاعتراض، ولكن استطاع سؤال أمي بعد أن انتهى كل شيء. ماذا فعلتم ولماذا؟! فكانت إجابة أمي: من أجل أن يكبر بسرعة، ويطيب لحمه وشحمه في العيد. الحقيقة لم تكن الإجابة تفي بشغفي ورضاي!! فما علاقة خصيتيه بما زعمه الجواب؟! وعندما كبرتُ قرأتُ عن عذر خصي المطربين لتجميل أصواتهم.

***

عندما كبرت قرأت أيضاً ما هو أكثر غرابة وذهولاً.. قرأت رأياً فقهياً يقول بضرورة خصي الفنان حتى لا يغوي النساء.. وقد روي أن الخليفة عبد الملك بن مروان بسبب أن جاريته صبت الماء بعيدا عن يديه لسماعها صوت احد المغنِّين وهو يترنم من بعيد، أمر بخصيه مخافةً على نساء المسلمين. وأن الخليفة سليمان بن عبد الملك حالما كان في نزهة، أمر بخصى أحد المغنّين حينما سمع صوته الرخيم، واعتقد أنه يشكل خطراَ على عفاف النساء المسلمات.

وأكثر من هذا ما رواه الأصفهاني أن ذبابة أدت إلى خصي المطربين في “المدينة” عندما أمر أحد خلفاء بني أمية والي “المدينة” بـ “إحصاء” المطربين، وأن الوالي رأى نقطة على الحاء تركتها ذبابة لتتحول الكلمة إلى «إخصاء» بدلاً من «إحصاء»، فأمر الوالي بإخصائهم جميعاً، وكان «الدّلال» – وهو من أشهر مطربي “المدينة” وأكثرهم ظرافة وجمالاَ وحسن بيان – ضمن قائمة المخصيّين!!
وكان يجري أيضاً خصي الإرقّاء الذين يعملون داخل قصور السلاطين، ودور النساء للحيلولة دون ممارسة الجنس مع النساء فيها. وكانوا أيضاً يخصون أطفال وصبيان الأعداء الذين يجري استرقاقهم، رغبة في قطع نسلهم، والإنصراف عن أي كبت جنسي لديهم.

***

وفي عهد الأئمة في اليمن، لاسيما في عهد الإمام يحيى حمید الدین قرأت في “الرهينة” لزيد مطيع دماج: إن السياسة المتبعة لديهم في إخضاع القبائل، وضمان ولائهم، وعدم الانقلاب عليهم هو نظام الرهائن المتبع، حيث يأخذ الإمام أبناء الشيوخ، ورؤساء القبائل رهائن لديه، ومن يحاول الهروب يتم القبض عليه، يكبلونه بالقيود الحديدية في قلعة القاهرة مدى الحياة.

وكان يتم اختيار صبيان من الرهائن ممن لا تتعدى أعمارهم سن الحلم لخدمة حرم الإمام وخاصته، وبعض نوابه وأمرائه، فإن بلغوا سن الحلم يتم إعادتهم إلى القلعة، أو يتم خصيهم إن تم إلحاقهم في خدمة القصور، وذلك لكي لا يمارسوا عملاً جنسياً مشيناً، وكان يطلق عليهم اسم الـ “دویدار” وهم من يقومون بعمل العبید المخصيين.

ويحكي زيد مطيع دماج في “الرهينة” أن من مارسوا أعمال “الدویدار” وعادوا إلى قلعة القاھرة مرة أخرى، كانوا يحكون أشياء غريبة وعجيبة، حيث يقول: كنت ألاحظ أن معظم العائدين منهم إلى القلعة قد تغيرت ملامحهم، حيث غدوا مصفري الوجوه، ونعومة شاملة في أجسامهم مع شيء من الترھل، والذبول في غیر أوانه.” ولاحظ أيضاً اهتمام حرس القلعة بهؤلاء ناعمي الملمس رقيقي الأصوات، بملابسهم النظيفة المرسلة حتى الأرض، و”الكوافي” المزركشة التي حاكتها نساء القصور، لتخفي شعرهم المجعد الممشط، الذي تفوح منه رائحة الدهون المعطرة التي يستنشقها بلذة أفراد الحرس.

كانوا يصونون عفاف نسائهم بخصي أولئك الصبية بإكراه وإرغام. يعالجون نقصهم بنقص أشد. مثقلين بعقد وعاهات لا شفاء لها. وفي هذا المقام يمكنك أن تستحضر المثل الشعبي القائل: “تريد عذر أو حمار”.

***

أما اليوم فقد صار أسوأ وأوجع من أمسه، حيث نشاهد الخصي قد صار أكثر انتشاراً واتساعاً وبشاعة، حيث تُخصى العقول، والأصوات والأقلام والأفعال.. إنه خصي أشد وأوجع!!

عرفتُ اليوم كيف تمارس السلطة خصي الرجال، وكيف تستلب منهم مستقبلاً لطالما رُمناه.. عرفتُ كيف يتم تحويل الرجال من أندادا وأفذاذا إلى حملة مباخر، واتباع خاضعين ومستلبين الإرادة والفعل، لا حول لهم ولا قوة. وكيف تمارس السلطة والمال نفوذهما على كثير من المثقفين، وحملة الشهادات العليا، والأكاديميين، وكيف يتم تحويل الرجال إلى أبواق بلا إرادة ولا موقف ولا ضمير.

عرفت خواء المثقف والإعلامي الذي يزيف الوعي، وينقاد وراء السياسي مثل حبل أو نعجة تجر للسلخ ولا تنطح. عرفت الكثير من المخصيين، وعرفتُ بالمؤكد دمامة السلطة التي تمارس الخصي والنذالة.

عرفتُ هشاشة المثقف الذي يبيع ضميره من أول عرض. الهشاشة التي تنهار من أول ضربة مطرقة تنزل على الرأس أو على الخصيتين. المثقف الذي بات تابعاً يدور في مدار صنمه وطِمطمه، فاقداً لضميره ووجوده. عرفت أتباعاً بلا عقل ولا مبدأ ولا قيم، ورجالاً بلا رجولة ولا فحولة ولا وجود.

وفي المقابل عرفت أيضاً أناساً أفذاذاً بقامة النخيل، وصمود الجبال الرواسي.. أحراراً ميامين يؤثرون التضحية على الاستسلام، والمقاومة على الخضوع، والشجاعة على الخوف. ضميرهم القلق واليقظ دوما لا يبيع ولا يساوم، وإن عرضوا لأصحابه مال الأرض، ونجوم السماء، ووعدوهم أيضاً بالدار الثانية، ولم يستطع جحيم الأرض أن يكرههم على الاستكانة والخضوع للطغاة والمستبدين وأرباب الحكم المُغتصب.

***

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى