مذكرات

(6) الصف الخامس في الجنوب.. أحمد سيف حاشد

مذكراتي .. من تفاصيل حياتي .. عام دراسي في الجنوب

(6)

الصف الخامس في الجنوب

أحمد سيف حاشد

 

في مدرسة “الوحدة” أتممت الصف الرابع، وفي مستهل الصف الخامس تركت مدرسة الوحدة في قريتي “شرار” الشمالية، وانتقلت للدراسة فيما كنّا نسميه الشطر الجنوبي من الوطن الحبيب، في مدرسة مفتوحة أبوابها للطلاب القادمين من المناطق المجاورة في الشمال.

 

كانت مدرسة “شعب” أفضل من مدرستنا بأضعاف، ومن كل النواحي تقريبا.. المشكلة كانت لدينا فقط في المسافة الطويلة بين قريتنا وهذه المدرسة..

 

كان عليّ أن أقطع كل يوم دراسي مسافة تصل إلى عشرة كيلو مترات في الذهاب ومثلها في الإياب.. يتوجب عليّ أن اقوم قبل الفجر، وأسافر كل يوم دراسي مشيا على الاقدام حتى أصل إلى المدرسة، وفي الإياب أيضا كان سفري مضني وجهيد.. مشقة يومية ثقيلة تأتي على حساب الاجتهاد والمثابرة والنتيجة العامة.. الانهاك اليومي كان يفتك بي، وينال ما قدر عليه من الجسد والروح والذاكرة..

 

كانت أظافر أصابع قدماي دائما ما تشكوا من ارتطامها بالحجارة كل غبش وصباح أسافر فيه.. ويتكرر الحال ظهرا عند الإياب.. أجر فيهما قدماي جرّا حينما يثقلها التعب المُنهك، أو يدركها الإرهاق الشديد..

 

في بعض الأحيان كان الارتطام بالحجارة يؤدي إلى أن يسيل الدم من مقدمة الأصابع وتحت الأظافر.. ينز في الصباح البارد من منابتها وحوافها.. وأحيانا أنكي الذي يحاول التماثل للشفاء، وأخرى تؤدي إلى خلع الأظافر بسبب قوة وكثرة الاصطدام بالحجارة.. أشعر بدوامة من العذاب والألم كل يوم أسافر فيه للدراسة، وأحيانا أتمرد ولا أصل إلى المدرسة، وأخرى أغادر فيها المدرسة قبل انتهاء الدوام بحصة أو حصتين..

 

كنتُ أشعر أن المسافة إلى المدرسة تطول، واستراحات الطريق ألتذ بها وأنا مرهق حد الإعياء.. أحس أن المشقة أكثر مما يحتملها جسدي المنهك وروحي المتعبة.. هذه المعاناة كانت تجعلني أشعر أن الأحجار هي من صارت تتربص بي، لا أنا من يصطدم بها.. كنت أتجنبها قدر المستطاع، وكانت هي تنال مني ما تستطيع، وتخلِّف لي كثيرا من الألم والوجع.. لازالت أظافر الاصبعين الكبيرتين في القدمين مشوهة إلى اليوم بسبب كثرة ارتطامها بالحجارة..

أتمرد بعض الأيام على المدرسة، فلا أصل إليها.. وبعض الأحيان يبدي أحد أقراني بمقترح ما نسميه “الهفسنة” أو “نهفسن” ونعني به عدم الذهاب إلى المدرسة، ثم نؤيده، ولم نصل إلي المدرسة.. كنّا نصل إلى رأس شعب، وبعض الأيام إلى العيادة الصحية في منطقة شعب، ثم نعود على مهل حتى ينقضي الوقت، ونعود إلى أهلنا في الوقت المعتاد لعودتنا، وفي أيام قليلة كنّا لا نتعدى “طرف الصحبي” ولكن نفعل هذا باختباء وحذر خشية من انكشاف أمرنا لأهلنا..

أحيانا نشتري سجائر “مارب” و”سبأ” و”يمن” من دكان محمد سيف الكائن قرب سوق الخميس،.. تلك السجائر كانت رخيصة ورديئة في نفس الوقت، ثم نتخذ محطات بعيدة في الطريق الطويل، ونشرب السجائر خفية.. كنا “نمورب” ونتمرد على الأهل والمدرسة، أو نمارس بعض التجريب و”الصياعة” سرا عن أهلنا وذوينا..

مادة الإنجليزي كانت دوما هي المادة الأخيرة في جدول الحصص الأسبوعية.. المدرس الذي يقوم بتدريسها كان طيباً للغاية، وفي نفس الوقت مُجيدا لمادته، ومتمكنا من تدريسها، ولكن ابتعاد المدرسة عن بيوتنا كان سبباً يحملنا في معظم الأحيان على العودة دون حضور الحصة الأخيرة، وهي حصة الانجليزي..

الانهاك اليومي المصحوب ببعض تسيب وتمرد أدَّى إلى فشلي بثلاث مواد دراسية نهاية العام، كان في صدارتها بالطبع مادة اللغة الإنجليزية.. كان مثل هذا الفشل غير مسبوق في دراستي السابقة؛ ولأن الفشل بثلاث مواد أو أقل منها يمنح النظام المدرسي للطالب فرصة إعادة امتحانها، تم إعادتي لامتحانات تلك المواد في الفرصة المتاحة نهاية العام، وتمكنت من النجاح بصعوبة، وما كنت لأنجح لولا الرجل الطيب الحاج محمود وهو من أبناء شعب الأوسط..

 

كان في منطقة شعب أصدقاء لوالدي هم الحاج محمود حسن وإخوانه علي حسن وصالح حسن.. ثلاثة إخوان يعيشون في منزل واحد، ومعهم أكثر من ثلاثين نسمة.. كانوا مثال للأخوة والطيبة والمودة وسعة الصدر وطول البال.. كانوا في منتهى الانسجام والتسامح، وقلوبهم أبيض من بياض السحاب..

 

كنت أدرس مع بعض أبنائهم في نفس المدرسة.. أذكر أنني قضيت مقيما لديهم شهر أو شهرين بعد إلحاح شديد من قبل الإخوان الثلاثة على والدي بأن أقيم لديهم وأجتاز الامتحان نهاية العام وربما فعلوا نفس الشيء معي في امتحانات الإعادة.. كانوا يشفقون علىّ من تعب أعيشه كل يوم.. لطالما استنزفت روحي مسافة الذهاب والإياب.. لولا الحاج محمود وإخوانه لما تجاوزت ذلك العام الدراسي بنجاح..

 

يا الله كم هؤلاء الناس طيبين.. بعد أن قُتل أخي علي وتشرد والدي، أقام الوالد عندهم سنوات في دكانهم الذي كان يحاذي الطريق.. احتضنوه خلالها دون أن يجرحوه يوما أو يتململوا من ضيف أطال الإقامة، بل كانوا يفيضون طبية ومودة تكفي لأن تملى هذه الدنيا وتزيد.. ما أطيبهم يا الله.. لقد صنعوا لنا من الجميل والمعروف ما ندان لهم كل العمر أبناء وأحفاد..

 

***

يتبع..

الصورة للحاج محمود من منطقة “شعب” في الجنوب والذي أقمنا لديه مرتين..

 

وقع يمنات الاخباري

موقع برلماني يمني

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر

صفحة احمد سيف حاشد على تويتر 2

حساب احمد سيف حاشد على الفيسبوك

صفحة احمد سيف حاشد على الفيسبوك

قناة احمد سيف حاشد على التليجرام

مجموعة احمد سيف حاشد على التليجرام

“Yemenat” news site

MP Ahmed Seif Hashed’s websit

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Twitter”

Ahmed Seif Hashed “Facebook”

Ahmed Seif Hashed’s Facebook page

Ahmed Seif Hashed

Ahmed Seif Hashed channel on telegram

Ahmed Seif Hashed group on telegram

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رحلة التعليم والشقاء رحلة ممتعة وجميلة جداً ومؤثر …

زر الذهاب إلى الأعلى