مذكرات
(4) حرمان وممنوعات ! أحمد سيف حاشد
مذكراتي.. من تفاصيل حياتي قسوة.. طفولة بطعم التمرد.. أحمد سيف حاشد
(4)
حرمان وممنوعات !
أحمد سيف حاشد
كانت الحسرة تطويني كما يطوي الثعبان فريسته.. المنع يكشر أنيابه في وجه طفولتي المتعبة.. الواقع يتجهم في مواجهة عالمي الصغير المستباح حقوقه في أن ألعب وألهو وأفرح كغيري من الاطفال.. تبتلع الحسرة وجودي كلما أشعرني الوجود إن الحياة لا يزال فيها ما يسر، أو تخبرنا الحياة أنها تستحق أن نعيشها.. يحوطني كثير من الحزن ويثقلني كثير من الألم..
كنت أرى أقراني الأطفال يلهون ويلعبون ويعيشون حياة طبيعية لطالما تمنيتها، فيما أنا الممنوع من أي لعب ولهو إلا بالحد القليل المسور بالمنع والوقت الذي يظلم صاحبه، مقموع بالأوامر وبسلطة تشبه القدر الذي لا رد له..
كان أقراني بعد المطر أو في الأيام التي تليه يذهبون للسباحة فيما يسمى “القلت” في “معينة شرار” فيما أنا الممنوع أن أذهب إليه بأمر لا يقبل الجدل ولا النقاش.. ربما استطعت أن أرتاده مرتين بما يشبه المعجزة، وكدت أن أغرق، وشربت منه ماء وطحلب.. ضربوني على الصلاة ولم يعلموني السباحة.. مفارقة عشتها في طفولة مكرسة بالمنع والحرمان..
أقراني يذهبون إلى حفلات الزفاف.. يرقصون على الطبل والغناء والمزمار الشجي.. الأطفال ينتشون ويستمتعون فيما أنا أسمع بحسرة من بعيد دق الطبول وغناء الغانيات، وكم تمنيت أن أكون فنانا أو راقصا أو نافخ مزمار..
أمنيات حضوري حفلات الزفاف مصلوبة بالمنع والمحاذير.. أنا الممنوع من الذهاب إلى حفلات الزفاف إلإ بقدر نادر وقليل في زواج قريب أحضره وأنا مثقلا بحيائي الكبير.. لطالما شعرت بحرماني من اللهو والفرح وسعادة أحتجتها وبخلت الأيام أن تعطني منها إلا أقل من القليل..
حتى حضور زفاف القريب لم تخلوا من تنغيص وتكدير.. أذكر حضوري الزفاف الأول لإبن عمي عبده فريد عندما فضحني أحدهم وكان قليل الحياء وسليط اللسان وكشف أمري أمام الحضور أنني لا أذهب إلى المدرسة بل أذهب إلى أسفل “موجران” أمورب؛ ويقصد نشرب سجائر “مارب” الرخيصة ثم نعود وكأننا عدنا من المدرسة، فيما نحن لا نصل إليها.. كنّا نسمي ما نفعله يومها أنا وزملائي بـ “الهفسنة”.. وعندما علم أبي بالأمر طالني ضرب وعقاب.
أقراني يلعبون ألعاب الكرة من القدم إلى “البصيعية” وألعاب أخرى مثل “الأمان والحبس” و”الدويس” و”الغماية” وغيرها من الألعاب الرائجة في أيامنا تلك، فيما أنا يتم التضييق عليّ وتبدو مساحة حريتي في اللعب بمساحة زنزانة صغيرة أحاول التنفس من كوة صغيرة فيها..
كنت استغل أي غفلة لأبي، لأفلت من رقابته، وأشرد عنه، وأنغمس في اللعب حتى الاذنين، ولكنه كان انغماسا لا يطول، ولم تكن غفلة أبي إلا قصيرة، وكانت فسحتي فيها كالحلم الجميل، ولكنها تُقطع بصاعقة تشبه صوت أبي.. كان أبي سرعان ما يفتقدني، ويصرخ في مناداتي، فما أن أعود إليه، حتى يطالني بعقاب كامل ودفعة واحدة، لا تقسيط فيه ولا تأخير، عقابا على تمردي القليل عن طاعته، والشارد عن سلطته وولايته..
كنت استغل أحيانا ذهاب أبي إلى السوق، أو إلى أي وجهة أخرى بعيدة، وألهو وألعب دون أن أتعب أو أمِل، فيما كانت جدتي الطيبة أم أبي المصابة باعتلال في رجليها، حبيسة بيتها رأس الجبل، ومفرجها المطل على الوادي، وما أن ترى أبي في أول الوادي عائدا إلى بيتنا، حتى تناديني وتبلغني بشفرة اسمي؛ وهذا يكفي أن أعود مهرولا إلى بيتنا، وأبدوا في هيئة الطفل الذي ينفذ أوامر والده في عدم الخروج واللعب في غيابه..
هكذا كانت الأوامر الخانقة تدفعني إلى الكذب والتخفي والتمرد عليها في حدود ما هو ممكن ومتاح؛ فإذا انكشف أمري لأي سبب كان، تحملتُ قسوة النتائج بصبر ومجالدة، وربما يدفعني هذا إلى تمرد آخر يختلف، لأعبّر فيه أمام نفسي رفضي للاستكانة والتسليم لسلطة أبوية بدت لي طاغية..
كنت أغبط أقراني الأطفال، وأنا أرى آبائهم يتعاملون معهم كأنهم كبار مثلهم، ويفيضون عليهم بالمحبة، فيما كنت أنا أمضغ جروحي، وأختنق بالعبر، وأُذبح بغصص كالسكاكين.
كنت أسأل ربي: لماذا لا يكون أبي مثل هؤلاء؟! لماذا لم يخلقنِ هذا الرب في مكان آخر من الكون، وفي الكون متسع غير بيت أبي؟ المهم هو أن تكون أمي معي، فلا قدرة لي على فراقها..
كنت أسأل نفسي: لماذا أبي يعاملني بهذه القسوة، فيما الآباء الآخرون يعاملون أطفالهم بكل رفق ورق ولين، بل وتقدير وعلو شأن أيضا، وكأنهم كبار في عمر آباؤهم !
كان أبي يعاملني إعمالاً بالمثل القاسي: “اضرب ابنك وأحسن أدبه، ما يموت إلا من وفي أجله” وكانت الفكرة لدى أبي في التربية بما مضمونه “الضرب يشحط” ويجعل الرجال أفذاذا.. كان أبي يعتقد أنها تربية مجربة، وقد أتت أُكلها من قبل، وبما رام وأرتجى..
أنا وأبي – ربما – كل منا كان يقرأ الأمور بطريقته، وكل منّا يرى الحق معه.. ورغم تمردي لم أفكر يوما أن أسجل بطولة عليه، بل ربما التمس له العذر أيضا.. إن الواقع مر، والاستلاب فاحش، والتنشئة مشوَّهة، والوعي معطوب.. واقع يولّد قدراً كبيراً من القسوة والعنف والاستلاب.
ربما من أسباب التضييق على حياتي من قبل أبي، ترجع في بعضها إلى مخاوف وبعضها كونه يعيش زحمة مشاغل وتوتر ومسؤوليات تفوق طاقته وطاقة أمي.. كانت المشقات والمسؤوليات كثار.. دكان، وبيع وشراء على مدار النهار وحتى مدخل الليل بحين، ورعاية أخواني الصغار تحتاج أيضا لكثير من الاهتمام، وصناعة الحلاوة وبيعها، وفلاحة الأرض، وتعدد الأعمال بها بحسب المواسم، من الذري إلى الحصاد، وكذا لا أنسي أنه صار لنا بقرة وحمار وثور وأغنام، ومسؤوليات وتفاصيل كثيرة، تثقل كاهل أبي وأمي المتعبين..
كانا يغرقان في العمل كثيرا، ومن الفجر حتى الساعة التاسعة ليلا وبعدها أحيانا.. كنت أعلم أنهم مثقلين بالكثير من المهام وتفاصيل الحياة اليومية تلك، وكنت أجد نفسي معهما في تحمل بعض تلك المسؤولية، وكانت فسحتي قليلة، واللعب مع أقراني قليل، أو غير متاح، وأحايين كثيرة أجد فرمانا عثمانيا من بابه العالي فعالا يقول “ممنوع اللعب” فيكون مني الالتزام، ويكون مني التمرد أيضا، مهما كانت كلفته..
ورغم كل شيء، كنت أحب أبي، وأجزع إن مرض، أو هدده الموت بسبب.. هو أيضا كان يحبني، وربما يرى ما يفعله هو لصالحي وبدافع الحب والمخاوف أيضا.. وربما خرج كلانا في ذروة الغضب قليلا عن هذا وذاك..
كنت أشعر إن موت أبي سيثقل كاهلي بمسؤولية أثقل من جبل، وأنا لازلت صغيرا لا أقوى على حمله، ولا حتى على المحاولة، فأنا في سن لا أستطيع أن أحمل مسؤولية نفسي، فما بال بمسؤولية أمي وأخوتي.. كنت أرى الأيتام وما يتجرعوه من معاناة وحرمان وعذاب، وأدعو الله أن يطيل عمر أبي، رغم الشدة والحرمان، ورغم كل ما يفعله أبي من ضرب وقمع وحصار.
***